ارشيف من :أخبار عالمية

الأزمة المالية: شعوب أوروبا تدفع الثمن!

الأزمة المالية: شعوب أوروبا تدفع الثمن!
عقيل الشيخ حسين

أكثر من مئة ألف متظاهر لبّوا دعوة خمسين تنظيماً نقابياً أوروبياً وقدِموا إلى بروكسل، من مختلف العواصم والمدن الأوروبية، للاحتجاج على خطط التقشف التي اعتمدتها جميع الحكومات في أوروبا بهدف تقليص العجز في الموازنات السيادية، والذي يزيد عن 10 تريليون يورو على مستوى القارة.


وقد مشت في طليعة التظاهرة مجموعة من الأشخاص الملثمين وهم يرتدون ثياباً سوداء ويعتمرون قبعات سوداء ويحملون مظلات وحقائب سوداء في تعبير رمزي على ما اعتبروه موت أوروبا.

وبالتزامن مع تظاهرة بروكسل، عم الغليان الشعبي سائر المدن الأوروبية من دبلن ولشبونة فرصوفيا وأثينا ونيكوسيا، مروراً بباريس وروما ومدريد وبلغراد وبوخارست وصوفيا وبراغ وفيلينوس وريغا...

في إسبانيا وحدها التي لم تشهد تظاهرات احتجاجية على السياسات الاجتماعية لحكوماتها منذ ثماني سنوات، خرجت تظاهرة عارمة في مدريد العاصمة، في حين خرجت تظاهرات مماثلة في مئة مدينة إسبانية أخرى. وترافق ذلك مع إضرابات شلت المرافق الأساسية في البلاد.

ويبدو الاهتزاز الإسباني طبيعياً في أعقاب فترة من الانتعاش تميزت باستحداث أعداد كبيرة من الوظائف غير المستقرة التي لم تلبث أن افضت إلى عمليات تسريح واسعة النطاق شملت أكثر من مليوني موظف خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ما رفع نسبة العاطلين من العمل إلى نحو 20 بالمئة.

وبالإضافة إلى ذلك، اشتملت خطط التقشف في إسبانيا على تخفيضات هامة في أجور العاملين، وعلى تجميد معظم المساعدات الاجتماعية للعام 2011، وذلك لتوفير مبلغ 15 مليار يورو من أصل الإنفاق الحكومي خلال العام القادم.

وفي فرنسا، جاءت تظاهرات الاحتجاج على خطط التقشف متصلة بالتظاهرات العارمة التي خرجت في المدن الفرنسية في أوائل الشهر الحالي، وشارك فيها نحو ثلاثة ملايين متظاهر احتجوا على إصرار الرئيس نيكولا ساركوزي على عدم التراجع عن إصلاحاته القاضية برفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاماً.

ويزداد الغليان حدة في فرنسا وخصوصاً أن وزير العمل، إريك فيرت، المشرف على متابعة القانون المتعلق بسن التقاعد متورط في فضائح عدة كاستغلال النفوذ والتمويل الحزبي غير المشروع.

ويزداد الطين بلة بالنسبة لساركوزي في ظل تفجر فضيحة استعانته بأجهزة مكافحة التجسس للتجسس على صحيفة لوموند لمعرفة مصادر تحقيق أجراه أحد صحافييها بشأن فضيحة إريك فيرت. وقد اثارت هذه القضية ردود أفعال شاجبة من قبل جميع الأوساط السياسية التي لم تتردد في وصف ما يجري بأنه انحراف وانهيار أخلاقي وفساد غير مسبوق في السياسة الفرنسية.

والمستغرب وسط كل ذلك، أن يجد ساركوزي الذي وصف مؤخراً من قبل بعض كبريات الصحف العالمية بأنه " أيقونة اليمين المتطرف"، دعماً شعبياً لا يستهان به (56 بالمئة من المؤيدين) لما اتخذه من إجراءات بحق الغجر الذين قام بترحيلهم إلى رومانيا، وهي الإجراءات التي عرضته لانتقادات قاسية من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.

أما في بريطانيا، فيتراكب الاحتجاج على سياسات التقشف مع انقسامات حادة داخل حكومة المحافظين بسبب عزمها على اقتطاع مبالغ ضخمة من موازنة الدفاع. ويقول المعترضون بأن هذا الإجراء يلحق ضرراً بأمن البلاد في وقت تخوض فيه بريطانيا حرباً في أفغانستان.

ولا يخلو بلد أوروبي من أزمات موازية لأزمة خطط التقشف. ففي رومانيا مثلاً استقال وزير الداخلية بعد خروج تظاهرات كان أبرزها تظاهرة نظمتها قوى الأمن احتجاجاً على تقليص رواتبهم.

وتقول الحكومات الأوروبية بأنها اضطرت إلى اعتماد خطط التقشف تلك بغية تجنب الوقوع في أزمة ديون شبيهة بتلك التي ضربت اليونان قبل ستة أشهر. كما أن اعتماد تلك الخطط يأتي كاستجابة لتهديدات المفوضية الأوروبية بفرض عقوبات صارمة على بلدان الاتحاد الأوروبي التي تتجاوز حدود العجز في موازناتها ومعدلات ديونها المتفق عليها وفقاً لمعايير الاتحاد.

ويعترف المحتجون على تلك الخطط بوجود أزمة مالية خانقة. لكنهم يأخذون على الحكومات عدم ترددها في انفاق مئات المليارات من أجل تعويم المصارف المفلسة، وإقدامها، بدلاً من ملاحقة التهرب الضريبي الذي يمارسه كبار المتمولين، على اعتماد خطط تقشفية لا يكتوي بنارها غير ذوي الدخل المحدود.

وفي حين يعتقد المراقبون أن حركات الاحتجاج التي تجتاح أوروبا لن تفلح، حتى ولو استمرت لسنوات، في ثني الحكومات عن خططها التقشفية، وإذا ما حدث لها أن تمكنت من إسقاط حكومة هنا أو حكومة هناك، فإنها لن تتمكن من إدخال تغييرات ملموسة على مستوى الخروج من الأزمة، لأسباب منها غياب التنسيق بين التحركات المطلبية وعدم قدرة أحزاب اليسار والنقابات الرئيسية على تقديم الحلول اللازمة.

وعليه يكون على الشعوب الأوروبية أن تتكيف مع الأزمة وأن تتحمل عربدة الرأسمال من الآن وحتى قدوم اللحظة "الثورية" التي يبلغ فيها الاحتقان مداه الأقصى ويستحيل فيها استمرار الأوضاع على ما هي عليه.

ولعل الذين ارتدوا ثياب الحداد في مظاهرة بروكسل قد أدركوا منذ الآن، وفي ظل حالة الاستسلام التي قاد إليها مجتمع الاستهلاك أن انتظار تلك اللحظة، في أوروبا وغير أوروبا، شبيه بانتظار قطار "غودو".


2010-10-01