ارشيف من :أخبار لبنانية
من اوسلو الى واشنطن
نواف الزرو(*)
بينما نتابع أحداث قمة واشنطن للمفاوضات المباشرة، تحل أيضا الذكرى السابعة عشرة لاتفاق أوسلو الذي كان من المفترض والمتفق عليه أن ينتهي عام 1999 بالتوصل إلى الحل الدائم لكافة القضايا الجوهرية، من الأرض إلى الحدود إلى المستعمرات إلى القدس إلى المياه إلى قضية اللاجئين، وغيرها.
وكان من المبرمج أن تتوج أوسلو بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة السيادية بعد أن يكون الاحتلال قد رحل بجيشه ومستعمريه وإداراته المدنية والعسكرية عن الأراضي المحتلة عام 1967، وفي مقدمتها المدينة المقدسة عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة.
غير أن حسابات الحقل لم تأت على قدر حسابات البيدر فلسطينيا وعربيا، وليس ذلك فحسب، بل أعادتنا العملية التفاوضية عمليا إلى المربع الأول، وكأننا ما زلنا في مرحلة ما قبل مدريد وأوسلو، وكأنه لم تكن هناك مفاوضات استغرقت نحو عقدين من الزمن.
فما الذي حدث إذن، وما الذي جرى على امتداد سنوات المفاوضات السبع عشرة الماضية؟.
أوسلو.. التفسيرات والمتاهات
منذ بدايات العملية التفاوضية تبنى الفلسطينيون والعرب السلام كخيار إستراتيجي بعد أن أسقطوا الخيارات الأخرى تماما، وكان شعار مدريد "الأرض مقابل السلام" على أساس قرارات مجلس الأمن المعروفة 242 و338، فجاء اتفاق أوسلو -الالتفافي على مفاوضات واشنطن والوفد الفلسطيني بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي- ليفاجئ الجميع بصيغة أخرى، وليفعل فعله في خلق وتكريس المأزق الفلسطيني الداخلي من جهة، وليفاقم المأزق الفلسطيني في مواجهة مشروع الاحتلال من جهة أخرى.
تكوّن التفسير الرسمي لأوسلو من مرحلتين، الانتقالية باستحقاقاتها المختلفة، وخاصة على صعيد تطبيق الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتستمر مدة خمس سنوات تسلم إسرائيل في إطارها إلى السلطة الفلسطينية معظم الأراضي المحتلة التي يجب أن تصل نسبتها إلى نحو 90% من المساحة الإجمالية.
والمرحلة الدائمة التي كان يجب أن تبدأ مفاوضاتها حول القضايا الفلسطينية الجوهرية المؤجلة، لتنتهي المرحلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الرابع من مايو/أيار 1999.
أما التفسير الإسرائيلي فمختلف تماما، إذ تحدث فقط عن حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع في المرحلة الانتقالية، وعن تسوية دائمة للقضايا المؤجلة في المرحلة الثانية، دون أي إشارة إلى استقلال فلسطيني في إطار دولة.
وكان العنوان الكبير الذي ميز المرحلة السابقة من عمر عملية المفاوضات هو المتاهات، حيث خضع الفلسطينيون والعرب للعبة الإسرائيلية المعروفة والمخبورة جيدا، لعبة المماطلة والتسويف والتتويه والتفكيك والانتقال من الجوهري إلى الهامشي ومن الأساسي إلى الإجرائي.
فرض رابين في عهده هذه اللعبة على الفلسطينيين حينما أخذ يتفلت ويتهرب تباعا من استحقاقات المرحلة الانتقالية.. ورفع شعاره المعروف "لا مواعيد مقدسة".
وقد دخلت إسرائيل والمنطقة في مفترق طرق بعد اغتيال رابين، لتصبح عملية السلام كلها في مهب الرياح الإسرائيلية، ثم جاء نتنياهو 1996 ليفرض على الفلسطينيين والعرب الدخول مرة أخرى في نفق المتاهات وفقدان البوصلة والتوجهات والمرجعيات وأوراق الحول والضغط.
