ارشيف من :أخبار لبنانية

تطرف الاسرائيليين

تطرف الاسرائيليين
صالح النعامي(*)
تدل استطلاعات الرأي العام في "إسرائيل" بشكل متواتر على أن المجتمع الإسرائيلي يندفع بثبات نحو التطرف السياسي وتبني المواقف اليمينية في الصراع مع العرب والفلسطينيين تحديداً، بحيث أنه لم يعد من المنطقي الافتراض أن تحالف يسار الوسط ويمين الوسط يمكن أن يعود لحكم إسرائيل.
ومن أسف فإن معظم الأدبيات العربية التي حاولت سبر أغوار المجتمع الإسرائيلي وتوجهاته نحو الصراع فسرت التحول نحو اليمين بالدوافع الأيديولوجية السياسية وتجاهلت العوامل الاقتصادية والاجتماعية الإثنية والثقافية والديموغرافية التي كان لها الدور الأكبر في دفع الإسرائيليين نحو تبني مواقف يمينية متطرفة من الصراع.
تبعات الخصخصة
لقد أدت الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تعرضت لها إسرائيل منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي وتواصلت بدرجات متفاوتة حتى الآن، علاوة على انتهاج الخصخصة والانتقال لاقتصاديات السوق التي تبنتها حكومات الليكود إلى المس بسياسة الرفاه الاجتماعي التي طبقتها "إسرائيل" وحرصت من خلالها على مساعدة الطبقات الضعيفة في المجتمع الإسرائيلي، وأصبحت هذه المساعدات بحد ذاتها قوة جذب لليهود الذين يقطنون في مناطق تعاني من أزمات اقتصادية في أرجاء العالم.
فقد حرصت "إسرائيل" على منح الطبقات الفقيرة الكثير من مخصصات الضمان الاجتماعي، مثل مخصصات البطالة والأولاد والشيخوخة والتقاعد، وغيرها من مخصصات. ومنذ أواسط الثمانينيات وحتى الآن تم بشكل متدرج تقليص هذه المخصصات في إطار سياسات التقشف التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية لتجاوز الأزمات الاقتصادية، لكن هذه التقليصات تزامنت مع حرص الحكومات الإسرائيلية وتحديداً حكومات اليمين على مد المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية والقدس بالكثير من المزايا الاقتصادية، فتم منح المستوطنين تسهيلات كبيرة في مجال السكن والتعليم والصحة، علاوة على الاستثمار في مجال البنى التحتية، فأصبحت المستوطنات تمثل "جنة عدن" بالنسبة للفقراء والمعوزين من الإسرائيليين، وهذا ما يفسر زيادة عدد الإسرائيليين الذين ينتقلون للعيش أو العمل في هذه المستوطنات.
ومما لا شك فيه أن الذين ينتقلون للإقامة في المستوطنات بحثاً عن ظروف حياة اقتصادية أفضل سيتبنون بشكل تلقائي وجهة النظر اليمينية التي ترفض الانسحاب من الضفة الغربية والقدس وتفكيك المستوطنات، وهؤلاء لن يزيدوا فقط من القوة الانتخابية لليمين الديني والعلماني، بل إنهم يصبحون أكثر تصميماً في جهودهم لإحباط أي تسوية سياسية للصراع يمكن أن تهدد الإنجازات التي حققوها على صعيد تحسين ظروف الحياة.
من هنا نجد أن أكثر الفئات التي تركت إسرائيل وانتقلت للعيش في المستوطنات هي التي تقطن ما يعرف بـ"مدن التطوير"، المقامة في الأطراف الشمالية والجنوبية من إسرائيل، حيث أن هذه المدن هي الأكثر فقراً في "إسرائيل"، وسكانها معظمهم من الشرقيين. وإن كانت الجماعات الدينية المتزمتة من أتباع التيار الحريدي ظلت حتى أواخر التسعينيات لا تبدي حماساً شديداً للانتقال للعيش في مستوطنات الضفة، بخلاف أتباع التيار الديني الصهيوني، فإنه منذ مطلع القرن الحالي بدا واضحاً أن المزيد من أتباع التيار الديني الحريدي يبدون حماساً غير مسبوق للانتقال للعيش في المستوطنات.
من هنا فليس من المستغرب أن تكون أربع من أصل ست مستوطنات تحولت إلى مدن في الضفة الغربية هي مستوطنات يقطنها المتدينون الحريديم، وهي: عموانئيل، وكريات سيفر، ومعاليم إفرايم وبيتار عليت.
ومما لا شك فيه أن هذا الواقع ألغى عملياً الحدود الفاصلة بين الضفة الغربية و"إسرائيل" في نظر الكثير من القطاعات السكانية في إسرائيل وتحديداً الفئات الضعيفة. ومما فاقم من التوجهات نحو اليمين في أوساط الفقراء والمعوزين هو عدم وجود يسار حقيقي يتبنى القضايا الاجتماعية.
