ارشيف من :آراء وتحليلات

حركات الشاي والقهوة... تفسخات أميركية جديدة!

حركات الشاي والقهوة... تفسخات أميركية جديدة!

عقيل الشيخ حسين

بعد سنوات قليلة من فوكوياما ومقولته عن نهاية التاريخ بقيام الإمبراطورية الأميركية العالمية، وهي المقولة المتسرعة التي قامت على تفسير متسرع لانهيار المنظومة الشيوعية على أنه انتصار نهائي لأميركا والليبرالية، نشهد حالياً شبه إجماع من قبل المراقبين على أن أميركا قد بدأت بالتراجع المفتوح على الانهيار.

فهنالك، بين مؤشرات أخرى، فشل الحروب التي أطلقها المحافظون الجدد منذ 2001، وتمخض العولمة الليبرالية التي بدا للحظة أنها قد حولت العالم إلى قرية صغيرة يرفرف فوقها العلم الأميركي... عن سوق كبيرة تجتاحها البضائع الصينية التي لم تقو حتى الحمائية الأميركية والأوروبية على الحد من قوة اندفاعها.

وبالتوازي مع التفسخات التي تعبر عنها مجاهرة العديد من الولايات بالرغبة في الانفصال عن واشنطن، تشهد الولايات المتحدة حالة لافتة من الغليان الداخلي المتعدد الأوجه والمتمحور حول قضايا منها ما هو ناشئ عن التورطات العسكرية الأميركية في الخارج، ومنها ما هو على صلة بتفاعلات الساحة الأميركية الداخلية.

ففي ظل صعوبة المخارج من التورطات العسكرية في الخارج، يبدو أن أفضل الحلول هو الرهان على قوى محلية تحتضن مشروع الهيمنة الأميركي وتقاتل بالوكالة عن الجيش الأميركي الذي لم يعد أمامه غير خيار الانسحاب الذي تم جزئياً من العراق والمفترض به أن يبدأ في غضون العام القادم من أفغانستان.

كما يبدو أن مقولة الإسلام المعتدل تفي جيدا بالمرام بقدر ما توفر غطاءً ينسب نفسه إلى الإسلام وتتشكل حوله جبهة عريضة من الدول الملكية أكثر من الملك في احتضانها لمشروع الهيمنة الأميركي. وقد بات من الواضح أنها أثبتت ناجعيتها الشديدة في ظل التحالف القائم بين دول الاعتدال من جهة، والمعسكر الغربي الأميركي الإسرائيلي، من جهة ثانية.

وقد جاء مشروع إقامة مركز ثقافي إسلامي وبناء مسجد، بالذات في المكان الذي كان يرتفع فوقه البرجان التوأمان، مشبعاً بالدلالات لجهة توجه الإدارة الأميركية، ليس فقط نحو الرهان على محور الاعتدال، بل نحو طرح الولايات المتحدة لنفسها كطليعة لذلك المحور.

تكفي الإشارة إلى النائب الهولندي غيرت فيلدرز، صاحب فيلم "فتنة"، عندما خطب مؤخراً في إحدى التظاهرات المعادية لبناء المركز الإسلامي في نيويورك، وطالب الأميركيين بوضع حاجز يحول دون تحول نيويورك إلى " مكة" جديدة.

كما تكفي الإشارة إلى إمام المسجد المزمع بناؤه في نيويورك في تصريحه الذي قال فيه ان التراجع عن بناء ذلك المسجد تحت ضغط الجمهوريين يخدم التطرف الإسلامي ويعرض من أسماهم بـ"جنودنا" (أي الجنود الأميركيين الذين يقتلون المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها) إلى الخطر.

لكن أميركا "العميقة" التي طالما شحن وعيها بأفكار بدائية وبعقلية من النوع الذي نجد تعبيراً عنه في الاعتقاد مثلاً بأن فلسطين أرض بلا شعب، أو أن العراق يمتلك جيشاً أقوى من الجيش الأميركي... لا يمكنها أن تفهم أبعاد احتضان الإدارة الأميركية لفكرة الإسلام المعتدل. فالإسلام كله هو، بالنسبة لتلك العقلية، شيء ينبغي شطبه من الوجود.

من هنا، كان من السهل على خصوم أوباما أن يستثمروا في العقلية الأميركية البدائية وأن ينجحوا في تصويره كمسلم من خلال التركيز على اسمه "باراك حسين أوباما" أو على تبنيه لإقامة المركز الإسلامي في قلب نيويورك.وبهذا تكون مناورة اللعب على حبل الإسلام المعتدل قد انقلبت لتحدث تأثيراً معاكساً من أبرز مظاهره انقسام الشارع الأميركي حول الموقف من ذلك الإسلام.

وهذا الانقسام يضاف إلى انقسامات أخرى ظهرت خصوصاً في التظاهرات التي شهدتها المدن الأميركية في الأيام القليلة الماضية. ففي مقابل حركة "حفلات الشاي" ظهرت حركة "حفلات القهوة" اللتين تشتركان في رفض سياسات الحزبين التقليديين، الديموقراطي والجمهوري، وكافة السياسات الداخلية والخارجية المعتمدة في أميركا منذ نشوئها.

فمن الاعتراضات على مركزية الحكم وصلاحيات الحكومة الفيدرالية وسطوة الشركات، إلى إعادة النظر بمكتسبات حركة الحقوق المدنية واستعادة شعارات أميركا للبيض، إلى المطالبة بالحد من الإنفاق العام... يبدو أن أميركا تعيد النظر بنفسها على جميع المستويات.

مجرد إعادة النظر يعني إحساساً بأن الأمور لا تسير على ما يرام. وإذا كان البعض يرى فيها مؤشراً إيجابياً على سعي أميركا لتجديد نفسها، فإن مؤشرات كثيرة تذهب باتجاه الاعتقاد بأن أميركا تنكفئ، تحت ثقل حاضرها المشحون بالهزائم والأزمات، على ماضيها "المجيد".

وإلا فما الذي يعنيه، إضافة إلى "حفلات الشاي" التي تستعيد الحدث الذي شكل، قبل قرنين من الزمن، بداية استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني، تواتر الكلام في أميركا اليوم عن أبراهام لنكولن وجورج واشنطن، واستعادة كرامة أميركا، وأميركا التي ضلت طريقها في الظلمة لفترة طويلة... وعن شعار "نريد حكومة أصغر حجماً وأقل تأثيراً"؟.

إنه الحنين الطفولي إلى الزمن الأول، إلى زمن الكاوبوي يوم كان المهاجرون الأوائل يتحركون على شكل أفراد أو جماعات صغيرة تستولي على مناجم الذهب في الغرب الأميركي وعلى أراضي الهنود الحمر، ليقيم كل منهم مزرعته أو مملكته المستقلة في الريف الشاسع ويجلب إليها العبيد من إفريقيا، أو فيما بعد إلى زمن الغانغستير الساعي إلى إقامة مملكته المستقلة في بعض أحياء المدن. وكل ذلك بعيداً عن سلطة الدولة. وإلا، فإنه تلك الحالة التي يستذكر فيها المحتضر أيام طفولته وصباه، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

2010-09-21