ففرضت الحكومات الإسرائيلية على الجميع مشهد المماطلة والانتقال من المسائل والقضايا الأساسية والجوهرية إلى المسائل والقضايا الإجرائية الهامشية، ثم الانتقال مرة أخرى إلى تفاصيل المسائل الإجرائية الصغيرة، وبعدها إلى تفاصيل التفاصيل، هكذا كانت المماطلة الإسرائيلية بلا حدود وبلا نهاية.
إستراتيجية التفاوض الإسرائيلية
رغم شبه الإجماع السياسي الإسرائيلي على موت أوسلو مبكرا، كما أعلن نتنياهو في ولايته الأولى ذلك "اتفاق أوسلو قد مات"، وكما قالت صحيفة هآرتس مثلا إن "كل الطرق تؤدي للهروب من أوسلو"، إسرائيليا، وأكد المفكر الإستراتيجي الإسرائيلي المعروف شلومو غازيت أن "اتفاق أوسلو مات"، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تبنت إستراتيجية صريحة تعتمد الأعمدة التالية:
أولا، إقامة الدولة اليهودية القاسم المشترك بين معظم اليهود.
ثانيا، توسيع الدولة اليهودية جغرافياً واستيطانيا.
ثالثا، شطب حق العودة للاجئين إلى الأبد.
رابعا، تكريس الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية.
خامسا، إقامة القدس الموسعة الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد.
سادسا، إبقاء غور الأردن على امتداد نهر الأردن تحت السيادة الإسرائيلية.
سابعا، تبني جملة لا حصر لها من الخرائط والخطط والاشتراطات الإسرائيلية المتعلقة بالأرض والحقوق الفلسطينية.
كما انتهجت تلك الحكومات فلسفة التفكيك في المفاوضات مع الفلسطينيين، ففككت النص التفاوضي الفلسطيني، إذ "في كل مرحلة أو محطة تفاوضية كان المفاوض الفلسطيني يغني "موال" مطالبه واستحقاقاته واشتراطاته كاملا ومرة واحدة"، ليأتي دور إسرائيل لتفكك "النص" الفلسطيني إلى "جزيئات" حيثية، وتعيده إلى المفاوض الفلسطيني لإعادة تركيبه وخلقه من جديد، بعد أن تكون قد أخرجته عن سياقه التاريخي والسياسي الشامل.
وعندما يقبل المفاوض الفلسطيني بإحدى الجزيئات لاعتقاده أن ذلك ربما يساعده في إعادة تركيبه للنص، تتكرر الحكاية و"يغني" الفلسطيني مطالبه مرة واحدة، ليكتشف أن جزء النص الذي قبل به هو نص جديد، وهو قابل بدوره للتشظي والتفتت إلى جزيئات أصغر، فيصبح همه إعادة تركيب "الجزيئات" إلى "جزء النص"، من غير أن يدرك أن جزيئات الجزء هي نصوص جديدة تقبل بالطريقة ذاتها بالتجزؤ من جديد، حيث ربما تولد في النهاية نصوصا غريبة لا تتطابق مع النص الأم (اقتباس مكثف من تحليل نشر في الأيام الفلسطينية).
وكانت نتائج ذلك أن فرضت إسرائيل المماطلة والالتفاف على قضايا المفاوضات الجوهرية، التي مكنتها في الوقت نفسه من الاستحواذ على موقع "الهجوم" التفاوضي في جميع مفاوضاتها مع الطرف الفلسطيني.
النهج التفاوضي الفلسطيني
أما في الجانب الفلسطيني العربي، فمنذ البدايات الأولى لانطلاقة "عملية السلام" في مدريد فأوسلو، اقترف الفلسطينيون والعرب الخطيئة الأولى التي لا تغتفر والمتمثلة في موافقتهم على فلسفة المسارات التفاوضية، فوقع الجميع في شر الحبائل الإسرائيلية التفاوضية.
