ارشيف من :آراء وتحليلات
نتنياهوـ بابندريو: رهان الفاشل على الفاشل!
عقيل الشيخ حسين
بعد تاريخ طويل مشحون بالأحقاد والحروب. وبقضايا خلافية منها ما هدد لعهد قريب بنشوب حروب جديدة، حدث خلال الأعوام القليلة المنصرمة ـ والفضل في ذلك يعود إلى تلمس تركيا طريق العودة إلى موقعها وذاتها ـ أن طرأ بعض التحسن على العلاقات التركية اليونانية. لكن هذا التحسن الضروري الذي تقتضيه مصالح البلدين وقضية الاستقرار والأمن في منطقة تأمل سياسات الهيمنة بجعلها مسرحاً للتدمير الذي يأخذ اسم الفوضى البناءة، يتعرض اليوم لاهتزاز حقيقي. السبب الرئيسي لهذا الاهتزاز هو انزعاج قوى الهيمنة إزاء التحولات الكبرى في المواقف التركية. وقيام جوقة عالمية مهمتها العمل على مضايقة تركيا بكل السبل الممكنة.
فالعلاقة واضحة بين الزيارة غير المسبوقة التي قام بها، خلال اليومين الماضيين، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو، إلى العاصمة اليونانية، وبين التهديدات التي أطلقها باراك أوباما بحق تركيا بسبب مواقفها، تحديداً، من إيران و"إسرائيل"، وهي التهديدات التي تزامنت معها تصريحات أيمن الظواهري التحريضية ضد تركيا.ففي الوقت الذي ظهرت فيه بجلاء أصابع التلاعب الأميركي الإسرائيلي بالقضيتين الكردية والأرمنية، في محاولة لإرباك تركيا على حدودها الشرقية والجنوبية الشرقية، تمتد الأصابع نفسها اليوم، في محاولة لإرباك تركيا على حدودها الغربية، من خلال تحريك المياه الراكدة في ملف العلاقات التركية اليونانية.
ويتم ذلك، بوجه خاص، عبر الاستفادة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة التي تعاني منها اليونان، وخصوصاً عبر الاستعداد الذي تبديه، بشكل يفتقر إلى المسؤولية والحكمة، حكومة رئيس الوزراء اليوناني، جورج باباندريو، للانضمام إلى جوقة التهويش على تركيا. ففي الوقت الذي يمكن فيه لليونان أن تجد في تركيا خير معين لها في حلحلة أزمتها الاقتصادية بعيداً عن براثن صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الأوروبية، نجد باباندريو يتصرف بشكل يفتقر حتى إلى اللياقة الديبلوماسية، عندما يقوم بزيارة إلى "إسرائيل" في واحدة من أكثر لحظات وحشتها إلى التضامن الخارجي، في اعقاب الجريمة التي ارتكبتها بحق أسطول الحرية، وبحق تركيا تحديداً.
هذه الزيارة تأتي في سياق لهاث محموم من قبل الحكومة اليونانية للحصول على الحظوة من قبل الإسرائيليين. فقد استرعى الانتباه، عند بدء تفجر الأزمة المالية في اليونان، إرسال وفد يوناني إلى "إسرائيل" بدعوى الاستفادة من خبراتها في مجال الإدارة المالية. لكن ذلك لم يكن إلا مجرد دعوى، لأن الزيارة كانت بهدف الاستفادة من نفوذ جماعات الضغط اليهودية في الغرب للتأثير خصوصاً على قرارات صندوق النقد الدولي الذي اضطلع، في النهاية، بمهمة تقديم جزء أساسي من القروض المفترض فيها أن تساعد اليونان على الخروج من أزمتها المالية.
كما استرعى الانتباه، سماح حكومة باباندريو، قبل عامين، لأكثر من مئة طائرة حربية إسرائيلية بالتدرب في الأجواء اليونانية ضمن إطار مهمة هدفها توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية إلى إيران... بعد الفشل الذي أصاب هذه المساعي في جورجيا.ومع رد الزيارة من قبل نتنياهو، وهي الزيارة التي قوبلت بمظاهرات شاجبة شهدها الشارع اليوناني، يأمل باباندريو بالتحول إلى لاعب فعال في ملف مشكلة الشرق الأوسط، فقد اتصل، قبيل استقباله نتنياهو بالرئيسين المصري والفلسطيني وبالأمين العام للجامعة العربية، في مسعى للدفع إلى الأمام بملف المفاوضات المباشرة، وكذلك في محاولة للحلول محل تركيا في الوساطات التي انتهى أجلها بين العرب والإسرائيليين.
صحيح أن مساعي باباندريو هذه قد تسفر عن بعض الفوائد في استدراج استثمارات إسرائيلية، أو في تحويل وجهة السياح الإسرائيليين من تركيا إلى اليونان، أو في الحصول على دعم المتمولين اليهود في المحافل المالية الدولية، لكنها تنطوي على مجازفة غير مبررة بمصالح اليونان الاستراتيجية. وهي المصالح التي كانت اليونان قد أدركتها، برغم عضويتها في الحلف الأطلسي، قبل تركيا بزمن طويل.فالمعروف، بحكم تناقضاتها الحادة مع تركيا المرتمية، أيام الحكم العسكري، في أحضان حلف الناتو، والمتحالفة بشكل لا هوادة فيه مع "إسرائيل"، والمدعومة من قبل الغرب في الملف القبرصي، أن اليونان طالما التزمت مواقف منسجمة مع التطلعات التحررية في العالم الثالث عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً.
فهي لم تقم علاقات ديبلوماسية فعلية مع "إسرائيل" إلا بعد أن كرت سبحة العلاقات المباشرة وغير المباشرة بين " إسرائيل" ومعظم الدول العربية والإسلامية.لكن هذا الإدراك اليوناني يلتزم اليوم وجهة الطيش الذي بات يحكم، على خطى بوش وأوباما ونتنياهو وما يتبعهم من جوقات التهويش الفاشلة، مجمل السياسات الاستكبارية. إذ بدلاً من أن تحافظ اليونان على مصالحها الاستراتيجية من خلال الوفاء لمواقفها المعهودة في لعب دور ريادي في تعزيز التوجه التحرري المتصاعد في المنطقة، حول إيران وسوريا وتركيا وقوى المقاومة، نراها تنساق إلى الدخول في دوامة الرهانات البائسة على الولايات المتحدة و"إسرائيل".
رهانات كان من الممكن وصفها بالمعقولية والبراغماتية يوم كانت ساعة العالم تضبط على ساعة واشنطن وتل أبيب. فبِمَ يمكن وصفها اليوم في الوقت الذي بدأت تقوم فيه الساعة على واشنطن وتل أبيب؟! أما رهانات الإسرائيليين على اليونان المتشحطة في أزماتها الراهنة، بعد فشلهم برغم كل ما يحظون به من دعم أميركي ودولي، فليست أقل بؤساً من رهانات اليونان على المعسكر الفاشل.