ارشيف من :ترجمات ودراسات

علاقة السياسي بالعسكري وأثرها على صناعة القرار الإسرائيلي

علاقة السياسي بالعسكري وأثرها على صناعة القرار الإسرائيلي

إعداد: عدنان أبو عامر، باحث فلسطيني مختص بالشؤون الإسرائيلية(*)

"إلى قائد جيش الدفاع الإسرائيلي: الدولة هي أنت، فأنت تحدد مستواها، وطابعها في الحاضر ولأجيال قادمة".
(من إهداء رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال "رفائيل إيتان" في مقدمة كتابه: "الحلم وتحقيقه... قيادة وعمل لأجل الصهيونية"، الذي أصدرته وزارة الدفاع الإسرائيلية سنة 1979).
لقد تجسدت مقولة إيتان منذ الأيام الأولى لقيام إسرائيل، فلم يعد المستوى العسكري، ممثلاً بالجيش وأجهزة الأمن، ينفذ سياسةً ترسمها وتقرها الجهات السياسية فحسب، بل بات يتمتع بمكانة خاصة، تنبثق من أهمية قضية الأمن بالنسبة لإسرائيل، التي أفرزت مع الأيام نظرية لها مشروعية خاصة بنظر صانع القرار الإسرائيلي ومفادها أن "الدولة تواجه تهديدًا وجوديًا".
الانقلاب الصامت
"الانقلاب الصامت" هذا هو الوصف الذي أطلقه الصحفي المتخصص في الشؤون العسكرية "عوفر شيلح"[1]  على دور الجيش الإسرائيلي في الدولة، ليبين مدى هيمنة الجيش على القرارات الكبرى المتعلقة "بالدولة". وفي هذا الصدد، يقول المحللون والباحثون والسياسيون في إسرائيل، لقد استقر في العقلية أن رؤساء الجيش ليسوا قادة حكم يتمّ انتخابهم، بل هم الأمناء الحقيقيون على الأمن القومي، وبالتالي أصبح مفهومًا لماذا يُدلي رئيس الأركان بتصريح يعبر فيه عن موقفه من خريطة الطريق، التي هي وثيقة سياسية خالصة.
في ضوء هذه العقلية، يصبح مفهومًا أنه في حال التوصل لاتفاق سلام مع سوريا أو الفلسطينيين، ستنظر الجهات العسكرية بعين "القاضي" الممحص  لهذا الاتفاق، وهي التي ستقرر في نهاية المطاف ما إذا كان الاتفاق مجديًا لأمن إسرائيل أم لا.ويقول "موشيه أرنس" الذي عُيِّن وزيرًا للدفاع ثلاث مرات، إن الجيش يتخذ قرارات فقط في حالات تهرب الساسة من المسؤولية، بحيث شهدت السنوات الماضية ارتفاعًا لـ"منسوب" العسكر في السياسة، وبالتالي لا عجب أن يكون معظم أصحاب القرار من قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وأن يكون حضورهم في الإعلام مكثفا جدًا، وأن تهيمن وجهة النظر الأمنية على السجال السياسي [2]
أكثر من ذلك، فقد تجلى دور الجنرالات في ترسيم حدود السياسة، لاسيما وأن المنظومتين العسكرية والسياسية كانتا على الدوام متشابكتين، وعليه يبدو مفهوما هنا، أن من يقرّ الإستراتيجيات وسُلّم الأولويات ذات الصلة بما يعرف  بالأمن القومي الإسرائيلي -باعتبارهما يقفان في صلب الإجماع الوطني- ليسوا هيئات تتولاها جهات سياسية، بل أشخاصً يرتدون البزات العسكرية، وهذا