وانتهج الفلسطينيون إلى جانب نظرية المسارية نظرية المرحلية، فمرحلوا في أوسلو الملفات والقضايا والحقوق، وجدولوها زمنيا مع جهة لا تعترف بمواعيد مقدسة ولا جداول زمنية وليس لديها شيء مقدس.
كما انتهجوا سياسة تعدد القنوات والمراحل الكارثية، فمرحلة الاتفاقيات والملفات التي احتاجت لاحقا إلى إعادة مرحلة أخرى، لم تتمخض عمليا إلا عن تكريس الاحتلال وتقزيم واختزال القضايا والحقوق الفلسطينية.
وبما أن المفاوض الفلسطيني قد حرم نفسه أصلا من مقومات الهجوم التفاوضي عندما سمح في أوسلو بتشظي "النص" داخل غرف المفاوضات، فإن "الدفاع" الفلسطيني بقي هشا وهشا للغاية.
جرب الفلسطينيون وخبروا جديا هذه السياسة التفكيكية الإسرائيلية للثوابت والنصوص الفلسطينية، غير أنهم مع بالغ الأسف يواصلون المفاوضات وكأن شيئا لم يحدث. يرفضون ويحردون ويمتنعون ثم يعودون ويوافقون تحت الضغوط الأميركية وغيرها، وكذلك تحت ضغط فلسفة "الحياة مفاوضات" على النصوص الإسرائيلية الجديدة. وهكذا كانت التجربة عبر المحطات والمراحل التفاوضية المتلاحقة.
سيادة الأجندة الإسرائيلية
وفي ظل هذا المشهد التفاوضي العبثي كان من الطبيعي أن تسود الأجندة الإسرائيلية في كل المحطات والاتفاقات واللقاءات والمقترحات.
فمن "أوسلو 1" 1993، إلى اتفاقية الحكم الذاتي غزة وأريحا 1994، إلى اتفاق "أوسلو 2" إلى توسيع نطاق الحكم الذاتي 1995، إلى اتفاقية واي بلانتيشين إلى ترتيب انسحاب إسرائيل من 13% من أراضي الضفة 1998، وصولا إلى محادثات كامب ديفد 2000، ثم طابا 2001، مرورا برؤية الرئيس بوش ثم خارطة الطريق 2003، وصولا إلى قمة أنابوليس 2007.
ولم تتراجع الأجندة ولا اللاءات الإسرائيلية، ولم تتغير النيات الخبيثة إطلاقا.
وكلهم يتحدثون عن النيات والثقة المتبادلة، في الوقت الذي كانت فيه دولة الاحتلال تماطل وتعرقل وتشتري الوقت وتبني حقائق الأمر الواقع على الأرض التي لا يمكن من وجهة نظرهم أن تجتثها أي تسوية سياسية قد يتم التوصل إليها.
وكانت تلك الدولة هي المستفيد الوحيد من كل حكاية المفاوضات بينما خسر الفلسطينيون الكثير والكثير.
فسبعة عشر عاما من المفاوضات والقمم والاتفاقات لم تنجح كلها في زحزحة مستعمر يهودي واحد عن أرض الضفة والقدس، كما لم تسفر عمليا إلا عن المزيد والمزيد من خيبات الأمل الفلسطينية والعربية لدى أولئك الذين راهنوا، وكذلك الذين لم يراهنوا عليها منذ البدايات.
لقد تحولت المفاوضات لدى المفاوضين الفلسطينيين إلى "نمط حياة وبقاء"، ولدى الإسرائيليين إلى فائض وقت وحقائق على الأرض، إذ لم تتوقف دولة الاحتلال عن شراء الوقت واستثماره في بناء حقائق الأمر الواقع على أرض القدس والضفة.
سبعة عشر عاما والاحتلال والاستيطان والأمن يزدهر تحت غطاء المفاوضات.
