ارشيف من :آراء وتحليلات
اصطياد سياسي ومالي في مياه باكستان العكرة!
ربع مساحة الأراضي الباكستانية أصبح الآن مغموراً بالمياه المندفعة من الشمال باتجاه الجنوب، جارفة في طريقها المدن والقرى والأراضي الزراعية. والخوف من تزايد الضغط على عدد من السدود في جنوب البلاد دفع السلطات المحلية إلى تحويل مجرى المياه نحو المزيد من الأراضي الزراعية.
هذا يعني أن باكستان باتت معرضة، إضافة إلى عشرين مليون متضرر، وأربعة ملايين إنسان فقدوا منازلهم، وخمسة ملايين أكثر من نصفهم من الأطفال تهددهم الأمراض المعدية، وموجات الوفيات التي أتت على ألوف الأشخاص... باتت معرضة إلى كارثة غذائية، بسببب دمار قسم كبير من المحاصيل الزراعية، واستحالة العودة إلى استخدام الأراضي، خلال السنوات الخمس القادمة، فيما لو توقف الطوفان، وتم استصلاح ما يمكن استصلاحه. لكن الأمل بذلك قليل. فالكلام يتصاعد داخل باكستان وخارجها عن فساد الحكومة، وعن توجيه المساعدات في غير الوجهة المخصصة لها.
وفي الوقت الذي حثت فيه طالبان باكستان حكومة الرئيس زرداري على رفض قبول المساعدات لأن مسؤولين فاسدين سيستولون عليها، كتبت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأميركية بأن أميركيين من أصل باكستاني يترددون في إرسال التبرعات إلى باكستان لاعتقادهم بأن الأموال قد تذهب إلى جيوب المسؤولين الفاسدين.
وفي السياق نفسه، تفجرت في أجواء الفيضانات فضيحة حول مصير نحو 500 مليون دولار من المساعدات المالية التي قدمت إلى باكستان بعد أن ضربها زلزال مدمر عام 2005، أدى إلى مقتل 80 ألف شخص وشرد نحو اربعة ملايين شخص. وقالت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية ان المنازل والمدارس والمستشفيات والطرقات التي كان يفترض بناؤها بتلك الأموال لم تزل حبراً على ورق، بينما تم تحويل الأموال إلى جهات أخرى.
وتذهب التعليقات إلى القول بأن الخوف من قيام مسؤولين باكستانيين بابتلاع ما قد يرسل من مساعدات إلى متضرري الفيضانات الحالية، هو ما يبرر شح هذه المساعدات وتباطؤها، على الرغم من التقارير الدولية التي تؤكد أن حجم الأضرار التي لحقت بباكستان يزيد عن تلك التي خلفها التسونامي الذي ضرب سواحل المحيط الهندي والزلزال الذي ضرب هايتي مجتمعين.
ولكن، يبدو أن التقاعس الدولي في هذا المجال لا يعود فقط إلى المخاوف المذكورة. فالقاصي والداني بات يعلم أن ابتلاع أموال ما يسمى بمساعدات التنمية التي تقدمها البلدان الغنية إلى العالم الثالث بات تقليداً معروفاً، وأن ما لا يزيد على خمسة بالمئة من هذه المساعدات يصرف على المشاريع التنموية المزعومة بينما يتم تقاسم الـ 95 بالمئة المتبقية بين قائمة طويلة من المستفيدين بدءاً بمسؤولي وبشركات البلدان المانحة وانتهاءً بمسؤولي البلدان الممنوحة وسلاسل السماسرة من كل صنف ولون. وبالتالي، فإن الفساد الحكومي في باكستان ليس خروجاً على القاعدة، ولا يكفي كمبرر لشح المساعدات وبطئها. بل يمكن القول بأن الفيضانات تستخدم من قبل الغربيين، إضافة إلى تأثيراتها التدميرية على البلد برمته، كفرصة ثمينة للتشنيع على الحكومة الباكستانية بسبب ما يقدم على أنه تقاعس من جهتها في القيام بواجباتها كحليف أساسي للأطلسي في الحرب الأفغانية.
فقد حدثت الفيضانات بعد أيام قليلة من حملة عنيفة شنها رئيس الوزراء البريطاني، من الهند، على الحكومة الباكستانية، انطلاقاً من تقارير ويكيليكس التي اتهمتها بالازدواجية في الحرب على ما يسمى بالإرهاب. وهذه الحملة جاءت حلقة في مسلسل غربي طويل من الاتهامات الموجهة إلى باكستان في هذا المجال.
ويبدو الاصطياد الأميركي في مياه الفيضانات الباكستانية العكرة واضحاً تمام الوضوح لجهة توظيفاته السياسية. فبالكاد وصل حجم المساعدات الأميركية التي وصلت إلى منكوبي باكستان على دفعات إلى 90 مليون دولار، اي بمعدل أربعة دولارات لا تسمن ولا تغني من جوع لكل متضرر، هذا في حال وصولها إلى المتضررين.
وعلى هزال المبلغ، تفوه المبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان وباكستان، ريتشارد هولبروك، بكلام غير لائق بحق الصين وإيران والاتحاد الأوروبي، ووجه صفعة إلى الحكومة الباكستانية عندما أدلى بتصريح قال فيه "سوف يشهد شعب باكستان أنه حين تقع الأزمة تنهض الولايات المتحدة للمساعدة وليس الصين أو إيران أو الاتحاد الأوروبي وغيره"! ولكن الصفعة الأشد هي التي وجهها إلى الشعب الباكستاني الذي حاول خداعه عندما قال بأن تلك المساعدات الهزيلة "سيكون لها أثر دائم"!
وحول المساعدات أيضاً وأيضاً، أجهدت الأمم المتحدة نفسها في تحصيل ما يقل عن نصف مبلغ الـ 460 مليون دولار الهزيلة والمطلوبة كمساعدات عاجلة لمنكوبي باكستان، وذلك خلال ثلاثة أسابيع من العمل الدؤوب، بينما لم تظهر أية مخاوف من فساد الحكومة الباكستانية عندما هرعت المؤسسات المالية العالمية، من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإسلامي والبنك الياباني وغيرها، لتقديم عروض سخية لإقراض باكستان مبالغ بالمليارات وبالفوائد وخدمات الفوائد الباهظة والسيئة الذكر والتي سيكون لها أثر دائم في دفع باكستان نحو غرق أشد نكيراً عليها من الغرق في مياه ووحول الفيضانات.