ما جعل الجيش يغدو مثل "الحكومة الدائمة". ويقول وزراء في المجلس الوزاري إنهم يجدون أنفسهم مسؤولين عن عمليات الجيش، على الرغم من عدم تلقيهم تقريرًا مسبقًا عنها، ولم يجروا حولها بحثا معمقا، وأحيانًا كثيرة يضطرون للاطلاع على تفاصيل العملية من الصحافة، ويقول رئيس الشاباك السابق "عامي أيالون": إن "الوسط العسكري يمارس الضغط على المستوى السياسي ويضعفه"، وربما ما حدث في أسطول الحرية مؤخرًا شاهد صارخ على ذلك.
وقد وصلت خطورة تأثير العسكر على الساسة إلى ذروتها في انتفاضة الأقصى، التي اندلعت أواخر عام 2000، وحرب لبنان الثانية أواسط 2006، والحرب على غزة أواخر 2008 وأوائل 2009، لأن الجيش أخذ على نفسه تقدير الانتصار في المواجهة، فأظهر ضعف المستوى السياسي. وخلال هذه المواجهات العسكرية، لم تُجرِ الحكومة الإسرائيلية نقاشات معمقة حول أهداف الحروب الدائرة، لأنها لم تسلِّم المستوى العسكري قائمة بالأهداف التي قدرتها لإدارة هذه الحروب، وبذلك تحول الجيش إلى جسم يحدد الأهداف التي يقاتل من أجلها، ورؤساء الأركان هم من قاموا بوضعها.
وخلال المجريات السياسية المختلفة، على أكثر من صعيد في إسرائيل، تولى الجيش دورًا حاسمًا، وقام رجاله بالتفاوض على حدود الدولة في اتفاقية "رودس" سنة 1949، ووصلت الأمور إلى منتهاها في اتفاق أوسلو عام 1993، حيث اعتمد "إسحق رابين" على الجنرالات أكثر من المدنيين، وأسند مهمات كبيرة لنائب رئيس الأركان "أمنون شاحاك" [3]
وهكذا استفاد العسكر مما تشكِّله مسألة الأمن من دور مركزي في صيرورة الدولة، وتسلقوها لتعزيز دورهم، وتسللوا منها إلى مواقع متنفذة، ونجحوا في خلق إجماع حول نظرتهم الأمنية لجميع الأطوار السياسية، بحيث لم تعد الحكومة والكنيست يتدخلان في سياساتهم وقراراتهم، باستثناء بعض الحالات.
استثناءات حاضرة
شكلت حادثة أسطول الحرية الأخيرة في عرض البحر المتوسط حالة يجدر إخضاعها للتحليل والدراسة، بعد أن شهدت وراء الكواليس تبادلاً للاتهامات بين المستويين السياسي والعسكري في تحمل المسئولية عمّا لحق بإسرائيل من "إخفاق متعدد المجالات". فبالرغم من أن تنفيذ العملية على الأسطول من صلب مهام المستوى العسكري التنفيذي العملياتي، وهو هنا الجيش، إلا أنه ما كان ليتحرك لولا الضوء الأخضر الذي منحه إياه المستوى السياسي ممثلاً برئيس الحكومة ووزير الدفاع.
ومع ذلك، جاءت النتيجة الميدانية سيئة لإسرائيل، بفعل الإرباك الذي حصل في طبيعة اتخاذ القرار بين مختلف مكوناته ومؤسساته السياسية والعسكرية، بحيث لم تأت عملية الكوماندوز البحري "نظيفة من غير دماء"، وتكللت بردود فعل وتنديدات دولية دبلوماسية على صعيد واسع، وليس معروفًا بعدُ متى وكيف ستنتهي إسرائيل من وضع حد لتبعاتها.

