ارشيف من :أخبار لبنانية
لماذا يخافون من مقابرنا؟
"تشرين" - د.بثينة شعبان
بعد هدم جميع منازل قرية العراقيب الفلسطينية ومحوها من الوجود ارتكبت حكومة الاحتلال الإسرائيلي جريمة تجريف مقبرة القرية لإلغاء الذاكرة والتاريخ لهذه القرية الفلسطينية كما محوا مئات القرى الفلسطينية من الوجود في الماضي. وبعد ذلك بأيام قامت قوات الاحتلال بإزالة 150 مدفناً في مقبرة (مأمن الله) التاريخية في القدس والتي تعد من أعرق وأكبر المقابر الإسلامية في القدس. وكانت هذه المقبرة تضم قبل الاحتلال رفات الآلاف من الصحابة والتابعين والعلماء والقادة والشهداء وكانت مساحتها تبلغ مئتي دونم، ولكن لم يتبق منها سوى 20 دونماً بسبب الاعتداءات الإسرائيلية عليها. وفي الوقت ذاته أحرق المستوطنون مئات الدونمات الزراعية الفلسطينية في الضفة كما يستمرون بهدم المنازل وتهجير السكان الأصليين خاصة بعد أن أصدروا قانوناً بمصادرة أملاك الفلسطينيين (الغائبين) الذين هجرهم الاحتلال من ديارهم ولا يزال يحرمهم من حق العودة ثمّ يصادر الآن ديارهم وأملاكهم وأرزاقهم بحجة غيابهم. لا بل إن الحكم العنصري في إسرائيل وبالتزامن مع مصادرته لأملاك اللاجئين الفلسطينيين بعد أن اقتلعهم منذ أكثر من ستين عاماً من جذورهم ورمى بهم إلى الشتات قد طالب الدول العربية بإعادة ممتلكات اليهود العرب الذين هاجروا إلى "اسرائيل" بضغط منها ومن حلفائها.
هذه الاعتداءات السافرة على رفات الأموات بعد اليأس من كسر إرادة الأحياء تؤشر إلى إفلاس يقضّ مضاجع الإسرائيليين اليوم والذي يحاولون عبره محوّ ذاكرة القرى والمدن الفلسطينية حتى بعد أن هجروا السكان الأصليين لأنهم يخشون أن يستيقظ التاريخ حتى من القبور فيلاحقهم في نومهم ويقظتهم فتستحيل الحياة عليهم فتراهم تقضّ مضاجعهم حتى أرواح الموتى الراقدة منذ قرون في القبور. وفي هذا مفارقة صارخة مع تعامل العرب والمسلمين مع المقابر والمعابد اليهودية الموجودة في الدول العربية، حيث إنها ورغم الحروب التي نشبت بين العرب والكيان الصهيوني لم تتم إزالة قبر يهودي واحد أو كنيس واحد لأن هذا ليس من شيم العرب والمسلمين ولا يمتّ لأخلاقهم الرفيعة بصلة، وذلك أيضاً لأن العرب يحترمون كلّ القبور وكلّ المعابد ويعتبرون تجريف القبر اعتداء على حرمة وقدسية الإنسان الذي هو صورة الله على الأرض. ورغم كل هذه الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون، والتي لا يقابلها العرب بالمثل في أي من عواصمهم، فإن الخوف الإسرائيلي من العرب وكلّ من يؤيد حقوقهم بلغ أشدّه في المرحلة الأخيرة وتمّ التعبير عنه بطرق مختلفة.
أحد مظاهر هذا الخوف هو اتهام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز الشعب البريطاني كله بأنه ضدّ السامية متغافلاً عن حقيقة إهداء حكومة بريطانيا فلسطين للعصابات الصهيونية من خلال وعد بلفور حيث تبدو التهمة معبرة عن خلل في توازن بيريز وليس المتهم. إذ رغم ما تحاول إسرائيل إبرازه من قدرات نووية وصاروخية ورغم مليارات الدولارات التي تقدّم إليها سنوياً من حكومة الولايات المتحدة فلا شك أن تسلسل الأحداث في الأعوام الأربعة الأخيرة بدأ يلقي بثقله على الثقة الإسرائيلية بما ترتكبه إسرائيل من جرائم وأثرها على مستقبل كيانها المشيد على الاغتصاب لحقوق العرب. فقد عبرت حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) المحيط الأطلسي للمرة الأولى حيث اتخذت شركة غذائية في واشنطن قراراً تدعو فيه إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. هذه الحركة التي تأسست في العام 2005 وأثارت وعياً أوروبياً ودولياً بضرورة مقاطعة إسرائيل تهدف إلى إنهاء الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لكل الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967، وإنهاء التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين والاعتراف بحق الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، كما أكده قرار مجلس الأمن رقم 194, وقد نفذت هذه الحركة إلى الضمير العالمي بعد الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة عام 2009، وخاصة بعد مهاجمة سفينة مرمرة عام 2010 وقتل تسعة من المتطوعين العزل لفك الحصار بحيث بدأ العالم يحاصر مرتكبي جريمة حصار غزة وكأن صرخة محمود درويش (حاصروا الحصار) قد وصلت إلى مبتغاها اليوم وبدأ مثقفون وفنانون وموسيقيون أحرار بإلغاء حفلات ومناسبات مقررة لهم في إسرائيل فتمّ من خلال كلّ ذلك عبور عتبة الخوف من تهمة اللاسامية التي وضعت إسرائيل لسنوات طويلة فوق المحاسبة والقانون الدوليّ. وحتى في إسرائيل تشكلت حركة المقاطعة من الداخل عام 2009، مما يؤكد، كما يقول عمر البرغوثي في مقاله (محاصرة حصار إسرائيل) (الغارديان) 12 آب 2010 أن لحظة (جنوب إفريقيا الفلسطينية قد حانت). أحمد مور في (الهوفينغتون بوست) (9 آب 2010) يكتب أنه لا يمكن لإسرائيل أن تكون يهودية وديمقراطية في الوقت ذاته ويفنّد عنصرية إسرائيل وتمييزها العنصري المفضوح ضد السكان الأصليين. أما كريستوفر غونيس فقد اتهم سلطات الاحتلال الإسرائيلية ببث تقرير (جملة أكاذيب) حول الأونروا وعملها مع اللاجئين الفلسطينيين. إن كلّ هذه التطورات في الصراع العربي- الإسرائيلي، إضافة إلى تحوّل دور تركيا لصالح العدالة في فلسطين، وفشل الإدارة الأميركية بصياغة مقترحات معقولة للسلام يجعل اسرائيل التي كانت تدّعي القوة والنفوذ في الشرق الأوسط تخشى على قدراتها على ارتكاب الجرائم دون حساب لأنها تعلم من التجربة عجزها عن استخدام الأسلحة النووية المحرمة دولياً في وجه المؤمنين بالدفاع عن حقوق الانسان في فلسطين وخاصة الحق في الحرية والعدالة.