قمة واشنطن وشروط القرصان
بين أوسلو وقمة واشنطن لم تتغير الشروط الإسرائيلية للمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة، وهي شروط القرصان المحتل، فمن شامير إلى رابين إلى بيريز إلى نتنياهو فباراك فشارون، ثم إلى نتنياهو مرة أخرى، تتجدد الأجندات والشروط السياسية الإسرائيلية باتجاه المزيد من التشدد.
فهاهو نتنياهو يطل علينا اليوم في قمة واشنطن بعد سبعة عشر عاما من أوسلو بثلاثية يعتبرها إلزامية وأساسية للتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين.
شدد على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي، وعلى أن يضع الاتفاق المنشود حدا نهائيا للنزاع في الشرق الأوسط، وعلى ضرورة التوصل إلى ترتيبات أمنية تكون مرضية لدى إسرائيل.
وفي الجوهر فإن الدولة اليهودية تعني عمليا شطب حق العودة لملايين اللاجئين إلى الأبد، مما يعني أن يتنازل الفلسطينيون عن كل مطالبهم وحقوقهم التاريخية في فلسطين.
ووضع حد للنزاع في الشرق الأوسط يعني السلام والتعايش والتطبيع مع كافة الدول العربية لتكريس إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة.
وتتكامل شروط نتنياهو بالترتيبات الأمنية التي يعتزم فرضها على الفلسطينيين، والتي سيبقى الجيش الإسرائيلي بموجبها مرابطا على امتداد نهر الأردن، وستبقى التكتلات الاستيطانية المنتشرة سرطانيا في جسم الضفة الغربية، في الوقت الذي تسيطر فيه إسرائيل على أجواء وحدود الدولة الفلسطينية التي ستكون عمليا معازل وكانتونات مقطعة الأوصال بلا سيادة.
والغريب العجيب في ضوء ذلك أن تتحدث مصادر فلسطينية لصحيفة "الحياة" اللندنية عن أن قمة واشنطن والجولة الأولى من المفاوضات أفضت إلى أجواء من "الارتياح" لدى الجانب الفلسطيني، قائلة إن أجواء الوفد الفلسطيني، وتحديدا في دائرة الرئيس محمود عباس "انقلبت 180 درجة".
بينما كان الرئيس محمود عباس قد أعلن عشية مغادرته إلى واشنطن "أنه سيسعى للوصول إلى السلام حتى لو كانت نسبة الوصول إليه 1%"، معربا عن أمله في أن "يستغل الجانب الإسرائيلي الفرصة التاريخية المتاحة للوصول إلى السلام".
غير أن شروط القرصان هنا تؤكد مرة أخرى أن المعادلة الحقيقية هي بالضبط "1% للسلام مقابل 99% للاستيطان والتهويد والأمن الإسرائيلي".
وفي خلاصة التقييم لمسيرة ومسار وتداعيات أوسلو نرى أن الأحوال الفلسطينية ما بين أوسلو وقمة واشنطن 2010 تردت، وأن المشروع الوطني الفلسطيني تراجع وتفكك، وأن الوحدة الوطنية الفلسطينية تشظت، وأن المسافة بين الاحتلال والاستقلال الفلسطيني باتت أبعد، وغدت على بعد سنوات ضوئية، كما وصفها أحد كبار المحللين الإسرائيليين.
وحيث إن نافذة الفرص التاريخية للتسوية السياسية الدائمة بين العرب وإسرائيل قد أغلقت في ظل تمادي وشراسة وازدهار مشروع الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وإن الفرص الحقيقية للتسوية الدائمة حول القضايا الجوهرية الكبيرة مثل القدس واللاجئين والاستيطان والسقف السيادي للدولة الفلسطينية والمياه، ليس لها أي أفق حقيقي وجدي وعادل، فإنه يصبح استحقاقا ملحا وعاجلا على الفلسطينيين والعرب أن يعودوا إلى الخيارات والبدائل الأخرى، وهي كثيرة وفي مقدمتها الخيار الإستراتيجي في التصدي والمواجهة.
