ارشيف من :ترجمات ودراسات

العراقيب وقرى النقب في مخطط التهويد

العراقيب وقرى النقب في مخطط التهويد
علي بدوان(*)
قبل أيام قليلة، قامت الجرافات الإسرائيلية باقتلاع أربعين منزلاً بقرية العراقيب الواقعة داخل عمق فلسطين المحتلة عام 1948، وتحديداً شمال مدينة بئر السبع في منطقة بادية النقب، وهي القرية التي تقع على بعد حوالي (110) كيلومترات جنوب مدينة القدس. كما أخلت نحو ثلاثمائة من سكانها، بحجة البناء دون ترخيص، في قرية تعد واحدة من (46) قرية بدوية عربية فلسطينية في منطقة النقب لا تعترف "إسرائيل" بها, ويقطنها نحو (100) ألف عربي من بدو النقب، يعيش في أصغرها (500) نسمة، وفي أكبرها أكثر من (4500) نسمة.
فلماذا جاءت تلك الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة ضد قرية العراقيب، وهل كانت بالفعل إجراءات لها علاقة بالتخطيط العمراني كما تدعي سلطات الاحتلال، أم أنها جاءت في سياقات معروفة ومعلومة في إطار سياسات الاحتلال المنتهجة ضد عرب النقب والهادفة لإعادة حشرهم وحصرهم في بقع جغرافية محدودة ضمن مخطط التهويد الشامل والكامل لمنطقة النقب بشكل عام؟
عودة للوراء قليلاً
وفي الوقائع التاريخية، وبعيد نكبة فلسطين عام 1948، حظيت منطقتا الجليل الواقعة شمال فلسطين المحتلة عام 1948، والنقب الواقعة إلى جنوبها، إضافة لمنطقة (اللد والرملة ويافا) الواقعة وسط فلسطين، ببقاء أعداد كبيرة من مواطنيها العرب الفلسطينيين من الذين استطاعوا البقاء والصمود فوق أرضهم. حيث تشير المعطيات والدراسات إلى أن أعدادهم بلغت في حينها بحدود (135) ألف مواطن فلسطيني، فيما غادر أرض فلسطين باتجاه مواقع اللجوء إلى الضفة الغربية وقطاع غزة وإلى بلدان الطوق والشتات بحدود (850) ألف مواطن فلسطيني.
وعليه، كان ومازال لبقاء هؤلاء المواطنين الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة عام 1948 الأثر الأكبر والأهم في مسار حياة الدولة العبرية الصهيونية، التي استفاقت بعد عقود قليلة من إنشائها لترى أمامها كتلة سكانية فلسطينية كبيرة باتت تفوق المليون وثلاثمائة ألف مواطن فلسطيني، يشكلون جزءاً عضوياً وأساسياً من أبناء الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية والتحررية، حيث فشلت كل سياسات الاحتلال في "أسرلة" أو تذويب هوية هؤلاء الفلسطينيين الوطنية والقومية، الذين استفاقوا بعد سنوات من ظلام النكبة، وهم يستعيدون دورهم في المعركة الوطنية التي يخوضها أبناء شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة وشعبهم في الشتات المحيط بفلسطين.
ومن المعروف، أن سلطات الاحتلال كانت قد فرضت على كل من تبقى داخل فلسطين المحتلة عام 1948 نظام (الحكم العسكري) حتى العام 1966 وترتب على ذلك عدم استطاعتهم العودة إلى أراضيهم لزراعتها، وحاجتهم إلى تصاريح خاصة للخروج من المناطق المخصّصة لهم من أجل البحث عن العمل والتعلم، إلخ.
وسعت باتجاه تفريق وحدة العرب هناك، من خلال تقسيمهم إلى مسميات مدروسة، فوضعتهم في أربع خانات مصطنعة ومخالفة للواقع وهي: الخانة الأولى خانة (قومية العرب) وهم الفلسطينيون والمسيحيون من أبناء الريف والمدن. والخانة الثانية (قومية الدروز) وهم الفلسطينيون العرب من أبناء الطائفة الدرزية. والخانة الثالثة (قومية الأقليات) ويقصد بهم من ذوي الأصول الشركسية وغيرها. والخانة الرابعة (قومية البدو) والتي خصت بها سلطات الاحتلال البدو الفلسطينيين من أبناء عشائر الشمال في الجليل، وبدو النقب. واتجهت نحو فرض الخدمة العسكرية على أصحاب الخانات الثانية والثالثة والرابعة وذلك ضمن وحدات حرس الحدود وغيرها من قطاعات جيش الاحتلال.
وفي ظل ظروف النكبة، شكل أبناء العشائر من بدو فلسطين نسبة لا بأس بها من اللاجئين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى سوريا ولبنان والأردن من بدو الجليل والجليل الشرقي وغور طبريا وسهل الحولة في الشمال.
