ارشيف من :أخبار لبنانية

حسابات بولتون الفاشلة

حسابات بولتون الفاشلة

محمد السعيد ادريس(*)

تجربة السفير الأمريكي جون بولتون مع إيران شديدة المرارة . فالرجل الذي عمل في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مساعداً لوزيرة الخارجية لشؤون الحد من التسلح، ثم سفيراً لبلاده في الأمم المتحدة يعتبر من أكثر صقور المحافظين الجدد تشدداً في الانحياز للكيان الصهيوني من ناحية والعداء لكل ما يمكن أن يكون مصدراً لتهديده من ناحية أخرى، وهو يفاخر بكونه صهيونياً متشدداً بل متطرفاً، لذلك كان على رأس ذلك الفريق الصهيوني الشيطاني الذي تزعم الدعوة إلى شن الحرب على العراق وروج لأكذوبة امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، متجاهلاً حقيقتين الأولى: تقديم أدلة قاطعة تثبت هذه المزاعم، الثانية التجاوز الكامل لحقيقة أن بلاده (الولايات المتحدة) هي أول من يمتلك أعتى وأقوى ترسانة أسلحة دمار شامل في العالم، وأنها الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح النووي رغم كونها دولة ديمقراطية، ضارباً عرض الحائط بأكذوبة الغرب التي تنفي عن الدول الديمقراطية خطر التورط في حروب تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل .

هاتان الحقيقتان وما يضاف إليهما من حقيقة ثالثة وهي امتلاك الدولة الصهيونية لأقوى وأحدث ترسانة أسلحة تقليدية متطورة في إقليم الشرق الأوسط بفضل الدعم الأمريكي بتمكينها من التفوق النوعي العسكري على كل دول الإقليم، وحقيقة امتلاك الدولة الصهيونية لترسانة هائلة من أسلحة الدمار الشامل وخاصة الأسلحة النووية لم يكن لهما أي اعتبار عند بولتون عندما تزعم الدعوة لشن الحرب على العراق وتدميره، ولم يصدر عنه أي اعتذار حتى الآن لفشل الأمريكيين في تأكيد ولو الحد الأدنى من جدية اتهاماته وإثبات أن العراق كان يملك أي أسلحة للدمار الشامل، ويبدو أنها لن يكون لها أي اعتبار وهو يتزعم الآن الدعوة لشن الحرب على إيران .

بولتون الذي قام بجهد كبير، وقت أن كان مساعداً لوزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الحد من التسلح، لإقناع دول المنطقة بخطورة مفاعل بوشهر النووي الإيراني على الحياة والبيئة وعلى دول الخليج خاصة للتعامل مع إيران باعتبارها مصدر خطر للتهديد، تورط منذ أيام في الضغط على “إسرائيل” لشن حرب ضد إيران تدمر فيها مفاعل بوشهر النووي قبل أن يتم شحنه بالوقود النووي وتشغيله ليصبح منشأة نووية رسمية . وفي حديث له مع قناة “فوكس بيزنس نتوورك” الأمريكية حدد بولتون ثمانية أيام كحد أقصي انتهت يوم السبت الماضي (21 أغسطس/ آب الجاري) كي تستطيع “إسرائيل” أن تقوم بهذه المهمة، وإلا ستكون قد أضاعت فرصة تاريخية لن تعوض كي تدمر هذا المفاعل الذي سيستحيل تدميره بعد تشغيله لأسباب كثيرة .

وبعد أن انقضت الأيام الثمانية من دون استجابة “إسرائيلية” لدعوة بولتون، وبعد احتفال إيران وروسيا بالتشغيل الرسمي للمفاعل وتوقيع سيرجي كيرينيكو رئيس وكالة الطاقة الذرية الفيدرالية الروسية مع علي أكبر صالحي رئيس وكالة الطاقة الذرية الإيرانية على بروتوكول تشغيل مفاعل بوشهر، يجد بولتون نفسه في مأزق نفسي شديد الحرج لانسياقه وراء قناعاته الايديولوجية والتزاماته الصهيونية وتجاهل لحقائق استراتيجية تحكم ردود فعل الدول تجاه الأحداث، وهي الحقائق التي حالت دون استجابة “إسرائيل” لضغوط بولتون وقلصت ردود فعلها في حجز إعلان دعائي عبرت فيه عن رفضها للمفاعل الإيراني واعتبرته “غير مقبول على الاطلاق” وهو رد فعل هزيل لا يتناسب مع كل ما جرى الترويج له من معلومات وأخبار كانت تؤكد أن الحرب على إيران باتت قاب قوسين أو أدنى .

أول هذه الحقائق الاستراتيجية يتعلق بحسابات المكسب والخسارة من شن هذه الحرب على ضوء حقيقة واقع الردع المتبادل، وقدرة إيران على إصابة “إسرائيل” بخسائر تفوق ما سوف تحققه من مكاسب إذا هي قامت بشن هذه الحرب ليس فقط على مفاعل بوشهر ولكن أيضاً على المنشآت النووية الإيرانية خاصة منشآت تخصيب اليورانيوم أصل الأزمة .

ثاني هذه الحقائق خاص بالوضع الأمريكي شديد الحرج في العراق والحاجة الأمريكية أولاً للوصول إلى تفاهم بات حتمياً مع إيران لتأمين الاستقرار في العراق بعد الانسحاب الأمريكي، وثانياً للحفاظ على أرواح أكثر من 50 ألف عسكري أمريكي، تقرر بقاؤهم في العراق وهؤلاء سوف يتحولون إلى صيد ثمين، على عكس ما يشاع، نظراً لتركزهم في قواعد محددة تقع كلها في متناول يد إيران .

كل هذه الحقائق تؤكد خطأ حسابات بولتون الاستراتيجية، ووقوعه أسيراً لهواجسه ومعتقداته الصهيونية التي أفسدت عليه كل خبراته السابقة كدبلوماسي أمريكي كانت له مكانته .
(*) المصدر: موقع مجلة دار الخليج

2010-08-28