المصدر: موقع الجزيرة/ تحليلات
بينما نتابع أحداث قمة واشنطن للمفاوضات المباشرة، تحل أيضا الذكرى السابعة عشرة لاتفاق أوسلو الذي كان من المفترض والمتفق عليه أن ينتهي عام 1999 بالتوصل إلى الحل الدائم لكافة القضايا الجوهرية، من الأرض إلى الحدود إلى المستعمرات إلى القدس إلى المياه إلى قضية اللاجئين، وغيرها.
وكان من المبرمج أن تتوج أوسلو بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة السيادية بعد أن يكون الاحتلال قد رحل بجيشه ومستعمريه وإداراته المدنية والعسكرية عن الأراضي المحتلة عام 1967، وفي مقدمتها المدينة المقدسة عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة.
غير أن حسابات الحقل لم تأت على قدر حسابات البيدر فلسطينيا وعربيا، وليس ذلك فحسب، بل أعادتنا العملية التفاوضية عمليا إلى المربع الأول، وكأننا ما زلنا في مرحلة ما قبل مدريد وأوسلو، وكأنه لم تكن هناك مفاوضات استغرقت نحو عقدين من الزمن.
فما الذي حدث إذن، وما الذي جرى على امتداد سنوات المفاوضات السبع عشرة الماضية؟.
أوسلو.. التفسيرات والمتاهات
منذ بدايات العملية التفاوضية تبنى الفلسطينيون والعرب السلام كخيار إستراتيجي بعد أن أسقطوا الخيارات الأخرى تماما، وكان شعار مدريد "الأرض مقابل السلام" على أساس قرارات مجلس الأمن المعروفة 242 و338، فجاء اتفاق أوسلو -الالتفافي على مفاوضات واشنطن والوفد الفلسطيني بقيادة الدكتور حيدر عبد الشافي- ليفاجئ الجميع بصيغة أخرى، وليفعل فعله في خلق وتكريس المأزق الفلسطيني الداخلي من جهة، وليفاقم المأزق الفلسطيني في مواجهة مشروع الاحتلال من جهة أخرى.
تكوّن التفسير الرسمي لأوسلو من مرحلتين، الانتقالية باستحقاقاتها المختلفة، وخاصة على صعيد تطبيق الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتستمر مدة خمس سنوات تسلم إسرائيل في إطارها إلى السلطة الفلسطينية معظم الأراضي المحتلة التي يجب أن تصل نسبتها إلى نحو 90% من المساحة الإجمالية.
والمرحلة الدائمة التي كان يجب أن تبدأ مفاوضاتها حول القضايا الفلسطينية الجوهرية المؤجلة، لتنتهي المرحلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الرابع من مايو/أيار 1999.
أما التفسير الإسرائيلي فمختلف تماما، إذ تحدث فقط عن حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة والقطاع في المرحلة الانتقالية، وعن تسوية دائمة للقضايا المؤجلة في المرحلة الثانية، دون أي إشارة إلى استقلال فلسطيني في إطار دولة.
وكان العنوان الكبير الذي ميز المرحلة السابقة من عمر عملية المفاوضات هو المتاهات، حيث خضع الفلسطينيون والعرب للعبة الإسرائيلية المعروفة والمخبورة جيدا، لعبة المماطلة والتسويف والتتويه والتفكيك والانتقال من الجوهري إلى الهامشي ومن الأساسي إلى الإجرائي.
فرض رابين في عهده هذه اللعبة على الفلسطينيين حينما أخذ يتفلت ويتهرب تباعا من استحقاقات المرحلة الانتقالية.. ورفع شعاره المعروف "لا مواعيد مقدسة".
وقد دخلت إسرائيل والمنطقة في مفترق طرق بعد اغتيال رابين، لتصبح عملية السلام كلها في مهب الرياح الإسرائيلية، ثم جاء نتنياهو 1996 ليفرض على الفلسطينيين والعرب الدخول مرة أخرى في نفق المتاهات وفقدان البوصلة والتوجهات والمرجعيات وأوراق الحول والضغط.