أما بدو النقب فقد لجأت غالبيتهم إلى قطاع غزة وبنسبة أقل إلى الأردن وقد عرفوا بـ (السبعاوية)، فيما حطت أعداد منهم في التجمعات البدوية على امتداد الصحاري الشرقية للضفة الغربية حيث ما زالت العشائر البدوية المهجرة من بئر السبع وعراد جنوب فلسطين تعيش في بيوت بدائية من الشعر والصفيح والبلاستيك، كتلك التي عاش فيها ضحايا النكبة جميعهم.
وفي الوقت الحالي، فإن ما تبقى من بدو فلسطين باتوا يشكلون نحو (12%) من أبناء فلسطين داخل حدود العام 1948، وتحديداً نحو (160) ألف نسمة من أصل نحو (1.3) مليون نسمة من أبناء فلسطين المتجذرين داخل الأرض المحتلة عام 1948، والمتوقع أن تصل أعدادهم إلى نحو (30%) من عدد سكان الدولة العبرية بحلول العام 2025.
ويقيم غالبية بدو فلسطين من الذين تبقوا داخل حدود العام 1948 في منطقة النقب، وبشكل أقل في منطقة الجليل الأعلى والشرقي شمال فلسطين، الذين استقروا فوق أرض وطنهم التاريخي كمجموعة سكانية متنقلة ضمن حدود أراضيهم المعروفة في بادية النقب، ومناطق الجليل.
لكن الممارسات الإسرائيلية الصهيونية التي وقعت بحقهم طوال العقود التي تلت النكبة، ساهمت بطرد نحو (80%) منهم من أراضيهم ، بينما تم وضع البقية في مناطق عسكرية صُمّمت خصيصاً لهم، وتشكّل نحو (10%) من أراضيهم، فقد كانوا يملكون أساساً نحو (12) مليونا و(750) ألف دونم ولكن لم يتبق بيدهم سوى (850) ألف دونم بعد مصادرة الباقي، والبعض لا يزال يسكن على أراضيه المصادرة. علماً أن مساحة منطقة بادية النقب تشكل حوالي (٤٠%) من مساحة أرض فلسطين التاريخية، وتبلغ مساحتها نحو (١٢) ألفا و577 كلم٢، ويقطنها قرابة مائتي ألف عربي (من الفلسطينيين البدو وغير البدو).
استكمال خطة النجوم السبعة
وفي العودة لما جرى بحق قرية العراقيب البدوية في النقب، فلم تكن عملية إزالتها مجرد حدث عادي أو مجرد عملية بسيطة قامت بها السلطات البلدية في منطقة النقب دون الرجوع لمصادر القرار السياسي في "إسرائيل"، بل جاءت في مسار مواصلة عمليات التهويد والاستيطان على امتداد أرض فلسطين التاريخية.
ففي الوقت الذي ينشغل فيه الفلسطينيون والعالم العربي على مستوياتهم المختلفة بإثارة ومواجهة عمليات الاستيطان الاستعماري الصهيوني الجائرة التي تجري فوق الأرض المحتلة عام 1967، فإن عجلة الاستيطان والتهويد الإسرائيلية الصهيونية تواصل تقدمها داخل مناطق الاكتظاظ والتواجد السكاني العربي في فلسطين المحتلة عام 1948، وتحديداً في مناطق الجليل والمثلث والنقب، حيث تعمل الحكومة الإسرائيلية الحالية للانتقال إلى خطوة نوعية جديدة في هذا المسار من عمليات التهويد باتجاه استكمال خطة (النجوم السبعة) المعروفة لخلخلة الوجود السكاني العربي.
فالمساحات الساحقة جدا من أراضي الجليل والنقب، هي أراض عربية مصادرة منذ عام النكبة، وجرت مصادرتها في إطار سياسة الاضطهاد القومي العنصرية الإسرائيلية الصهيونية ضد المواطنين العرب، حيث سنت "دولة إسرائيل" من أجل ذلك أكثر من أربعين "قانوناً" يفتقد للشرعية منذ العام 1948.
وكان ما يسمى بـ "مجلس الأمن القومي الإسرائيلي" قد اقترح قبل أربع سنوات حل مشكلة القرى العربية الفلسطينية غير المعترف بها في بادية النقب، بواسطة خطط واقتراحات مختلفة تفتقت بها عبقرية غلاة الصهاينة من أصحاب مشاريع التهويد والترانسفير.
وبالفعل، فقد عرضت على جدول أعمال مؤتمر هرتزيليا في دورته السادسة التي عقدت قبل أربع سنوات عدة أفكار ومقترحات بهذا الخصوص، حين عاد المؤتمر ليضع بعض المواضيع بالغة الأهمية على رأس جدول الأهميات في النقاش الدائر داخل قاعاته ولجانه. وكانت مسألة النقب والوجود العربي المتناثر في قرى ممتدة على مساحاته واحدة من هذه المواضيع المهمة.
ورست الأمور على تبني ودعم وتأييد الأفكار السابقة التي كانت "إسرائيل" قد عملت في المباشرة بتنفيذها على الأرض قبل أكثر من عقدين من الزمن، حين سعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى إعادة تركيز بدو النقب في ثمانية تجمعات خطّطت لها دولة الاحتلال في سياق عملية تهويد النقب، ووفق فلسفة تقوم على القاعدة التالية "تهويد الحيز التخطيطي عبر تركيز أكبر عدد من العرب على أقل ما يمكن من الأرض، وتوزيع أقل ما يمكن من اليهود على أكثر مساحة".
