ارشيف من :أخبار لبنانية
جدلية الحدود والأمن والدولة الفلسطينية
نواف الزرو(*)
- رؤية بن غوريون للحدود والأمن
- خطة آلون تعود إلى الواجهة
- الإجماع الإسرائيلي
- نتنياهو والسلام والأمن
- الحدود والأمن وحلم الدولة
الواضح وفق تطورات المشهد التفاوضي، أن ثلاثية "ترسيم الحدود والترتيبات الأمنية والدولة الفلسطينية" باتت ثلاثية متلازمة، غدت الأطراف المتفاوضة والحاضنة والمؤازرة تجمع عليها.
ففي الجانب الفلسطيني والعربي يشددون على ضرورة ترسيم الحدود أولا، بينما يصر الجانب الإسرائيلي على نحو شبه إجماع على مناقشة الترتيبات الأمنية أولا قبل الحدود والقضايا الجوهرية، وقبل مواصفات ومساحة الدولة المزعومة.
بل إن هذه الثلاثية أقصت حتى مسألة "تجميد الاستيطان" أميركيا بالاقتراح الذي قدمته وزيرة الخارجية كلينتون حينما طرحت الشروع فورا في محادثات ماراثونية بشأن مسألة "حدود الدولة الفلسطينية".
وكان الرئيس الأميركي قد سبقها عشية إطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن، بتبنيه أحد محدّدات نتنياهو للتسوية متمثّلاً في "الترتيبات الأمنية"، مستغلاً عملية الخليل التي وصفها بأنها "مجزرة عبثية".
فإلى أين يا ترى يمكن أن تستمر هذه المفاوضات المباشرة في ظل هذه الثلاثية، وما حقيقة الأجندة الإسرائيلية وراء الإصرار على الترتيبات الأمنية أولا؟
ثم ما الحدود التي تسعى إسرائيل إلى ترسيمها بعد أن يوافق الفلسطينيون على الترتيبات الأمنية الإسرائيلية؟
والأهم، ما الاحتمال الحقيقي لأي تسوية سياسية في ضوء هذا التضارب في الأجندات السياسية؟
أسئلة كثير عاجلة تطرح تباعا على أجندة المفاوضات المباشرة، تستدعي استحضار تلك الأدبيات السياسية والإستراتيجية الإسرائيلية القديمة الجديدة المتجددة في ثلاثية الحدود والأمن والدولة الفلسطينية التي توفر مؤشرا حقيقيا لاحتمالات التسوية.
رؤية بن غوريون للحدود والأمن
كان بن غوريون أهم من نظر لحدود الدولة الصهيونية ومستقبلها، فأعلن بتاريخ الجمعة 14 مايو/أيار عام 1948 في مدينة تل أبيب أمام أعضاء المجلس الوطني اليهودي الذين يمثلون اليهود في فلسطين والصهيونية العالمية "أن قيام دولة إسرائيل يخدم الفكرة الصهيونية"، وأكد في إعلان قيام دولة إسرائيل "أن دولة إسرائيل شيء وأرض إسرائيل شيء آخر".
كما كثف رؤيته لحدود "مملكة إسرائيل" في المقدمة التي وضعها للكتاب السنوي لحكومة إسرائيل 10/1952، فكتب يقول "تتألف كل دولة من الأرض والشعب، وإسرائيل لا تشذ عن هذه القاعدة، غير أنها دولة لم تأت مطابقة لأرضها أو شعبها. وأضيف الآن أنها قامت فوق جزء من أرض إسرائيل فقط، فالبعض يتردد بصدد استرجاع حدودنا التاريخية التي جرى رسمها وتعيينها منذ بداية الزمان، وحتى هؤلاء لا يسعهم إنكار الشذوذ الذي تمثله الخطوط الجديدة".
ووثق أيضا رؤيته في 9/3/1964 قائلا "إن الخريطة التي رسمتها الصهيونية لمملكتها الموعودة ما زالت أوسع بكثير من المساحات التي تم احتلالها والاستيلاء عليها بقوة السلاح، إن حدود الدولة اليهودية كانت أبعد وأوسع مما هي عليه لو كان الجنرال موشي ديان رئيسا للأركان العامة أثناء حرب سنة 1948 ضد العرب في فلسطين".
وشكلت رؤية بن غوريون تلك، القاعدة النظرية الإستراتيجية لكافة السياسات الإسرائيلية لاحقا، وبنيت عليها نظريات لا حصر لها في الحدود والأمن ومستقبل إسرائيل.
خطة آلون تعود إلى الواجهة
فاستند القائد العسكري المخضرم يغئال آلون في مشروعه المشهور "خطة آلون" إلى أفكار بن غوريون، وتضمنت النقاط الجوهرية التالية:
1- إصرار إسرائيل على أن حدودها الشرقية يجب أن تكون عند نهر الأردن.
2- من أجل إنشاء جهاز دفاعي صلب من جهة، ولتأمين اكتمال الدولة الصهيونية إستراتيجيا من جهة ثانية، يقول آلون إن على إسرائيل أن تضم إلى الدولة المناطق التالية كجزء لا يتجزأ من سيادتها:
أ- قطاع بعرض يتراوح ما بين 10 و15 كيلومتراً تقريباً على امتداد غور الأردن من غور بيسان وحتى شمال البحر الميت، مع احتواء الحد الأدنى من السكان الفلسطينيين العرب.