ففرضت الحكومات الإسرائيلية على الجميع مشهد المماطلة والانتقال من المسائل والقضايا الأساسية والجوهرية إلى المسائل والقضايا الإجرائية الهامشية، ثم الانتقال مرة أخرى إلى تفاصيل المسائل الإجرائية الصغيرة، وبعدها إلى تفاصيل التفاصيل، هكذا كانت المماطلة الإسرائيلية بلا حدود وبلا نهاية.
إستراتيجية التفاوض الإسرائيلية
رغم شبه الإجماع السياسي الإسرائيلي على موت أوسلو مبكرا، كما أعلن نتنياهو في ولايته الأولى ذلك "اتفاق أوسلو قد مات"، وكما قالت صحيفة هآرتس مثلا إن "كل الطرق تؤدي للهروب من أوسلو"، إسرائيليا، وأكد المفكر الإستراتيجي الإسرائيلي المعروف شلومو غازيت أن "اتفاق أوسلو مات"، فإن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تبنت إستراتيجية صريحة تعتمد الأعمدة التالية:
أولا، إقامة الدولة اليهودية القاسم المشترك بين معظم اليهود.
ثانيا، توسيع الدولة اليهودية جغرافياً واستيطانيا.
ثالثا، شطب حق العودة للاجئين إلى الأبد.
رابعا، تكريس الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية.
خامسا، إقامة القدس الموسعة الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد.
سادسا، إبقاء غور الأردن على امتداد نهر الأردن تحت السيادة الإسرائيلية.
سابعا، تبني جملة لا حصر لها من الخرائط والخطط والاشتراطات الإسرائيلية المتعلقة بالأرض والحقوق الفلسطينية.
كما انتهجت تلك الحكومات فلسفة التفكيك في المفاوضات مع الفلسطينيين، ففككت النص التفاوضي الفلسطيني، إذ "في كل مرحلة أو محطة تفاوضية كان المفاوض الفلسطيني يغني "موال" مطالبه واستحقاقاته واشتراطاته كاملا ومرة واحدة"، ليأتي دور إسرائيل لتفكك "النص" الفلسطيني إلى "جزيئات" حيثية، وتعيده إلى المفاوض الفلسطيني لإعادة تركيبه وخلقه من جديد، بعد أن تكون قد أخرجته عن سياقه التاريخي والسياسي الشامل.
وعندما يقبل المفاوض الفلسطيني بإحدى الجزيئات لاعتقاده أن ذلك ربما يساعده في إعادة تركيبه للنص، تتكرر الحكاية و"يغني" الفلسطيني مطالبه مرة واحدة، ليكتشف أن جزء النص الذي قبل به هو نص جديد، وهو قابل بدوره للتشظي والتفتت إلى جزيئات أصغر، فيصبح همه إعادة تركيب "الجزيئات" إلى "جزء النص"، من غير أن يدرك أن جزيئات الجزء هي نصوص جديدة تقبل بالطريقة ذاتها بالتجزؤ من جديد، حيث ربما تولد في النهاية نصوصا غريبة لا تتطابق مع النص الأم (اقتباس مكثف من تحليل نشر في الأيام الفلسطينية).
وكانت نتائج ذلك أن فرضت إسرائيل المماطلة والالتفاف على قضايا المفاوضات الجوهرية، التي مكنتها في الوقت نفسه من الاستحواذ على موقع "الهجوم" التفاوضي في جميع مفاوضاتها مع الطرف الفلسطيني.
النهج التفاوضي الفلسطيني
أما في الجانب الفلسطيني العربي، فمنذ البدايات الأولى لانطلاقة "عملية السلام" في مدريد فأوسلو، اقترف الفلسطينيون والعرب الخطيئة الأولى التي لا تغتفر والمتمثلة في موافقتهم على فلسفة المسارات التفاوضية، فوقع الجميع في شر الحبائل الإسرائيلية التفاوضية.