فالصراع في مفهوم "التخطيط الإسرائيلي" بالنسبة لمسألة الوجود العربي في النقب وحتى في مناطق الجليل في الشمال، بات في العقود الثلاثة الأخيرة يتخذ إستراتيجية "التقليص الأقصى للتجمعات البدوية الفلسطينية في النقب وكذلك الجليل" من خلال تركيز البدو في البلدات المخطط لها، وفي وقت تتسع فيه العروض والمخططات لإقامة بلدات يهودية محيطة بها.
إنتاج نظام أبارتهايد جديد
ومن هنا قامت سلطات الاحتلال بمصادرة وقضم مساحات متزايدة وبالتدريج من أراضي العرب البدو من أجل تطوير "المجتمع اليهودي"، فيما استطاعت حتى الآن حشر نحو (56%) من بدو النقب في سبع بلدات أقامتها لهم وهي بلدات: رهط ، حورا ، تل السبع ، لقية ، شقيب السلام، كسيفة، عرعرة النقب. علماً أن البلدات المشار إليها تفتقر إلى البنية التحتيّة الملائمة أصلا، كما تحصل على خدمات حكومية غير كافية، شأنها شأن باقي القرى والبلدات العربية داخل "إسرائيل".
وفي التدقيق والتمحيص، فإن الجهود الإسرائيلية التي دفعت باتجاه اختلاق مشكلة بدو النقب، وإعادة توطينهم في التجمعات والبلدات السبع التي وردت أسماؤها أعلاه، تخفي الكثير ما وراءها من وجهة ورؤية تهدف إلى تحويل القرى المتناثرة في بادية النقب إلى بلدات مكتظة دون تخطيط بحيث تدفع نوعية الحياة لتشبه جميعها أحياء فقر كبرى، أشبه بتجمعات المواطنين السود في جنوب أفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري (نظام الأبارتهايد)، ولتصبح الحياة فيها على المدى البعيد موئلاً للعنف الناجم عن الفقر وسوء الخدمات وتأخر التعليم والصحة، وبالفعل فقد أصبحت التجمعات التي أقامتها سلطات الاحتلال أحياء فقر مزدحمة في محيط المدن اليهودية، كما هي حال أحزمة الفقر التي تحيط بالمدن الكبرى في العالم.
أما النسبة الباقية منهم والتي تبلغ ما يقارب (44%) من بدو النقب فيعيشون في قرى متناثرة فوق أرضهم التاريخية، في قرى تطلق عليها سلطات الاحتلال صفة "القرى غير المعترف بها" ومنها قرية العراقيب التي أزيلت من الوجود قبل أيام خلت. وبالتأكيد فإن تلك القرى لا تحصل سوى على القليل من الخدمات مثل الماء، الكهرباء، الهاتف، المنشآت التعليمية والصحية، أو أنها لا تحصل عليها بتاتًا. ويعيش معظم سكان القرى إياها في أكواخ، وخيم أو مبانٍ غير ثابتة أخرى.
وغالباً ما يتعرض سكان تلك القرى لمضايقات الاحتلال ولعمليات الهدم والتنكيل، ووفقًا لتقديرات جامعة بن غوريون، تم منذ أربع سنوات تسليم أوامر هدم بحق (16.000) مبنى في القرى المذكورة. كما قامت سلطات الاحتلال منذ العام 2002 وحتى مارس/ آذار العام 2004 بإبادة نحو (24.500) دونم من المحاصيل الزراعية التي قام سكان القرى إياها بزراعتها، وذلك عن طريق استخدام الرشّ الجوّي للمبيدات.
وبالفعل، فإن أوضاع التّعليم في التجمعات البدوية في أرجاء النقب مقلقة، في مجتمع شاب، فيه نحو (54%) من السكّان البدو دون سنّ الـ (14) عاماً، ونحو (1.3%) منهم فقط هم فوق سنّ الـ (65) عاماً. حيث تصل نسبة تسرب الطلاب البدو قبل الوصول إلى الصف الثاني عشر إلى نحو (60%)، وهي أعلى لدى الفتيات في الصفوف العليا من المدرسة الثانوية، وتعكس في محتواها مؤشرات خطيرة تتعلق بالجانب التعليمي لبدو النقب، وكل ذلك جراء سياسات الاحتلال ومضايقاته المستمرة، وإحجام "إسرائيل" وجهاتها الرسمية عن تقدم الخدمات المطلوبة للتجمعات السكانية في النقب بما فيها التجمعات التي أقامتها سلطات الاحتلال.
أخيراً، فإن ما جرى بحق قرية العراقيب، مازال ينتظر باقي قرى منطقة النقب، في سياق المسعى الإسرائيلي لمحو هوية النقب العربية الفلسطينية، وتهويدها بالكامل.
(*) موقع الجزيرة/تحليلات
2010-08-08