ارشيف من :آراء وتحليلات
في دويسبورغ ....آلة عمياء تدهس نفسها حتى الموت!
عقيل الشيخ حسين
في أوديسا الفضاء، ذلك الفيلم السينمائي الشهير الذي طرح منذ الستينات عدداً من إشكاليات بؤس الإنسان الناجم عن شدة
إيغاله في الحداثة، يكون الخلاص في بدايات التاريخ، رهناً بمدى قرب الناس من بعضهم البعض إلى المستوى الذي
يتلاصقون فيه بأجسادهم كما ولو أنهم يقصدون، عن وعي أو عن غير وعي، تشكيل كتلة متراصة واحدة، أو جسماً
متماسكاً واحداً.
لكن اقتران النظر في البدايات بتصورات حداثية تبخس الماضي وتشتم العصر الحجري والقرون الوسطى وما يسمى
بالتخلف، وتزدري أنماط التجمع البشري الموصوفة بالبدائية، يقود علوم الاجتماع التي ترفع كغيرها من العلوم الأخرى
راية العقلنة، يقودها إلى عقلنة التجمع البشري عبر مأسسة حيز مقدس خاص بكل فرد، وهو حيز تفصله مسافة شخصية
مقدسة بدورها وضرورية من أجل سيادة الإنسان على حيزه الخاص.
وفي داخل هذا الحيز، وعلى صهوة الآلة المتعملقة بالسيبرنتيك، يقيم الإنسان مملكته الفردية مقتصراً على اجتماع يقوم،
لجهة العلاقات، على أقران ورفاق وشركاء جلهم، وفي أحيان كثيرة، كلهم، من الآلات والأجهزة.
علاقات لا تلبث، بعد الازدراء بما تتوافر عليه من مزايا طاردة للآخر البشري بما هو مصدر للإزعاج أو عنصر متعدّ
على الحيز الخاص كابح للحرية، أن تفضي إلى وضع تستفرد فيه الآلات والأجهزة بالفرد، وتقذفه مطروداً دون رحمة
إلى عالم الضياع الكلي في الفضاء الطبيعي الفسيح.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه البعض بحسرة عن موت المجتمع، ينبري البعض الآخر إلى القول، من باب تقديس التغير
والتجدد والإبداع، بأن مجتمعات بديلة تنمو على أنقاض المجتمع الفاني. فالأشخاص الذين تفصل بينهم آلاف الكيلومترات
يشكلون مجتمعاً واحداً عندما يجلس كل منهم أمام شاشته ويشاهد نشرة الأخبار أو مباراة الكرة أو هذا الاستعراض أو ذاك
المسلسل.
وكذا القول عمن يتواصلون مباشرة، عبر وسائل الاتصال الحديثة المتكاثرة، برغم المسافات الشاسعة، وخصوصاً دون أن
يتخلى كل منهم عن سيادته المطلقة على حيزه الخاص، أو عن حريته المطلقة التي لا يعكر صفوها وجود الآخر.
لكن، وهنا يدك الإفلاس أبواب القائلين بعظمة التغيرات المذكورة وأشباهها: ما الذي يفسر هذا الهوس البشري المحموم
بالتجمهر والاحتشاد بمئات الألوف وبالملايين برغم قداسة الحيز الفردي والمسافة الشخصية؟
قد يقول عالم النفس عن حق بأن ذلك تعبير عن الهروب الجماعي، الواعي أو غير الواعي، من الوحدة والعزلة، من
الذات المختنقة بين جدران ذاتها، أو من الذات المنزعجة حتى الاكتئاب من ذاتها.
لكن هذا الهروب يظل مَرَضياً ما دام أن الكتلة البشرية المحتشدة تظل مكونة من أفراد لا تعارف بينهم ولا نمط اجتماع
يجمعهم غير انشداد ذواتهم المتذرذرة نحو قطب واحد هو الكرة المتدحرجة أمام أنظارهم أو موسيقى التكنو التي توحدهم
عبر آذانهم.
توحدهم فقط خلال الفترة المحددة للبرنامج. لأن كلاً منهم يعود بعد انتهاء البرنامج إلى الاجتماع الإجباري، برغم طوفان
الحرية، برفاقه وأقرانه وشركائه من الآلات والأجهزة.
في بداية عصر النهضة، ويوم كان "دون كيشوت" يستمد من ضعفه وهزاله قوة يائسة للدفاع عن قيم المروءة والشهامة
المنهارة تحت ضربات الآلة التي كانت قد بدأت تضرب بأذرعتها عميقاً في كبد السماء، كان كهنة التقدم في الغرب
يمطون شفاههم ازدراءً لملاكي العبيد البشريين في الشرق المتفوق "حضارياً" حتى تلك اللحظة.
وإلى الازدراء، لم يلبثوا أن أضافوا الازدهاء بـ "العبيد الميكانيكيين" الذين استولدوهم من بين صلب وترائب عبقريتهم
التجريبية. على أساس أن تسخير العبيد الميكانيكيين إنساني إلى أبعد حدود الإنسانية بينما تسخير العبيد البشريين وحشي
وهمجي إلى أبعد حدود الهمجية.
وعلى إيقاعات التحرر والإصلاح والتنوير والصناعة وما بعد الحداثة وثورة الاتصالات... لم يلبث السيد المتوحد المهيمن
على أقرانه ورفاقه وشركائه ـ من مخلوقات السيبرنتيك ـ أن صار عبداً لمخلوقاته تلك.
لكنه عبد يمارس حريته الواسعة في العالم الافتراضي، ويعيش سعادة شبيهة بسعادة تلك المرأة التي قالت يوماً بالفم
الملآن، من على أحد منابر الإعلام، بأن ألعاب الفيديو جعلتها تعبر تجربة الطلاق من زوجها بمنتهى اليسر.
لكن سيد العالم الافتراضي أوتي القدرة ـ على علم عنده ـ على تعميق حفرة العبودية لعباده عبر إيهامهم بأنهم يحلّقون
بين أسداف سرادقات الحرية العليا: بدلاً من أن يقذفهم مطرودين إلى عالم الضياع الكلي في الفضاء الطبيعي الفسيح،
صار يمن عليهم بفسحة يوهمهم فيها بأنهم رواد العالم الاجتماعي الفسيح.
وفي هذا العالم يحتشدون بالملايين، ويقفزون بهدف الاحتشاد فوق الجدران والحواجز، ويتلاصقون إلى الحد الذي يضيق
معه الحيز إلى المستوى الذي تستحيل معه الحركة الفردية الضرورية للرقص المنشود.
ما جرى في دويسبورغ في ألمانيا حيث احتشد مليون ونصف مليون إنسان، وشكلوا كتلة بشرية واحدة لتمجيد الحب
المفقود في ظروف الاختلاء الإجباري بالأقران والرفاق والشركاء الآليين، يجري بألف شكل وشكل في أربع أقطار
المعمورة، حيث الهوس المحموم بالاحتشاد المَرَضي، رداً على الاختناق اليومي للذات، ويحوّل الكتلة البشرية المتراصة
والفاقدة للقدرة على التحكم بحركتها، يحوّلها إلى آلة عمياء تدهس نفسها بنفسها حتى الموت.