وانتهج الفلسطينيون إلى جانب نظرية المسارية نظرية المرحلية، فمرحلوا في أوسلو الملفات والقضايا والحقوق، وجدولوها زمنيا مع جهة لا تعترف بمواعيد مقدسة ولا جداول زمنية وليس لديها شيء مقدس.
كما انتهجوا سياسة تعدد القنوات والمراحل الكارثية، فمرحلة الاتفاقيات والملفات التي احتاجت لاحقا إلى إعادة مرحلة أخرى، لم تتمخض عمليا إلا عن تكريس الاحتلال وتقزيم واختزال القضايا والحقوق الفلسطينية.
وبما أن المفاوض الفلسطيني قد حرم نفسه أصلا من مقومات الهجوم التفاوضي عندما سمح في أوسلو بتشظي "النص" داخل غرف المفاوضات، فإن "الدفاع" الفلسطيني بقي هشا وهشا للغاية.
جرب الفلسطينيون وخبروا جديا هذه السياسة التفكيكية الإسرائيلية للثوابت والنصوص الفلسطينية، غير أنهم مع بالغ الأسف يواصلون المفاوضات وكأن شيئا لم يحدث. يرفضون ويحردون ويمتنعون ثم يعودون ويوافقون تحت الضغوط الأميركية وغيرها، وكذلك تحت ضغط فلسفة "الحياة مفاوضات" على النصوص الإسرائيلية الجديدة. وهكذا كانت التجربة عبر المحطات والمراحل التفاوضية المتلاحقة.
سيادة الأجندة الإسرائيلية
وفي ظل هذا المشهد التفاوضي العبثي كان من الطبيعي أن تسود الأجندة الإسرائيلية في كل المحطات والاتفاقات واللقاءات والمقترحات.
فمن "أوسلو 1" 1993، إلى اتفاقية الحكم الذاتي غزة وأريحا 1994، إلى اتفاق "أوسلو 2" إلى توسيع نطاق الحكم الذاتي 1995، إلى اتفاقية واي بلانتيشين إلى ترتيب انسحاب إسرائيل من 13% من أراضي الضفة 1998، وصولا إلى محادثات كامب ديفد 2000، ثم طابا 2001، مرورا برؤية الرئيس بوش ثم خارطة الطريق 2003، وصولا إلى قمة أنابوليس 2007.
ولم تتراجع الأجندة ولا اللاءات الإسرائيلية، ولم تتغير النيات الخبيثة إطلاقا.
وكلهم يتحدثون عن النيات والثقة المتبادلة، في الوقت الذي كانت فيه دولة الاحتلال تماطل وتعرقل وتشتري الوقت وتبني حقائق الأمر الواقع على الأرض التي لا يمكن من وجهة نظرهم أن تجتثها أي تسوية سياسية قد يتم التوصل إليها.
وكانت تلك الدولة هي المستفيد الوحيد من كل حكاية المفاوضات بينما خسر الفلسطينيون الكثير والكثير.
فسبعة عشر عاما من المفاوضات والقمم والاتفاقات لم تنجح كلها في زحزحة مستعمر يهودي واحد عن أرض الضفة والقدس، كما لم تسفر عمليا إلا عن المزيد والمزيد من خيبات الأمل الفلسطينية والعربية لدى أولئك الذين راهنوا، وكذلك الذين لم يراهنوا عليها منذ البدايات.
لقد تحولت المفاوضات لدى المفاوضين الفلسطينيين إلى "نمط حياة وبقاء"، ولدى الإسرائيليين إلى فائض وقت وحقائق على الأرض، إذ لم تتوقف دولة الاحتلال عن شراء الوقت واستثماره في بناء حقائق الأمر الواقع على أرض القدس والضفة.
سبعة عشر عاما والاحتلال والاستيطان والأمن يزدهر تحت غطاء المفاوضات.