وهنا لابد من الإشارة إلى عبارة مهمة وردت على لسان "إيهود باراك" وزير الدفاع -الذي يمثل المستوى السياسي، والذي أشرف على العملية بتفاصيلها أولاً بأول- حين وُجِّهت إليه اتهامات قاسية من بعض رفاقه الوزراء في الحكومة، لاعتبارات حزبية بالدرجة الأولى، فقال لهم بالفم الملآن: "واضح أن أيًا منكم لم تبتلّ ملابسه يومًا بمياه البحر وهو يرتدي زي البحرية الإسرائيلية" في إشارة منه إلى افتقارهم للماضي العسكري، فيما يُعتبر هو من أكثر جنرالات إسرائيل حصولاً على أوسمة ونياشين.
وتبرز هنا عوامل الشخصية "الكاريزمية" لدى الساسة الإسرائيليين الذين يحملون على أكتافهم رتبًا عسكرية ثقيلة العيار، ويستطيعون بهدوء تجاوز العسكر عند اتخاذ قرارات مفصلية مهمة، بحيث يُتخذ القرار السياسي دون موافقة الجيش، وليس من الصعب حصر الحالات التي تمكن الساسة من تطبيق أفكارهم رغمًا عن العسكر.
ومنها على سبيل المثال:

- القرار التاريخي الذي اتخذه رئيس الحكومة الأسبق "أريئيل شارون" أواخر عام 2005 بتطبيق خطة الانفصال عن قطاع غزة، وكان رئيس هيئة الأركان حينها "موشيه يعلون" -وزير التهديدات الإستراتيجية في حكومة "بنيامين نتنياهو" الحالية- قد عبّر عن رفضه للخطة، وعدم تحمسه لتكليف جنوده بإخلاء المستوطنين من قطاع غزة، إلا أن "شارون" مضى في خطته بل ذهب إلى أكثر من ذلك ولم يمدِّد لـ"يعلون" بولاية جديدة، وهذا الأخير لم يتردد في الإعلان عن أن إخلاء مستوطنة نتساريم وسط قطاع غزة، يعبر عن حالة الضعف التي تمر بها الدولة.
- خطوة الانسحاب المفاجئة من جنوب لبنان أواسط عام 2000، والتي قام بها رئيس الحكومة في حينها "إيهود باراك" لاقت معارضة شديدة من رئيس هيئة الأركان في حينها "شاؤول موفاز"، باعتبار أن هذا الانسحاب سيقوِّي من شوكة حزب الله العسكرية، إلا أن المستوى السياسي أصر على الانسحاب، وأمر الجيش بتطبيقها على الفور خلال ساعات معدودة.
- بالعودة إلى التاريخ، فقد قرر رئيس الحكومة الأسبق "مناحيم بيغن" عام 1977 توقيع اتفاق سلام مع مصر، كان ثمنه الانسحاب من سيناء، وعارض ذلك قادة الجيش، لكنه حظي بدعم وزير الدفاع "عيزرا وايزمان"، والخارجية "موشيه ديان"، وكلاهما جنرال.
- عام 1992، تبنَّى "إسحاق رابين"رئيس الوزراء، اتفاق أوسلو خلافًا لموقف الجيش المعارض [5]
صناعة القرار
من يقرأ القائمة الوزارية للحكومة التي شكلها "بنيامين نتنياهو" أواخر مارس/آذار 2009، يجد أن فيها ما لا يقل عن سبعة وزراء من أصل 30 وزيرًا، هم جنرالات بارزون في الجيش الإسرائيلي. ولئن اعتُبِر هذا شكلاً من أشكال "العسكرة" في الحكومات الإسرائيلية، فإن الاطلاع على آليات صنع القرار يعطي إشارات إضافية.كيف ذلك؟
آليات صنع القرار

- هناك تقليد يتمثل بعقد جلسة حكومية أسبوعية يعرض فيها جنرالات هيئة الأركان على وزير الدفاع سلسلة من "العمليات والهجمات" التي تستدعي مصادقته، وجزء من القائمة يحتاج لمصادقة رئيس الوزراء، ويجري النظر في الأمور من زاوية نظر شاملة ومسؤولة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد السياسية والدبلوماسية المتوقعة.
- كما تتمثل إحدى التجليات البارزة لتفوق المؤسسة العسكرية، بإشراك رئيس هيئة الأركان العامة في جلسات الحكومة واللجنة الوزارية لشؤون الأمن، على قدم المساواة مع سائر أعضائها، فهو ليس خاضعًا لهم.

- إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الدول ذات النظام "الديمقراطي"، التي يشارك في اجتماعاتها الوزارية أبرز قادة الجيش، وبها تواجد ملحوظ لرؤساء أجهزة الاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة، الذين يتركون بصمات واضحة على القرار السياسي.
-"إدارة التخطيط الإستراتيجي" هي إدارة تابعة لرئيس الحكومة، وإلى جانبها "مجلس الأمن القومي"، وهو بعيد جغرافيًا عن رئيس الحكومة، بحيث إن مبناه غير قائم في مقر رئاسة الوزراء، إلا أن معلوماته موثوق بها. وهناك "الوحدة الأمنية السياسية في وزارة الدفاع"، التي تقوم بدور استشاري لوزير الدفاع، وتحظى بالحصول المباشر على جميع معلومات المصادر الأمنية ذات الصلة، التي تقدم معلومات "خام" وليس تقديرات تخمينية، وبالتالي فإن إسهاماتها تؤدي إلى بناء قرارات أكثر مراعاة للواقع، ولهذا نراها من أكثر الدوائر الأمنية والعسكرية اقترابًا في تصوراتها من مواقف المستوى السياسي.
- رئيس الحكومة لديه جملة من المستشارين تغلب عليهم الصفة الأمنية، مثل: المستشار السياسي الذي يحظى بالقرب اللصيق منه، ويحظى بثقته، وهناك السكرتير العسكري الذي يشغل عمليًا دور المستشار السياسي الأمني الاستخباري لرئيس الحكومة، ويحدد جدول أعماله اليومي، وجلسات المجلس الوزاري الأمني المصغر، وربما جلسات الحكومة نفسها، وثالث هو رئيس ديوان رئيس الحكومة، وهو شخصية مدنية، ويشغل عمليًّا دور المستشار الشخصي له، ويعتمد على الثقة الممنوحة له. وهناك الأهم من كل ما تقدم، مستشار رئيس الوزراء للأمن القومي، فهو تارة يكون شخصية أمنية وأخرى مدنية، لكن صلاحياته واسعة، حيث أشارت التسريبات في الأيام الأخيرة إلى "سطوة" غير مسبوقة يمارسها المستشار الأمني الحالي لـ"نتنياهو"، د."عوزي أراد"، داخل ديوان رئيس الحكومة، وهو الذي يقود الجهود السرية خلف الكواليس لترميم العلاقات الإسرائيلية التركية.
- منذ تأسيس إسرائيل، والمؤسسة العسكرية ممثلة بالجيش والموساد والشاباك، تُدار وفقًا لمدوّنة سلوك تختلف عن تلك الخاصة بالمستوى السياسي، حيث إن مُدد شغل المناصب فيها طويلة نسبيًا ومستقرة، وتعتمد التعيينات فيها على درجة الاحترافية، والخطط التطويرية تمتد على مدى عدة سنوات، وبالتالي فهي تملك القدرة على التخطيط وتنفيذ السياسات على نحوٍ أكثر فاعلية من الأجهزة الحكومية الأخرى.
- لا يستطيع المستوى السياسي بالعادة "لجم" الجيش دائمًا عن التوجه نحو خطوات عسكرية هجومية، نتيجة لوجود توليفة خارجية من غياب بدائل سياسية وتفاوضية مع جيران إسرائيل، واعتبارات داخلية تتعلق برغبة المستوى السياسي في تحصيل قدر مقبول من الشعبية في أوساط الإسرائيليين، ولذلك تتحول اقتراحات الجيش في الكثير من الأحيان إلى سياسات بطريقة تلقائية(5).
والجزء الأكثر تعبيرًا في هذا التموضع يتمثل في وجود مستوى سياسي ضعيف، يفتقر للقنوات المستقلة اللازمة لضخّ المعلومات والتقديرات، ووضع الخيارات، واتخاذ القرارات؛ بحيث لم يعد الجيش هو الجسم التنفيذي في الدولة، بل تحول ليصبح المسيطر الأكثر تحكمًا بالأمور. والأمر الأكثر خطورة على الطابع المدني للنظام السياسي الإسرائيلي، أن هذا يحدث بموافقة كاملة، ليس فقط من جانب المستوى السياسي، بل من قِبل عموم الإسرائيليين أنفسهم.
كوابح مطلوبة
تعاني إسرائيل منذ سنوات من معضلة باتت تؤرق بعض المحافل الإستراتيجية والبحثية، يُطلَق عليها اسم "غياب جيل التأسيس"، وهم أولئك القادة والزعماء الذين امتلك الواحد منهم كلمة السر للمرور إلى صناعة القرار السياسي انطلاقًا من "سيرته الذاتية العسكرية الحافلة"، وهو ما تفتقر إليه القيادات السياسية الحالية في إسرائيل، وتقفز هنا على الفور أسماء "موشيه ديان، إسحاق رابين، أريئيل شارون"، وغيرهم. وبالتالي فقد أدت هذه المعضلة إلى اعتلاء بعض الساسة قمة الهرم الحكومي في إسرائيل، ممن لم تُغبَّر أقدامهم في معارك إسرائيل، ولم توجد في أجسادهم إصابات من فدائيين فلسطينيين أو جنود عرب، ما يجعلهم بصورة تلقائية أسرى لأولئك المتواجدين في مقصورة هيئة الأركان.
وهو ما دفع بـ"شلومو غازيت" رئيس الاستخبارات العسكرية الأسبق، وأحد أبرز الخبراء الأمنيين، إلى أن يقترح سحب صلاحية القرار في الكثير من الحالات من قادة الجيش الميدانيين، ورفعها للمستوى القيادي الأعلى أي هيئة الأركان، مقترحًا على رئيس الوزراء ووزير الدفاع أن يشكِّلا فورًا لجنة على مستوى عالٍ تدرس الموضوع، وتُوصي بمجالات الصلاحية والقرار لكل مستوى في الجهاز، ففي ظروف إسرائيل، "الحرب ليست معفية من السياسة".[6]
وهنا تحدث غازيت عن تفضيل التعامل مع ما وصفهم بالقادة الذين "يشبهون (جياد الفرسان)، التي تحتاج (للجم) حين تبدي حماسًا مفرطًا في تسوية الحساب مع العدو، ويُتوَقع منهم التحلي برجاحة العقل، وبمنطق أوسع نطاقًا للتعامل مع الواقع الأمني السياسي المعقد، وذلك عن التعامل مع تلك الجياد الخاضعة، وهم أولئك الضباط المشبَّعون بالرُّوح القتالية، والموجَّهون لتلبية المهمات الميدانية الملقاة على عاتقهم".
نقاط الضعف

