ارشيف من :آراء وتحليلات
أوروبا بين الأخطار الحقيقية والخلاص الآتي من الشرق!
عقيل الشيخ حسين
عندما تفجرت الأزمة المالية في اليونان قبل ستة أشهر، كان هنالك إجماع بين المحللين على أن هذه الأزمة قد دقت ناقوس الخطر لكامل القارة الأوروبية. وبالفعل، جاءت برامج التقشف التي أعلنت عنها جميع بلدان القارة، وهي البرامج التي يرد عليها الشارع الأوروبي حالياً بتظاهرات جماهيرية عارمة، لتكشف عن دخول أوروبا في مرحلة مفتوحة على الاضطراب الاجتماعي.
والأكيد أن الإحساس بهشاشة الأوضاع وبصعوبة المخارج الحقيقية، وهي مخارج لا يمكن إلا أن تنطلق من الإقرار بفشل نظام اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي قام عليه التفوق الأوروبي والغربي منذ قرون طويلة، هو ما يضع الحكومات الأوروبية في حالة استعداد لتلقف كل ما من شأنه أن يشكل مخرجاً آخر، حتى ولو كان ذلك عن طريق ترحيل المشكلة إلى مكان آخر، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من منزلقات قد تكون أكثر تكلفة بكثير من الحلول الواقعية الصعبة.
والمعروف منذ انحسار حروب التوسع الاستعماري وانتقال هذه الحروب إلى داخل أوروبا، مع ما رافق ذلك من بروز الولايات المتحدة كمخلص لأوروبا من مشاكلها، أن أوروبا تسعى جاهدة إلى بناء نفسها على صورة أميركا.
ومن الطبيعي، والحالة تلك، أن تقوم أوروبا باستيراد العاهات الأميركية. وفي طليعتها تلك العاهة المتمثلة، منذ الهجمات على نيويورك وواشنطن، في كون الولايات المتحدة قد باتت تقتات، بشكل يومي، على التهديد الإرهابي الوشيك. أي على ذلك التهديد الذي يظل مصطنعاً حتى ولو دعمته وقائع فعلية تفوح بروائح الاصطناع، من نوع الهجمات المذكورة أو تلك التي ضربت مدريد ولندن في وقت لاحق.
فقد كان قيام الولايات المتحدة بتحذير رعاياها من عمليات إرهابية تستهدف أوروبا، وهو الإجراء الذي سارعت إلى تقليدها فيه كل من بريطانيا واليابان، كافياً لإدخال أوروبا في حالة من هستيريا الخوف من الإرهاب. فانبرى المسؤولون والإعلاميون إلى الاستفاضة في الحديث عن مخططات ارهابية تستهدف أوروبا، وخصوصاً فرنسا وألمانيا، مع تأكيدات بأن هذه التهديدات مصدرها متطرفون إسلاميون يحملون جنسيات أوروبية ويترددون بين أوروبا وباكستان، وأن العمليات التي ينوون تنفيذها مشابهة لتلك التي سبق ونفذت في بومباي وأوقعت مئات القتلى والجرحى.
وبالطبع، يسهل تدعيم هذا السيناريو بمعطيات عملية من نوع إصدار حكم بالسجن بحق أميركي من أصل باكستاني، أو اعتقال أشخاص في نابولي أو بوردو أو مرسيليا يشتبه بأنهم يقيمون علاقات مع تنظيم القاعدة.
والواضح أن هذه الإثارات على صلة مباشرة بتعمق المأزق الأطلسي في أفغانستان وباكستان. ومن أهدافها، إضافة إلى الغرض التعبوي، في ظل تراجع شعبية الحرب في الشارع الغربي، إحكام الضغط أميركياً على الحكومات الأوروبية لحملها على مواصلة مشاركتها في الحرب مع ما يستلزمه ذلك من اعتماد موازنات حربية، وإلى الضغط من قبل الحكومات على شعوبها لتقبل مثل هذه الإجراءات.
لكن الحكومات الأوروبية التي طالما أظهرت تبرمها من استمرار المشاركة في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة، ترى اليوم في العزف على وتر التهديد الإرهابي مخرجاً ممكناً على مستويين.
الأول هو الرهان على إخراج الشارع الغربي من حالة الركون إلى الدعة التي أدخله فيها مجتمع الاستهلاك، لإعادته إلى حالة التوثب التي طبعت سلوك المستعمرين الأوائل.
والثاني هو الرهان على طمس التناقضات الاجتماعية المتصاعدة وتجييرها لمصلحة تناقضات ذات طابع عنصري وشوفيني يحول، كما حدث أكثر من مرة في تاريخ الغرب الحديث، دون تطور الأمور في اتجاه تغير موازين القوى الداخلية في غير مصلحة الرأسمال والطبقة السياسية التي ترتع على ضفافه.
والأكيد أن الصعود الحالي لليمين المتطرف في أوروبا، واكتساحه العديد من مراكز القرار الكبرى، كما في فرنسا، وما يصاحب ذلك من نزعات العداء للأجانب والمسلمين، هو ثمرة المساعي الحكومية الهادفة إلى تطويق الحركات الاجتماعية وإمرار برامج التقشف والاقتطاعات الضريبية التي تصيب ذوي الدخل المحدود.
وتحت شعارات التصدي للخطر الإرهابي، تصاغ يومياً في أميركا وأوروبا قوانين وتبتكر إجراءات مراقبة وتجسس تطال كافة مجالات الحياة اليومية للمواطنين الأميركيين والأوروبيين، وتصطدم بمفاهيم الحرية والحقوق المفترضة القدسية في الغرب.
على ذلك، فإن ما يجري اليوم هو تاريخ يعيد نفسه: بفضل حروب التوسع والاستعمار، تمكنت أوروبا عصر النهضة من القفز فوق تناقضاتها الاجتماعية الداخلية. لكن التنافس على المستعمرات قادها، بدلاً من حل تلك التناقضات، إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وإذا كانت هاتان الحربان قد خلقتا وضعاً سمح للغرب بإخضاع العالم للصيغة الجديدة من الاستعمار، خلال القرون الستة المنصرمة، في ظل سذاجة حركات التحرر الوطني، فإن الحروب الفاشلة على العراق وأفغانستان ولبنان تعيد الكرة مجدداً إلى الملعب الغربي.
مع فارق أن الشوفينية الغربية التي برهنت عن ناجعيتها في السابق تصطدم اليوم بحركات مقاومة وممانعة عرفت كيف تتخلص من السذاجة التي هيمنت على حركات التحرر الوطني. ما يعني أن لحركات المقاومة والممانعة فضلا كبيرا في فتح طريق الخلاص أمام الغرب عبر دفعه نحو البحث عن حل، في الغرب، لمشكلاته المتعددة الأطراف.