ارشيف من :آراء وتحليلات
مناورات البحر الأصفر: تصعيد أميركي أم زوابع لحفظ ماء الوجه؟
عقيل الشيخ حسين
في آذار/ مارس الماضي، غرقت بارجة تابعة للبحرية الكورية الجنوبية في مياه البحر الأصفر على مقربة من الحدود البحرية المتنازع عليها وغير الواضحة المعالم بين شطري كوريا الجنوبي والشمالي. وقتل في الحادث 46 بحاراً كورياً جنوبياً.
وخلص تحقيق أجرته كوريا الجنوبية، بالاشتراك مع فريق متعدد الجنسيات، إلى نتيجة مفادها أن البارجة قد أغرقت بقذيفة طوربيد أطلقتها سفينة تابعة للبحرية الكورية الشمالية. لكن كوريا الشمالية نفت أية علاقة لها بالحادث.
وعلى الرغم من نتيجة التحقيق الكوري الجنوبي، فإن كوريا الجنوبية لم تقم بأي إجراء ثأري إزاء كوريا الشمالية. والأكيد أن هذا الموقف لم يتخذ إلا بعد أخذ رأي الحليف والحاضن الأميركي.
وهكذا أخذ الملف طريقه إلى مجلس الأمن الذي أصدر في أوائل تموز/ يوليو الماضي بياناً رئاسياً أدان فيه الهجوم دون أن يتهم جهة معينة. والواضح أن المجلس الذي طالما أثبتت التجارب أن قراراته كثيراً ما يتم اتخاذها لتحقيق غايات سياسية، ودون تحري الدقة والنزاهة في تحديد المواقف، لم يعفّ عن إدانة كوريا الشمالية إلا خوفاً من رد الفعل الصيني، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة بأمسّ الحاجة إلى تأييد الصين لفرض عقوبات دولية على إيران.
لذا تقرر أن يكون الرد على كوريا الشمالية أميركياً ـ كورياً جنوبياً. وان يأخذ ـ بدلاً عن الحرب ـ شكلاً تفوح منه رائحة الحرب: مناورات عسكرية ضخمة تجري في المكان الذي أغرقت فيه البارجة الكورية الجنوبية، أي في البحر الأصفر الفاصل بين شطري كوريا من جهة، لناحية الغرب، وقسم من السواحل الصينية لناحية الشرق من جهة أخرى. أما الهدف فهو توصيل رسالة إلى كوريا الشمالية مفادها أن سلوكها العدواني يجب أن يتوقف، على ما ورد في بيان مشترك صدر عن وزيري الحرب الأميركي والكوري الجنوبي.
لكن الرسالة لم تكن موجهة إلى كوريا الشمالية وحدها، بل خصوصاً إلى حاضنها الصيني. كما لم تكن رسالة من النوع الخجول. فالحقيقة أن ضخامة المناورات لافتة، حيث تقرر أن يشارك فيها ثمانية آلاف جندي أميركي وكوري جنوبي ونحو عشرين قطعة بحرية على رأسها حاملة الطائرات الأميركية "يو إس إس جورج واشنطن"، ومن بينها عدد من الغواصات القادرة على إطلاق رؤوس نووية.
والأشد خطورة أن المناورات كانت ستجري في مكان يعتبر "بوابة الصين" وممراً حيوياً نحو تيانجين والعاصمة بكين. وقد سبق في الماضي أن كان احتلال البحر الأصفر من قبل جيوش أجنبية، كالجيش الياباني، مقدمة لاجتياح الصين عبر خاصرتها الرخوة تلك.
ثم إن حاملة الطائرات الأميركية "يو إس إس جورج واشنطن" يمكنها أن تشن عمليات حربية وتجسسية في مجال يصل إلى ألف كلم، أي أن العاصمة الصينية بكين التي تبعد 500 كلم عن مكان إجراء المناورات تقع داخل دائرة القدرات الأميركية.
لذا كان من الطبيعي، منذ لحظة الإعلان عن هذه المناورات التي مهدت لها زيارة مشتركة إلى كوريا الجنوبية قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، ووزير الحرب الأميركي، روبرت غيتس، ألا تكف الصين عن إطلاق التحذيرات من عواقب إجراء هذه المناورات التي تنطوي على تهديد مباشر لأمن الداخل الصيني.
كما لم تكف كوريا الشمالية، وبدون الرجوع إلى الحليف الصيني، عن التهديد بشن حرب مقدسة، دون استبعاد اللجوء إلى استخدام السلاح النووي.
وبالطبع، فإن الولايات المتحدة المتورطة في أكثر من حرب، وفي أكثر من أزمة سياسية ومالية، لا يمكنها أن تصم أذنيها عن التحذيرات الصينية في وقت يمسك فيه اليوآن الصيني بخناق الدولار الأميركي، ولا عن التهديدات الكورية الشمالية التي تمتلك رؤوساً نووية يمكنها أن تصل إلى السواحل الأميركية على المحيط الهاديء أو، على الأقل، يمكنها أن تأخذ بخناق عشرات الألوف من الجنود الأميركيين المنتشرين في قواعد في كوريا الجنوبية واليابان.
لذا، وبعد أن كادت الولايات المتحدة تسحب حاملة الطائرات "يو إس إس جورج واشنطن" من المناورات في محاولة للتخفيف من الحنق الصيني، عادت وفضلت سحب المناورات برمتها من البحر الأصفر إلى بحر اليابان، مبتعدة بذلك عن السواحل الصينية. وعلى الفور، خرجت صحف غربية بتعليقات قاسية اتهمت فيها الولايات المتحدة بالانحناء أمام الرغبات الصينية.
وبعد أسبوع واحد من هذه المناورات، قامت كوريا الجنوبية بإجراء مناورات منفردة إضافية وغير لافتة في البحر الأصفر، وهو الأمر الذي تم دون كبير اهتمام من قبل الصين، وإن كانت كوريا الشمالية قد أبرقت وأرعدت، كما في العادة، ولكن دون أن يتعدى الأمر حدود البرق والرعد.
وقد بدا للحظة أن الأمور قد وقفت عند هذا الحد. غير أن الإعلان عن مناورات أميركية كورية ـ جنوبية جديدة، أكثر ضخامة بكثير من المناورات السابقة، ستبدأ في 16 آب/ أغسطس وفي البحر الأصفر تحديداً، وبمشاركة "يو إس إس جورج واشنطن"، أعاد خلط الأوراق خلطاً منكراً.
وخصوصاً أن هذه المناورات التي ستستمر لمدة اسبوعين سيشارك فيها 30 ألف جندي أميركي و56 ألف جندي كوري جنوبي، إضافة إلى مشاركة جنود أميركيين آخرين يتمركزون في الولايات المتحدة وتتم مشاركتهم عبر شبكات معلوماتية.
ولم يقف خلط الأوراق عند هذا الحد، إذ ستجري في الفترة نفسها تدريبات مشتركة ضد الإرهاب يشارك فيها نحو 400 ألف جندي كوري جنوبي، تحسباً لقمة مجموعة العشرين المزمع عقدها في سيول، في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
وكل ذلك، دون أن تصدر عن بكين ردود بمستوى ضخامة هذه التطورات.
هل يعني ذلك أن الولايات المتحدة قد قررت المضي قُدماً، برغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر كبرى؟ أم أن طوفان المناورات الضخمة هو نتاج صفقة تسمح للولايات المتحدة باستعراض هيبتها وحفظ ماء وجهها دون تحقيق تقدم ميداني؟