يرى العديد من الخبراء العسكريين أن المؤسسة العسكرية في إسرائيل هي المهيمنة، ومن الناحية العملية تشكل المؤسسة -وبشكل رئيسي الجيش والموساد، والشاباك- العمود الفقري لمؤسسة الأمن القومي، بالرغم من نقاط ضعفها المتعددة، التي تقلل من قدرتها على توفير دعم فاعل لرئيس الوزراء في صياغة سياسات الأمن القومي، ومن أهم نقاط الضعف:
1- التعدّي التنظيمي: حيث يتمتع الجيش بوفرة الموارد البشرية والمالية التي تساعده على وضع السياسات والتخطيط لتنفيذها، وإيجاد الحقائق وجمع المعلومات الاستخبارية والتحكم بتوزيعها، وتقسيم الأجهزة الأخرى، التي لها مدخلات على علاقة بصناعة القرار، إلى فئات مستقلة. وبالتالي، غالبًا ما لا تحصل الأجهزة الأخرى على فرص عادلة للإسهام في التخطيط للأمن القومي، رغم حقيقة أن مدخلاتها بنّاءة، وعلى صلة بصناعة القرار على غرار مدخلات المؤسسة العسكرية.
2- التعليم والخبرات في الجيش لا يرتبطان دائمًا بالأمن القومي، حيث تتم ترقية غالبية الضباط الكبار بناء على خدماتهم المتميزة في القيادة الميدانية للوحدات العملياتية. ويركز تعليمهم وتدريبهم وخبرتهم على فهم العدو، وتطوير القدرات العسكرية، والقيادة في الأوقات التي تُخاض فيها المعارك.
ولا يخفى أن صياغة السياسات الأمنية القومية، والتعامل مع النزاعات التي لا يمثل الجيش مكونًا مركزيًا فيها، تتطلب خلفية من الفهم التاريخي والاجتماعي والديمغرافي والقانوني والدبلوماسي والاقتصادي العميق، مما لا يتوافر لدى العسكر، كما من الصعب تطوير هذا النوع من الفهم داخل الجيش، الذي يدعم الأشخاص ممن تتمحور مهاراتهم الأساسية حول الجندية والإدارة والقيادة.
ولهذا رأى خبراء شاركوا في مؤتمر يبحث في العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل، أنه ينبغي توفير مثل هذا التعليم والتدريب على القيادة في المسائل المتعلقة بالأمن القومي[7]، لكن الواقع يقول أن العديد من قادة الجيش والأجهزة الأمنية يتهيأون لدخول المعترك السياسي، وهم ما يزالون يرتدون الزي العسكري، ومن المحتم أن تؤثر خططهم الشخصية على خدمتهم لرئيس الوزراء، وفي هذا المجال، يُعدّ القانون الجديد الذي يوجب قضاء "فترة تدريب"[8]  مهمًا، لكنه يطبّق فقط على رئيس أركان الجيش، ولا يشمل رئيسي الشاباك أو الموساد.
على أن هيئات الأمن القومي والمؤسسة الأمنية والعسكرية تعاني من ظواهر مرضية أصابت النظام السياسي الإسرائيلي، حيث يشرف على وضع السياسة الأمنية مكتب رئيس الوزراء، ومجلس الأمن القومي، والوزراء الأساسيون أصحاب الصلة، كوزراء الخارجية والدفاع والمالية، وهي مجموعة تعاني من الأمراض التي تعتري الحكم في "إسرائيل". وبالتالي تعاني من ظروف صعبة في تصميم سياسات الأمن القومي، والتخطيط لها وتنفيذها.
استنتاجات وخلاصات
أن يتصدر العسكر المشهد السياسي والأمني في دولة "كإسرائيل" أمر مألوف وشواهده أكبر من أن تحصى، لكن الموقع المتقدم الذي بدأ يحظى به هؤلاء -كما مرّ آنفًا- يجعل القرار السياسي في إسرائيل أكثر التصاق بالعسكر، حيث يبدأ من إلزامية الخدمة العسكرية على جميع الإسرائيليين، ويؤثر في جميع المناحي السياسية والاتجاهات الاجتماعية، ولا يبدو أنه في طريقه للتراجع في ضوء ما يشاع عن "سلة تهديدات وجودية" تعاني منها إسرائيل، وهي جميعا مؤشرات تفتح المجال لاستخلاص الاستنتاجات التالية:

1- ستشهد السنوات القادمة اتساعًا لرقعة "سطوة" المستوى العسكري في التمدد رويدًا رويدًا داخل دوائر صنع القرار الإسرائيلي، وسيزداد ذلك كلما تقدم ساسة "طارئون" على الحلبة العسكرية والأمنية والسياسية في إسرائيل.
2- ليس بالضرورة أن يشهد "الضلوع المطرد" للعسكر على الساحة السياسية، توجهًا مباشرًا نحو اتخاذ قرارات حربية على جبهات مجاورة، لا سيما في ضوء المطالبات الأخيرة لجنرالات هيئة الأركان بالتوجه نحو تجديد المفاوضات مع السوريين.
3- فيما لو دقت ساعة الصفر لأية مواجهة عسكرية مفترضة، فإن تموضع الجنرالات في سدة صنع القرار الإسرائيلي لن يعني إلا نتيجة واحدة تتمثل في أن تكون تلك المواجهة ضارية وقاضية، تقترب من مرحلة "كسر العظم" لاستعادة الردع المفقود، الذي يُتَّهم بإهداره المستوى السياسي وليس العسكري.
4- في المقابل، فإن حوافز المستوى العسكري المتمثلة في إبراز التهديدات المحدقة "بالدولة"، ستعني بصورة تلقائية معارضة جارفة لعمليات الانسحاب، وربما التشكيك في المسار الدبلوماسي، على الصعيد الفلسطيني بالذات، واقتراح القيام بعمليات هجومية، وهي حوافز مناسبة لتعزيز صورته التقليدية.
5- سيبقى الميدان الأكثر ملاحظة "للتغول" العسكري في دائرة صنع القرار متمثلاً بالبعد الداخلي في إسرائيل، من حيث تزايد وتيرة المناورات الحربية التي تشمل كل أرجاء الدولة، وتشارك فيها جميع المؤسسات والمرافق والجهات، والرفع غير المعلن للموازنة العسكرية للجيش والمخابرات بمعزل عن الإجراءات الدستورية التي يتم توظيفها خدمة لحماية إسرائيل من أعدائها المحيطين بها.
6- أثبتت بعض التجارب أن الجيش الإسرائيلي يملك صلاحية واقعية للمبادرة في بعض الأحيان لاتخاذ قرارات دون العودة للمستوى السياسي ولو أدت إلى تورط الساسة فيما لا يرغبون، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ما حصل في مايو/أيار 2006، حيث قامت قوة من الجيش الإسرائيلي بمهمة عسكرية في مدينة رام الله لاعتقال "مطلوب فلسطيني"، وذلك في الوقت الذي كانت فيه طائرة رئيس الوزراء "إيهود أولمرت" تقلع لعقد لقاء قمة مع الرئيس المصري في شرم الشيخ.
وقد اعتقدت أوساط مصرية نافذة أن العملية رسالة إسرائيلية إلى القاهرة، وتبين لاحقاً أن الأمر ليس كذلك، وأنه "كان ينبغي طرح العملية على وزير الدفاع ورئيس الوزراء قبل تنفيذها، لأنه يمنع اتخاذ مثل هذا الإجراء في ظروف لقاء قمة سياسية، حتى لا ينعكس عليها سلبا".
7- على صعيد المحيط العربي والإقليمي، سيتم إسقاط ذلك التوغل على الساحات التالية:
فلسطين:

سيبقى الفلسطينيون أسرى للجدل الإسرائيلي الدائر بين المستويين السياسي والعسكري، ويمكن هنا النظر إلى التصريحات العلنية الفاقعة لرئيس جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" خلال الأيام الماضية التي عبر فيها عن معارضته لتوجهات رئيس الحكومة بتخفيف إجراءات الحصار على قطاع غزة. والأمر يرتبط بصورة كبيرة بالتلكؤ الإسرائيلي الحاصل في إبرام صفقة التبادل مع حركة حماس، التي يقدم فيها رجال المخابرات "فيتو" صارمًا أمام رئيس الحكومة والمجلس المصغر، الذي يخضع لضغوط الرأي العام الإسرائيلي. وعلى صعيد المفاوضات السياسية فإن إسرائيل بشقيها العسكري والسياسي ذاهبة باتجاه البحث عن خطوات لـ"إدارة" الصراع مع الفلسطينيين، وليس التوجه نحو "حله"، وفرق كبير بين الوجهتين.
لبنان:

لبنانيًا ما زالت إسرائيل تعبر عن قناعة تنتشر رويدًا رويدًا في المستويات الأمنية والعسكرية مفادها أن الجيش لم "يقض وطره" من المقاومة اللبنانية، التي نجحت بصورة واضحة في ضرب صورته الردعية خلال حرب 2006، ولذا تأخذ التحضيرات الميدانية، ورفع نبرة التهديدات صيغة تُرضي "نهم" العسكر في تحفيز جنودهم للمواجهة القادمة لا محالة.
سوريا:

على الصعيد السوري، لا يُخفي ساسة إسرائيل وعسكرها على حد سواء انزعاجهم من التحالف بين دمشق وطهران، وما يعنيه هذا في نظر بعض الإستراتيجيين الإسرائيليين من أن فرق الحرس الثوري الإيراني موجودة على بعد عدة كيلومترات من الحدود الإسرائيلية، ومع ذلك، فلا يبدي المستويان السياسي والعسكري رغبة في إشعال فتيل مواجهة حربية مع سوريا، لعدة اعتبارات عسكرية وجيوسياسية في المنطقة. لكن الأمر اللافت فعلاً في الآونة الأخيرة -وبعكس المتوقع- أن المستوى العسكري والأمني بات يدفع بقوة نحو استئناف المفاوضات السورية الإسرائيلية بغرض "سلخ" دمشق عن تحالف طهران-بيروت، وإبقاء ظهر حزب الله مكشوفًا من جهة، ومن جهة أخرى حرمان طهران من العمق الإستراتيجي في المنطقة العربية.
وقبل الختام لا بد من العودة إلى إغارة الجيش الإسرائيلي على "أسطول الحرية" والتي جسدت نتائجها الإرباك الذي حصل ليس بين المستويين العسكري والسياسي فحسب بل مع مستويات أخرى من أجهزة الدولة. فقد أصبحت هذه "الحادثة" دراسة حالة لبرنامج تدريبي أُطلق عليه اسم "لعبة الحرب"، سيخوض كبار الضباط في الجيش الإسرائيلي –حصرا دون غيرهم- غماره "لتفحص الآثار والتبعات المتوقعة لأية عملية عسكرية يقوم بها الجيش ميدانياً في أي من الساحات المتوقعة، على الجوانب السياسية والقضائية والإعلامية.
وهذا البرنامج سيقوم بإعداده وتدريبه مركز الأبحاث والتطوير والبنى التقنية داخل الجيش الإسرائيلي، وجاء في ضوء الإشكاليات التي وقع فيها الجيش مؤخراً، وذلك في محاولة لتفادي إخفاقات سياسية وعيوب إعلامية ترافق بالعادة العمليات العسكرية، وسيحاضر فيه خبراء في القانون الدولي، ومهنيون من مجال الإعلام والدعاية، إلى جانب ممثلين عن وزارة الخارجية. وبإجراء الدراسة التطبيقية على حادثة أسطول الحرية، يأمل الجيش الإسرائيلي تطبيق تلك المعايير على حالات مشابهة في المستقبل [9].
وهذا المساق التدريبي بطبيعة الحال يمثل إصرارا من الجيش وحتى من قيادات الدولة في إسرائيل، على المحافظة على موقع العسكر المتميز في بنية الدولة وفي صناعة قراراتها الإستراتيجية؛ حيث يتم تثقيفهم بالعواقب غير العسكرية التي قد تنتج عن عملياتهم العسكرية، وكأن المطلوب منهم الاكتفاء بالرقابة الذاتية في الأمور التي يعتبرها الجيش تدخل في نطاق أمن إسرائيل القومي. وهذا على العموم يعكس القناعة السائدة لدى الجمهور الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، والتي مفادها أن رجال الجيش هم ذوو الكفاءة الأعلى، والأكثر ولاء للدولة، ويفهمون مصالحها أكثر من غيرهم، وبعيدون عن المصالح الشخصية، رغم ما قد يسببه ذلك من حدوث "تورم" في توجه الجنرالات للحقل السياسي، بل والإضرار بقوة الجيش في إدارة أمور الدولة.
 
المصادر:

[1] شيلح عوفر هو مؤلف كتاب: : "لماذا مطلوب إحداث ثورة في الجيش الإسرائيلي؟"، وله صلات وثيقة بالمسؤولين الإسرائيليين من المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل.

[2] "نعومي رايش"، جيش الدولة أم دولة الجيش؟ المعهد الإسرائيلي للديمقراطية،21 مايو/أيار 2007، الرابط: http://www.idi.org.il/Parliament/2007/Pages/2007_53/53_E/Parliament_Issue_53_e.aspx

[3] عوفر شيلح، علاقات المستوى المدني والعسكري في إسرائيل على خلفية مواجهات عسكرية، تحرير رام إيرز، مركز جافي للدراسات الإستراتيجية، 2006، ص143.

[4] أفيعيزر يعاري، قراءة في أداء مجلس الأمن القومي، تل أبيب: معهد دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب، 2008م، ص56،
الرابط:  http://www.inss.org.il/upload/%28FILE%291193224531.pdf

[5] يورام بيري، "العلاقات الحزبية العسكرية في مجتمع تعددي،" موشيه ليساك (محرر)، المجتمع الإسرائيلي ومؤسسته الدفاعية، الآثار الاجتماعية والسياسية لصراع عنيف ممتد، الرابط:  www.biu.ac.il/soc/soclib/socialStudieS/71-336-36.doc

[6] مطلوب وحدة دعم إستراتيجي، معهد ريؤت – تل أبيب، 2007، ترجمة مركز خدمة المتابعات الصحفية، ص13.

[7] مركز تأهيل المواطن في إسرائيل، الرابط: http://www.ceci.org.il/heb/research_item.asp?id=393

[8] المقصود "بفترة التبريد" هذه أن يأخذ الضابط الإسرائيلي فترة "نقاهة" بعد إنهاء خدمته العسكرية؛ بحيث لا يحق له دخول المعترك السياسي فور نهاية هذه الخدمة؛ نظرًا لما قد يُعتَبر توظيفًا واستغلالاً لإرثه العسكري للوصول إلى مواقع سياسية متقدمة.

[9] مجلة "بمحانيه" العسكرية(باللغة العربية تعني: داخل المعسكر)، العدد 23، 19/6/2010
الرابط: http://dover.idf.il/IDF/News_Channels/bamahana/2010/23/09.htm


المصدر: مركز الجزيرة للدراسات


2010-07-28