قمة واشنطن وشروط القرصان
بين أوسلو وقمة واشنطن لم تتغير الشروط الإسرائيلية للمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة، وهي شروط القرصان المحتل، فمن شامير إلى رابين إلى بيريز إلى نتنياهو فباراك فشارون، ثم إلى نتنياهو مرة أخرى، تتجدد الأجندات والشروط السياسية الإسرائيلية باتجاه المزيد من التشدد.
فهاهو نتنياهو يطل علينا اليوم في قمة واشنطن بعد سبعة عشر عاما من أوسلو بثلاثية يعتبرها إلزامية وأساسية للتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين.
شدد على ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي، وعلى أن يضع الاتفاق المنشود حدا نهائيا للنزاع في الشرق الأوسط، وعلى ضرورة التوصل إلى ترتيبات أمنية تكون مرضية لدى إسرائيل.
وفي الجوهر فإن الدولة اليهودية تعني عمليا شطب حق العودة لملايين اللاجئين إلى الأبد، مما يعني أن يتنازل الفلسطينيون عن كل مطالبهم وحقوقهم التاريخية في فلسطين.
ووضع حد للنزاع في الشرق الأوسط يعني السلام والتعايش والتطبيع مع كافة الدول العربية لتكريس إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة.
وتتكامل شروط نتنياهو بالترتيبات الأمنية التي يعتزم فرضها على الفلسطينيين، والتي سيبقى الجيش الإسرائيلي بموجبها مرابطا على امتداد نهر الأردن، وستبقى التكتلات الاستيطانية المنتشرة سرطانيا في جسم الضفة الغربية، في الوقت الذي تسيطر فيه إسرائيل على أجواء وحدود الدولة الفلسطينية التي ستكون عمليا معازل وكانتونات مقطعة الأوصال بلا سيادة.
والغريب العجيب في ضوء ذلك أن تتحدث مصادر فلسطينية لصحيفة "الحياة" اللندنية عن أن قمة واشنطن والجولة الأولى من المفاوضات أفضت إلى أجواء من "الارتياح" لدى الجانب الفلسطيني، قائلة إن أجواء الوفد الفلسطيني، وتحديدا في دائرة الرئيس محمود عباس "انقلبت 180 درجة".
بينما كان الرئيس محمود عباس قد أعلن عشية مغادرته إلى واشنطن "أنه سيسعى للوصول إلى السلام حتى لو كانت نسبة الوصول إليه 1%"، معربا عن أمله في أن "يستغل الجانب الإسرائيلي الفرصة التاريخية المتاحة للوصول إلى السلام".
غير أن شروط القرصان هنا تؤكد مرة أخرى أن المعادلة الحقيقية هي بالضبط "1% للسلام مقابل 99% للاستيطان والتهويد والأمن الإسرائيلي".
وفي خلاصة التقييم لمسيرة ومسار وتداعيات أوسلو نرى أن الأحوال الفلسطينية ما بين أوسلو وقمة واشنطن 2010 تردت، وأن المشروع الوطني الفلسطيني تراجع وتفكك، وأن الوحدة الوطنية الفلسطينية تشظت، وأن المسافة بين الاحتلال والاستقلال الفلسطيني باتت أبعد، وغدت على بعد سنوات ضوئية، كما وصفها أحد كبار المحللين الإسرائيليين.
وحيث إن نافذة الفرص التاريخية للتسوية السياسية الدائمة بين العرب وإسرائيل قد أغلقت في ظل تمادي وشراسة وازدهار مشروع الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، وإن الفرص الحقيقية للتسوية الدائمة حول القضايا الجوهرية الكبيرة مثل القدس واللاجئين والاستيطان والسقف السيادي للدولة الفلسطينية والمياه، ليس لها أي أفق حقيقي وجدي وعادل، فإنه يصبح استحقاقا ملحا وعاجلا على الفلسطينيين والعرب أن يعودوا إلى الخيارات والبدائل الأخرى، وهي كثيرة وفي مقدمتها الخيار الإستراتيجي في التصدي والمواجهة.
المصدر: موقع الجزيرة/ تحليلات