ارشيف من :آراء وتحليلات

الكارثة الغذائية العالمية: بين الحلول المتوحشة والحل الإنساني

الكارثة الغذائية العالمية: بين الحلول المتوحشة والحل الإنساني
عقيل الشيخ حسين

لا يزال العام 2009 طرياً في الذاكرة بصفته العام الذي شهد أكبر تهديد للأمن الغذائي العالمي مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية بنسب تجاوزت الـ 200 بالمئة بالنسبة لبعض المنتجات. ومع تنامي ميل البلدان المنتجة لهذه السلع إلى الحد من تصديرها أو وقف تصديرها بالكامل بهدف المحافظة على أمنها الغذائي القومي ولم ينس المهتمون بالموضوع أن بعض التوقعات ذهبت يومها إلى القول بأن العام 2010 سيشهد تصاعداً كبيراً في أزمة الغذاء.

توقعات ثبتت صحتها خلال الأيام القليلة الماضية مع ارتفاع أسعار القمح في السوق العالمية بنسبة 40 بالمئة... مع توقعات جديدة بالمزيد من الارتفاع في الأسعار خلال الأسابيع والأشهر القادمة، والسنوات والعقود القادمة أيضاً ما دام أن الأسباب المنتجة للمشكلة هي أيضاً في تزايد مطّرد.

المحللون يرجعون السبب في الارتفاع الأخير لأسعار القمح إلى موجة الحر والجفاف التي تضرب روسيا حالياً، باعتبار أن روسيا تنتج نحو 8 بالمئة من القمح العالمي، وهم محقون في ذلك، ولكن بشكل جزئي. لأن كندا التي شاركت روسيا، العام الماضي، في احتلال المرتبة الثالثة بين الدول المصدرة للقمح في العالم تعاني حالياً من تراجع في الإنتاج بنسبة 17 بالمئة، لا بسبب الحر والجفاف، بل تحديداً بسبب الأمطار والفيضانات.

والسبب الأخير نفسه هو المسؤول هذا العام عن تراجع إنتاج القمح في كل من الهند وباكستان اللتين تنتجان معاً كمية من القمح معادلة للكمية التي تنتجها روسيا، وإن كانتا غير موجودتين على لائحة البلدان المصدرة.

هنالك إذاً أسباب على صلة بالكارثة المناخية التي يحاول المحللون طمس تأثيراتها بما هي ظاهرة عالمية شاملة. وهم يتنافسون في ذلك مع نظرائهم العلماء الذين يحاولون طمس أسبابها "البشرية" من خلال تقديم أسباب من نوع انفجار يقولون بأنه قد حدث مؤخراً على سطح الشمس! علماً بأنه قد بات من المعروف أن السبب الرئيسي للكارثة المناخية هو آلاف الانفجارات التي تحدث كل ثانية داخل محرك كل واحدة من مليارات السيارات وغيرها من الآلات العاملة بمحركات تحرق الوقود والتي تدب على سطح كوكب الأرض.

الكارثة المناخية ذات السبب الـ "بشري" هي سبب "بشري" كبير من أسباب أزمة الغذاء الآخذة بالتحول هي أيضاً إلى كارثة. لا لأن عشرات الملايين من البشر يموتون سنوياً من الجوع، بل لأن أعداداً أكبر بكثير سيتعرضون للموت يومياً بسبب الجوع، فيما لو استمرت المشكلة على حالها، في ظل اقتصار ابتكار حلول لها على ما تجود به قرائح المستفيدين منها، أو بتعبير تقني أكثر... في ظل ما تجود به قرائح المستثمرين فيها.

والمستثمرون كثر. ابتداءً من مهندسي برامج ما يسمى بالتنمية التي يمليها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على شكل "إصلاحات هيكلية" أدت، خلال العقود القليلة المنصرمة، وعبر ما لا يحصى من الإجراءات والأفانين الموصوفة بالعلمية، إلى تدمير القطاعات التقليدية المنتجة في مجال الغذاء (الزراعة وتربية المواشي) في معظم ما يسمى بالبلدان النامية.

ومن السياسيين المتواطئين الذين يتباهون بأنهم وضعوا بلدانهم في مأمن من الكارثة الغذائية لهذا العام لأنهم استبقوا الأمور واشتروا ما يكفي لاستهلاك شعوبهم من القمح وغيره من المؤن الغذائية... وحققوا، نتيجة لذلك مكاسب مالية معتبرة. ومن أولئك الذين يتحدثون عن فوائض في المحاصيل في أوستراليا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وبالتالي عن توافر كميات كبيرة من القمح والأغذية الأخرى على المدى القصير، بحيث لا يخشى من بروز مشاكل في هذا المجال خلال شهر رمضان المبارك.

ومن أولئك الذين يظنون أنهم يحققون فتوحات كبرى عندما يقررون تنويع مصادر استيراد المواد الغذائية، ورفع مستوى الرقابة على سلامتها وجودتها حرصاً منهم على الأمن القومي. وبالتوازي مع كل ذلك، لا نسمع كلمة عن مبادرة أو مشروع إنتاجي لخدمة الأمن القومي في مجال الغذاء. لأن الإنتاج والإنتاج الغزير يكسر شوكة الوسطاء الطفيليين والاحتكار والاستثمار والمضاربة والأرباح الضخمة التي تجنيها الشركات، وباتت أبرز محركات الاقتصاد العالمي المنهار.

ابتداءً بهؤلاء وانتهاءً، بوجه خاص، بالجماهير التي تصطف لساعات في الطوابير أمام الأفران لشراء رغيف الخبز، إن وجد، بتلك الجماهير التي باتت تملأ دورها بامتياز كجماهير مستهلكة، بات كل ما له علاقة بدور منتج قد تضطلع به أمراً غائباً كلياً عن ساحات اهتمامها.لا بل إن مسؤولية هذه الجماهير عن استفحال الكارثتين المناخية والغذائية أكبر بما لا يقاس من مسؤولية الجهات المستفيدة من هاتين الكارثتين. لأن هذه الانهيارات العالمية المروعة إنما تتم على

حساب مصلحتها، ولأنها الوحيدة القادرة على وقف هذه الانهيارات وإنقاذ العالم عبر وضعه على سكة نمط عيش إنساني بالمقارنة مع النمط المتوحش الذي عممته الرأسمالية المتوحشة على العالم.


2010-08-06