فبخلاف جميع دول العالم، فإن مصطلحي "اليسار" و"اليمين" يتعلقان بشكل خاص بالموقع من الصراع مع العرب، ولا علاقة لهما بالقضايا الاجتماعية، على اعتبار أن المخاطر الأمنية التي تتعرض لها "إسرائيل" قلصت من فرص ظهور حركات احتجاج على خلفية اجتماعية، لذا فإننا نجد أن جميع الحركات الاجتماعية التي انطلقت من أوساط الشرقيين احتجاجاً على الغبن واللامساواة في توزيع الموارد قد فشلت، حيث نظر إلى قادة هذه الحركات في إسرائيل على أنهم "طابور خامس" يريد إلهاء إسرائيل في الوقت الذي تتعرض فيه لمخاطر وجودية.
تضاؤل المخاطر الأمنية
ومما لا شك فيه أن الذي ساعد على ثبات هذا الميل لدى قطاعات متزايدة من الإسرائيليين هو تحسن الظروف الأمنية في الضفة الغربية بسبب التعاون الأمني غير المسبوق بين أجهزة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وسلام فياض وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وهو ما بات يقر به حتى أكثر فئات المستوطنين تطرفاَ. ففي المؤتمر الذي نظمه "مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات" وشارك فيه سلام فياض إلى جانب وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك، فاجأ الأخير الحضور عندما قال إن قادة المستوطنين باتوا يقرون بدور أجهزة حكومة فياض في تحسين البيئة الأمنية في المستوطنات ومحيطها.
من هنا ليس من المستهجن أن يطلب الجيش الإسرائيلي مؤخراً أن تقوم أجهزة فياض الأمنية بتسيير دوريات في محيط مستوطنات الضفة الغربية لتقليص فرص قيام المقاومة الفلسطينية باستهدافها. لذا فعندما تجتمع الظروف الاقتصادية الجيدة والبيئة الأمنية المناسبة فإن هذا يدلل بالنسبة لكثير من الإسرائيليين على صدقية الخطاب الذي يتبناه اليمين الإسرائيلي، ولا سيما أن تعاون سلطة رام الله الأمني مع سلطات الاحتلال يأتي في ظل تنكر حكومة نتنياهو لأدنى متطلبات التسوية السياسية. ومن الواضح أن بقاء الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية على حالها ومواصلة السلطة تعاونها الأمني مع "إسرائيل" لن يقنع فقط اليهود الذين انتقلوا للعيش في المستوطنات بأن قرارهم كان صائباً، بل إنه سيقنع المزيد من القطاعات السكانية في إسرائيل بالانتقال للعيش هناك للاستفادة من ظروف الحياة الجيدة.
اقتصاديات الاحتلال
لقد ضمن بقاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وحالة الحرب المتواصلة ازدهار الصناعات العسكرية الإسرائيلية التي تشغل عشرات الآلاف من الفنيين والخبراء والموظفين، فمتطلبات الأمن الناجمة عن بقاء الاحتلال وحالة الحرب أدى إلى دفع مجمعات الصناعات العسكرية الإسرائيلية إلى التوسع في الإنتاج العسكري والأمني وتطويره كماً ونوعاً، مع كل ما يرتبط بذلك من توظيف طاقات بشرية كبيرة، فمئات الآلاف من الإسرائيليين يدينون للاحتلال في حصولهم على عمل في ظروف ممتازة، فحوالي مائة ألف إسرائيلي يعملون في الصناعات العسكرية، ويختار عشرات الآلاف من الإسرائيليين مواصلة الخدمة النظامية في الجيش والأجهزة الاستخبارية والحصول على رواتب مغرية، وحتى عندما يتقاعد هؤلاء فإن نوافذ الفرص تفتح أمامهم، حيث يتنافس القطاع الخاص على استقطابهم. من هنا فإن التوصل لتسوية سياسية للصراع سيؤثر تأثيراً سلبياً على الواقع المهني لهؤلاء وأسرهم.
تحولات ديموغرافية
ولا خلاف على أن تعاظم مظاهر الإنزياح نحو اليمين يأتي بسبب الأثر التراكمي للتحولات الديموغرافية التي حدثت في "إسرائيل" خلال العقدين الماضيين. ويمكن القول إن حوالي 85% من الإسرائيليين ينقسمون إلى ثلاث تكتلات ديموغرافية رئيسة متداخلة تعتبر ذخراً تقليدياً لليمين، وهي: المتدينون الذين يشكلون حوالي 25% من اليهود في "إسرائيل"، والشرقيون الذين يشكلون 39%، والمهاجرون الروس الذين يشكلون 20%.
