ارشيف من :آراء وتحليلات
نيويورك "منارة" الإسلام المعتدل!
لا يمر يوم إلا ويتعرض فيه الإسلام إلى إساءة جديدة من العيار الكبير، من خلال استهداف كبار رموزه: الذات الإلهية، القرآن الكريم، الرسول الأكرم (ص)، المسجد الأقصى. هذا دون الحديث عما لا يحصى من إساءات ترتكب كل ثانية في أجهزة الإعلام المختلفة، ومنها ما تحتضنه بلدان "إسلامية"، من خلال عرض مشاهد وأنشطة ومفاهيم مخالفة لروح الإسلام... لتفعل فعلها البطيء في تسميم الوعي الإسلامي. ودون الحديث أيضاً عن الأعمال الميدانية التي يساء فيها إلى الإسلام من خلال قتل المسلمين، فرادى وجماعات، واحتلال بلادهم، ونهب خيراتهم، وإهانتهم بألف صورة وشكل.
لاحظوا مثلاً، والأمثلة صارت مملة لكثرة تواترها، تلك الصورة التي نشرتها محطات التلفزة، لذلك الشاب الفلسطيني الذي أجبره جنود الاحتلال على خلع ملابسه والجري عارياً أمام سيارة الجيب العسكرية التي كانت تلاحقه وتهم بدهسه.أو صورة تلك الفتاة الفلسطينية التي أطلق عليها جنود الاحتلال كلابهم البوليسية التي رمتها أرضاً وجرجرتها وأوسعتها عضاً ونهشاً ومزقت ثيابها أمام أعين الجنود الصهاينة. وكل ذلك يمر، وسط الصمت المطبق، كما ولو أنه يجري في كوكب آخر. أو
كأنه مقتطع من بعض الأفلام الخيالية.
ولاحظوا، بالعودة إلى الأحداث ذات التداعيات، والتداعيات الواسعة، على صعيد الكلام، أن السيئ الذكر، فيلمينغ روز، محرر الصفحة "الثقافية" في صحيفة يولاندس بوستن الدانماركية السيئة الذكر، يستعد الآن لإعادة نشر الرسوم ذاتها في كتاب قال إنه سيصدر في 30 أيلول/ سبتمبر المقبل، بمناسبة مرور خمس سنوات على نشر تلك الرسوم في صحيفته.وهي الرسوم التي أعادت نشرها صحف أوروبية وأميركية أكثر من مرة، وقلدتها في ذلك صحف عربية.ولاحظوا في السياق نفسه، أن القس تيري جونز، راعي إحدى الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة، يطلق دعوات لإحراق نسخ من المصحف الشريف، في 11 أيلول/ سبتمبر المقبل بمناسبة ذكرى الهجمات على نيويورك وواشنطن. وهو عازم شخصياً على إحراق عدد من النسخ مدعياً بأن "القرآن مليء بالأكاذيب".والقس نفسه سبق له، في العام الماضي، أن علق أمام كنيسته، لافتات كتب عليها عبارة "الإسلام من الشيطان".
وكل هذا يضاف إلى العديد من عمليات تدنيس المصحف من قبل الجنود الأميركييين في غوانتنامو وغير غوانتنامو. وكل هذا "تتسامح" معه السلطات في أميركا وأوروبا باعتبار أنه مظهر من مظاهر حرية التعبير المقدسة. كذب على المكشوف أو، على الأصح، صدق في التعبير عن قلة الاعتبار تجاه المسلمين ممثلين بملوكهم ورؤسائهم وأمرائهم، لأن السلطات نفسها تنزل أشد العقوبات بكل من تسول له نفسه أن يمارس حريته في التعبير عندما يتعلق الأمر بإنكار المحرقة، أو بكل من يجرؤ على التفوه بكلمة لا ترضي الصهاينة.
وكل ذلك في تناقض صارخ مع السياسات الرسمية التي يحرص الناطقون باسمها على التأكيد في المناسبات والاستقبالات وجولات الحوار بين الأديان على عميق احترامهم للإسلام. للإسلام المعتدل بالطبع، على أساس أن ما يسمى بالحرب على الإرهاب هي حرب على الإسلام المتطرف والمتشدد والأصولي. وعلى الأساس نفسه، وطالما أن المتسامحين مع الإساءات الكبرى هم أنفسهم من يشن الحرب على ما يسمى بالإرهاب، لا يكون هنالك متسع في الإسلام المعتدل للذات الإلهية والقرآن الكريم والرسول الأكرم والحجاب والنقاب والمآذن والمساجد واللحم الحلال وصولاً إلى آخر الرموز التي تتعرض للملاحقة والاضطهاد في بلدان الغرب.ما عدا المسجد والمركز الثقافي الإسلامي الضخم الذي وافقت بلدية نيويورك على بنائه قرب موقع برجي التجارة العالميين اللذين تعرضا لهجمات 11 أيلول /سبتمبر 2001. فقد حظي المشروع بمباركة الرئيس الأميركي.
ولا حرج، فالإسلام المعتدل الذي ولدت فكرته في الغرب يحتاج إلى مسجد معتدل يرتفع صرحه في الغرب وتحديداً في قلب نيويورك، وبناؤه هناك، على ما يقوله إمام مسجد "الفرح" (أنظر سورة القصص، الآية 76) في نيويورك، "أمر مطلوب لذاته لأنه يحمل رسالة ذات مغزى تهدف إلى ردع المتطرفين...".
ولا تقل حماسة الإمام المذكور عن حماسة الحاخام آرثر واسكو، مدير مركز "شالوم"، الذي وجد في بناء ذلك المسجد أمراً حكيماً لأنه يرفع اسم نيويورك كمنارة للإسلام الذي يبحث عن السلام وعن الحوار بين الأديان.
سلام، بالطبع، من النوع الذي تنادي به "إسرائيل"، وحوار من نوع المفاوضات المباشرة التي ينادي بها الاعتداليون حتى ولو لم تتجاوز نتائجها الإيجابية حدود الواحد بالمئة.ومع الواحد بالمئة، بدلاً من الخمسين التي تفترضها فكرة الاعتدال، يصبح الاعتدال اسماً آخر للتشدد والتطرف والإفراط في التفريط، إن لم يكن تشدداً وتطرفاًً وإفراطاً في العداء للإسلام.
وإذا كانت نيويورك قد أصبحت، والحالة تلك، منارة لذلك الإسلام، فكم سيلزم من الوقت ـ بحكم التطور ـ لتصبح، جهاراً نهاراً... كعبة الإسلام؟