ارشيف من :ترجمات ودراسات

من معاني المواجهة الأخيرة بين الجيشين اللبناني و"الإسرائيلي"

من معاني المواجهة الأخيرة بين الجيشين اللبناني و"الإسرائيلي"

الدكتور غسان عزي(*)

عبّر كثير من المحللين والسياسيين “الإسرائيليين”، ومنهم إيهودا باراك، عن مفاجأتهم ودهشتهم إزاء قيام الجيش اللبناني بالتصدي لمحاولة جنود “إسرائيليين” اقتلاع شجرة على الحدود بين الطرفين .وقد وعدت حكومة نتنياهو بمعاقبته وشن حملة دبلوماسية واسعة النطاق لدى العواصم الغربية لإقناعها بعدم مساعدته وتسليحه بعد اليوم .

تحمل المواجهة العسكرية بين الجيشين اللبناني و”الإسرائيلي” معاني عدة، من بينها أن مقولة تلاحم “الشعب والجيش والمقاومة” التي ما فتئ يرددها حزب الله ليست شعاراً ممجوجاً من دون معنى، فالجيش اللبناني قام بعمل اعتاد الجميع أنه من صلب مهام المقاومة، بعدما نسي أن واجب الدفاع عن السيادة في وجه العدوان الخارجي هو من مهام ومبررات وجود جيش نظامي وطني . ورغم إمكاناته المحدودة جداً وانكشاف قواته ومراكزه وثكناته أمام سلاح جو العدو، لم يتردد في مواجهة الجيش الأقوى في المنطقة دفاعاً عن أرضه وسيادته . وقد سقط له شهداء وجرحى لكنه أوقع خسائر في صفوف العدو واستحق التفاف اللبنانيين جميعاً حوله، كما عبّرت تصريحات السياسيين من كل الأطياف والمشارب السياسية والمذهبية خلال المواجهة وبعدها .

برهنت هذه المواجهة على قدرة حزب الله على ضبط النفس وعلى سيطرة قيادته على كل عناصرها المنتشرين في المنطقة الحدودية، فلا “عناصر غير منضبطة”، ولا تصرفات فردية ناتجة عن حماسة أو تأخر وصول الأوامر من القيادة إلى القاعدة . كما بين حزب الله مجدداً عن مهارة سياسية فائقة عندما التزم التريث مع المراقبة والجاهزية العالية في وقت وضع نفسه بتصرف الجيش . والأكثر من ذلك عرف أمينه العام السيد حسن نصرالله كيف يبرر للرأي العام اللبناني والعربي عدم تدخله في المعركة تفويتاً للفرصة على “الإسرائيليين” ومن يتهمه بأنه يفتش عن فرصة لتفجير الوضع الأمني تهرباً من عواقب القرار الظني الذي سيصدر قريباً عن المحكمة الدولية الذي سيتهم عناصر “غير منضبطة” في الحزب بقتل الرئيس الحريري، على ما تتسرب شائعات “إسرائيلية” المصدر . زد على ذلك أن السيد نصرالله أوضح في خطابه أن المرة المقبلة التي سيتعرض فيها الجيش اللبناني أو السيادة اللبنانية لأي اعتداء فإن الحزب سوف يتدخل، ولن يمكن عندها اتهامه بافتعال التوتر أو الحرب .

كشفت هذه المواجهة، كما سابقاتها، منذ وجود قوات اليونيفيل الأولى في العام 1978 ثم الثانية في العام ،2006 أن جنود هذه الأخيرة يبحثون عن النجاة بأنفسهم عندما يبدأ إطلاق النار، ولا يسعون لحماية المدنيين أو العمل على وقف هذه النار . إن عملهم يكاد يقتصر على كتابة التقارير والمراقبة ورعاية الاجتماعات والمباحثات و”حماية إسرائيل”، كما قالت ذات مرة أنجيلا ميركل غداة إرسال الكتيبة الألمانية إلى لبنان . وعلى رغم ذلك رفض “الإسرائيليون” أن يتركوا، ولو في الشكل من دون المضمون، أي دور لهؤلاء في قضية الشجرة التي فجرت الموقف، إن لجهة تكليفهم بقطعها بعد التنسيق مع الجانب اللبناني، أو الإشراف على عملية القطع بعد الاستحواذ على موافقة هذا الأخير . لقد تصرف “الإسرائيليون” وكأنما لا وجود لليونيفيل ولا لجيش لبناني على الحدود المتنازع عليها، ومع ذلك جاء تقرير اليونيفيل منحازاً للجانب “الإسرائيلي” بعد نهاية المواجهة العسكرية .

كما أكدت هذه المواجهة أن الانحياز الأمريكي ل “إسرائيل” هو من الثوابت الأمريكية التي لا تتغير بتبدل الإدارة بين ديمقراطيين وجمهوريين، فعلى الرغم من كل النداءات الأمريكية للجيش اللبناني بزيادة عدده وعديده في الجنوب اللبناني، ودعمها بالبيانات والتصريحات لهذا الجيش الذي ينبغي له أن يكون الجهة الوحيدة المولجة حماية السيادة وحمل السلاح، فإنها وقفت ضده في أول اشتباك مباشر مع حليفها “الإسرائيلي”، متهمة إياه بأنه البادئ بإطلاق النار من دون مسوغ ومبرر .

في المحصلة قامت “إسرائيل” عبر تحرشها بالجيش اللبناني باختبار ستكون دروسه ونتائجه حاضرة في عملية تخطيطها لحربها المقبلة ضد لبنان وربما تؤثر في توقيت هذه الحرب أيضاً . لقد وجدت في وجهها شعباً لا يخافها، إذ إن أنباء المواجهة العسكرية التي انتشرت فوراً عبر أثير الإذاعات والفضائيات لم تؤد مطلقاً إلى حالة ذعر أو نزوح لسكان الجنوب اللبناني الذين يتوقعون حرباً “إسرائيلية” طاحنة عليهم في كل لحظة . ووجدت في وجهها جيشاً لبنانياً لا يتردد في المواجهة بمعزل عن حسابات موازين القوى . ولأنه ما من أحد في لبنان أو خارجه يستطيع لوم الجيش على القيام بأقدس واجباته فهذا يعني أن “إسرائيل”، إذا ما فكرت في شن الحرب، ستجد في وجهها إجماعاً وطنياً يفوّت عليها فرصة اللعب على الانقسام الداخلي اللبناني .

لقد قامت “إسرائيل” بمجرد اختبار، ومن المؤكد أنها لم تكن تبحث عن ذريعة لعدوان جديد على لبنان، بدليل أنها لم تسع لتوسيع نطاق المواجهات ولم تقم بحشود عسكرية بعدها . ومن جهته لم يحاول حزب الله استثمار الفرصة لتفجير حرب جديدة يتهمه خصومه بأنه يسعى إليها . وهذا ما يسمح بالاستنتاج أن ظروف الحرب “الإسرائيلية” على لبنان لم تنضج بعد، وليس ما يدل على أنها سوف تنضج في الأشهر القليلة المقبلة على ما يتوقع كثيرون، فالاختبار الذي جرى سيقنع “الإسرائيلين”، على الأرجح، بالمزيد من الانتظار . في هذا الوقت سوف يستمرون في محاولاتهم إشعال الفتن بين اللبنانيين بمناسبة المحكمة الدولية وفي كل المناسبات .
(*) موقع دار الخليج

2010-08-10