ومن خلال نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة تبين أن حوالي 95% من المتدينين يصوتون لليمين الديني والعلماني، في حين صوت حوالي 80% من الشرقيين للأحزاب الدينية واليمينية، وصوت أكثر من 85% من المهاجرين الروس لصالح الأحزاب اليمينية، وتحديداً لحزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان وحزب الليكود. وإن كان المرء يمكن أن يتفهم التوجهات المتطرفة للمتدينين على اعتبار أنهم منفتحتون على مصادر التفكير اليهودي التقليدية التي تدعو للتطرف، فإنه يمكن تفسير التوجهات اليمينية للشرقيين بتجذر الشعور بالدونية بسبب استشراء النظرة الاستشراقية في الثقافة الإسرائيلية التي تحط من قيمة كل ما هو شرقي مما دفع هؤلاء لتبني المواقف اليمينية من الصراع كدليل على تميزهم عن "الآخر" العربي، بالطبع إلى جانب تداعيات الخصخصة التي سبق الإشارة إليها.
وأسهمت عملية إعادة بلورة النخب الثقافية في "إسرائيل" والتي سعى اليمين من خلالها إلى كسر طابع "اليسار" الذي اتسمت به النخب الثقافية في الكيان الصهيوني وذلك عبر الدفع نحو تبوؤ مثقفين من اليمين مواقع مهمة في المؤسسات الثقافية والإعلامية.
وقد اتضح تأثير هذه العملية بشكل واضح في أوساط المهاجرين الروس بشكل كبير بسبب الطابع الخاص لهذا التجمع الإثني الذي يعد الأكبر في "إسرائيل". فقد حرص رجال أعمال ومستثمرون من اليمين ذوو أجندة سياسية على إطلاق عدد كبير من قنوات التلفزة ومحطات إذاعة وصحف ومواقع على شبكة الإنترنت باللغة الروسية، وحرصوا على وضعها تحت إشراف نخب ثقاقية ذات توجهات يمينية مما مكنها من التحكم في طابع الرسائل الموجهة للمتلقي الروسي، والذي زاد من تأثير هذه العملية حقيقة أن معظم المهاجرين الروس لا يجيد اللغة العبرية، وبالتالي لم يجد هؤلاء إلا الإعلام واللغة الروسية ليؤثر في تشكيل وعيهم السياسي، وهذا ما يفسر الجهود التي بذلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اقناع المزيد من رجال الأعمال اليهود ذوي التوجهات اليمينية من داخل إسرائيل وخارجها للاستثمار في مجال الإعلام الموجه باللغة الروسية.
تأثيرات العولمة
لقد تعرضت "إسرائيل" لتأثيرات العولمة بتجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما تعرضت لها الكثير من الدول في العالم، حيث كان لها دور بارز في تعاظم دور الحركات الدينية التي رأت في العولمة وإسقاطاتها الثقافية تحديداً تهديداً للتراث الديني والهوية الثقافية اليهودية، وكانت النتيجة أن أدى هذا التطور إلى تفجر الدعوات المستندة للثراث الديني للمحافظة على الهوية اليهودية، وهو ما أضاف المزيد من الوقود في ماكينة الأحزاب والحركات الدينية في إسرائيل وأدى إلى تعاظم تأثيرها، وانتقالها للهجوم.
وقد يكون من أهم مظاهر ردة فعل الحركات الدينية على العولمة، سعيها لدفع أكبر عدد من اليهود العلمانيين للتدين والتعلق بأهداب الشريعة اليهودية، حيث تم توظيف الحاخامات في دعوة العلمانيين للدين، حيث انتشر هؤلاء الحاخامات في ميادين المدن والمقاهي وأماكن العمل لدعوة العلمانيين وتحديداً الشباب للتدين والتوبة، أو ما يطلق عليه بالعبرية "حزرا بتشوفا". وقد تخصص عدد من الحاخامات في دعوة العلمانيين للدين، ومن أبرز هؤلاء الحاخام إلياهو باز، الذي حقق نجاحات هائلة في هذا الجانب، حيث اقنع الآلاف من الشباب العلماني الشرقي للتحول للتدين. ومن نافلة القول إن تحول العلمانيين نحو التدين اقترن بتحولهم نحو اليمين من ناحية سياسية.
ما تقدم يدلل على أن هناك ماكينزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية وديموغرافية تدفع الإسرائيليين نحو التطرف واليمين وأن الأمر غير متعلق بالمرونة التي يبديها المفاوض الفلسطيني والعرب، وهذا يفضح ضحالة وهشاشة الحجة التي يتمسك بها معسكر "الاعتلال" العربي ونخبه والقائلة إنه يتوجب مساعدة "معسكر السلام" الإسرائيلي عبر مزيد من الانفتاح والتطبيع وإبداء المرونة السياسية.
تطرف الإسرائيليين يا هؤلاء عملية أكثر عمقاً وأشد تعقيداً، بحيث أن مظاهر العجز التي يستحثها "المعتدلون" العرب لن تزيد الصهاينة إلا تعصباً وجنوناً.
(*) المصدر: موقع الجزيرة / تحليلات
2010-07-14