ليس من المبالغة في شيء القول: إن الشرق الأوسط قد تغيّر بفضل الكفاح من أجل العدالة وصمود الضلع المقاوم في هذه المنطقة من دول وأحزاب والتحولات الاستراتيجية وأهمها نهوض تركيا كدولة يحسب لها حساب في الدفاع عن العدالة، إذ ليس من الحكمة إغفال استخدام رئيس وزراء بريطانيا دافيد كاميرون تعبير رجب طيب أردوغان بوصف غزة بأنها أكبر سجن في العالم. وقد انتفى اليوم مصطلح تقسيم المنطقة إلى أصدقاء وأعداء من قبل الإدارة الأميركية وإلى راديكاليين ومعتدلين، حتى وإن كانت الإدارة الأميركية الحالية ما زالت تتمسك بدعم المتطرفين الإسرائيليين، ولكن على الأرض وفي أذهان شعوب هذه المنطقة حُسمت الأمور بين متواطئ يحمل في جيبه قراراً أميركياً بدعم الاستعمار الإسرائيلي وبين مقاوم يعمل بكلّ الوسائل لصياغة مستقبل هذه المنطقة بما يتناسب وحرية ومصالح شعوبها بعيداً عن الفتن الطائفية والعرقية التي تحاول الدوائر الاستعمارية الترويج لها. وإذا كان القابعون وراء المحيط لا يدركون أهمية ودلالات هذا التحول فإن الكيان الصهيوني يدرك أهميتها، ولذلك فقد أصبح مزروعاً بالخوف حتى من قبور الأموات وليس فقط من إرادة الأحياء.
وإذا كان بعض المفكرين في الغرب ما زال يفكر بعملية سلام لعزل حماس أو عزل إيران أو دبّ الفرقة بين الأطراف المقاومة في المنطقة فإن كلّ ما يفعلونه هو خسارة الوقت للطرف الذي يصيغ المستقبل حسب نبض وتوجهات أبناء هذه المنطقة.
وعلّ استطلاع الرأي الذي قام به مؤخراً شبلي تلحمي في جامعة ميريلاند يشكّل نافذة حقيقية ينقل عبر المحيط الواقع الجديد هنا في منطقة الشرق الأوسط للطرف البعيد هناك خلف المحيط والذي فشل فشلاً ذريعاً في فهم طموحات وقوة وإرادة أبناء هذه المنطقة التي تعبق بالتاريخ والانتصار على الغزاة مهما طال أمد ظلمهم وتعددت غزواتهم. فقد أشار هذا الاستطلاع إلى أن رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا هو الأول في الشعبية 20% ويليه هوغو شافيز 13% وبعده الرئيس محمود أحمدي نجاد 12%. والأخبار التي وصفت بأنها أخبار سيئة للبيت الأبيض هي أن 77% من الذين تمّ استطلاع رأيهم يعتقدون أن لإيران الحق في الطاقة النووية و57% منهم يعتبرون أن إيران النووية ستكون أفضل للشرق الأوسط. وهذا يبرهن على الهوة الكبرى بين تفكير الإدارة الأميركية وتوجهات شعوب هذه المنطقة. حين ضغطت أوروبا القلقة على الولايات المتحدة لإيقاف الحرب على لبنان عام 2006، أجابت كوندوليزا رايس بأنه (ليس للولايات المتحدة مصلحة بإعادة المنطقة إلى الحال الذي كانت عليه) بالتأكيد لم تعد المنطقة للحال الذي كانت عليه بل أخذت توجهاً جديداً ومهماً بصياغة مستقبلها بطريقة تضمن حرية وكرامة أبنائها واستقرار بلدانهم، ولكن بقي أن يعترف البيت الأبيض ومتخذو القرار بهذه الحقيقة التي أصبحت ساطعة كالشمس هنا والتي تفسّر أسباب خوفهم حتى من مقابرنا. فهل نرتقي نحن أيضاً إلى هذا المستوى الجديد الذي بدأت بشائره تنتشر في أصقاع العالم وتؤكد أن مستقبل فلسطين لن يكون سوى مستقبل جنوب إفريقيا التي انتصرت على العنصرية والأبارتايد بعد أن نفذت إلى ضمائر شعوب العالم.