ب- ضم قطاع بعرض عدة كيلومترات بحيث يجري فحصها على الطبيعة، من شمال القدس حتى البحر الميت.
جـ- بالنسبة لجبل الخليل وصحراء وادي عربة يقول آلون إنه يجب دراسة إمكانيتين:
- إضافة جبل الخليل مع سكانه.
- إضافة صحراء وادي عربة على الأقل من مشارف الخليل الشرقية وحتى البحر والنقب.
د - الامتناع عن ضم الكثير من السكان العرب مع دراسة إمكانية الاكتفاء بضم صحراء وادي عربة فقط مع إضافة تعديلات على الحدود.
هـ – العمل على إقامة مستوطنات سكنية زراعية وبلدية في المناطق التي ذكرت أعلاه، علاوة على معسكرات ثابتة للجيش الإسرائيلي وفق الاحتياجات الأمنية.
وشكل مشروع آلون عملياً الأرضية السياسية الإسرائيلية لجملة كبيرة من الأفكار والمشاريع الإسرائيلية اللاحقة.
الإجماع الإسرائيلي
ومن بن غوريون إلى أشكول إلى آلون إلى غولدا مائير إلى مناحيم بيغين إلى إسحق رابين، ثم إسحق شامير، مرورا بشمعون بيريز فإيهود باراك ثم شارون ثم أولمرت ثم أخيرا نتنياهو، كلهم يجمعون على القواسم المشتركة بشأن الحدود المحتملة لدولة إسرائيل.
وكلهم يجمعون على أن هذه الحدود متحركة وفقا لحسابات واعتبارات أمنية واستيطانية وديمغرافية، فهم يجمعون على أوسع مساحات ممكنة من الأرض العربية مع أقل عدد ممكن من السكان العرب.
فإسحق رابين كان استعرض في آخر خطاب له أمام الكنيست، في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1995، قبل شهر واحد من اغتياله، رؤيته في ما يتعلق بالحدود المستقبلية، معلنا أن "إسرائيل لن تعود إلى خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967.
وأضاف أن "حدود الأمن للدفاع عن دولة إسرائيل ستقام في غور الأردن وفق التفسير الأوسع لهذا المفهوم".
ومن رابين إلى شامير الذي أعلن في ديسمبر/كانون الأول 1988 "بالتأكيد لن نقوم بأي انسحاب من المناطق، مؤكدا "لن يحصل الفلسطينيون على دولة فلسطينية أبداً، وهم لن يحصلوا عليها لا بطريق المفاوضات، ولا بطريق القوة، ولا يمكن تقبل فكرة إقامة دولة فلسطينية، إن هذا لن يحدث أبدا".
وأوضح أن "القوات الإسرائيلية ستبقى مرابطة في الأماكن التي تحدد لها ولن يحدث أي تغيير جذري في المناطق".
ولم يجد شارون كغيره، سوى إطار اتفاقية "الحكم الذاتي للفلسطينيين"، وأكد في مقابلة مع صحيفة هآرتس بتاريخ 14/4/2005 على "وجوب سيطرة إسرائيل على منطقة غور الأردن من مرتفعات الجبال المطلة عليها".
ولم يتخلف الجنرال باراك فأعلن بدوره أن "ترسيم الحدود يجب أن يكون على أساس الاعتبارات الأمنية والديمغرافية، بحيث تبقى الكتل الاستيطانية في المناطق تحت سيطرة إسرائيل، إضافة إلى تمتع الدولة العبرية بغالبية يهودية".
وكذلك إيهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق الذي أعلن أنه "لا يمكن التخلي عن السيطرة على غور الأردن وعلى الحدود الشرقية لدولة إسرائيل".
نتنياهو والسلام والأمن
ومن ذلك الإجماع الإسرائيلي على نظريات الحدود والأمن، إلى نتنياهو الذي يعتبر اليوم خلاصة الفكر والمشروع الصهيوني.
فالواضح أن نتنياهو نجح في حشر الفلسطينيين والعرب في مأزق تفاوضي صعب جدا، فبعد أن أجبرهم على إسقاط كل الشروط المسبقة للمفاوضات المباشرة، حتى أبسطها المتعلقة بتجميد الاستيطان، فاجأ الجميع بإعلان شروطه هو للمفاوضات والتسوية.
فهو "يرفض البحث في حدود الدولة الفلسطينية العتيدة قبل حسم قضية الترتيبات الأمنية"، وقد أبلغ نتنياهو الرئيس الأميركي ووزيرة الخارجية كلينتون والمبعوث جورج ميتشل -حسب هآرتس- "أن الحدود سترسم وفق الترتيبات الأمنية".
وأعلن "أن هناك ثلاثة أسس تتمسك بها إسرائيل من أجل إبرام الاتفاق هي: تحقيق الترتيبات الأمنية الإسرائيلية، واعتراف فلسطيني بإسرائيل دولة لليهود، وأن يشكل هذا الاتفاق نهاية للنزاع".
وكان نتنياهو قد أكد يوم 27 يوليو/تموز 2010، ضمن أشياء أخرى "أن هناك ضرورة قصوى لجعل السلام مستندا إلى الأمن".
وفي هذه المسألة تحديدا، لاحظ السياسي الإسرائيلي اليساري المخضرم أوري أفنيري أن نتنياهو بدأ في الآونة الأخيرة يلوح كثيرا بفزاعة "الجبهة الشرقية" التي كانت قد رأت النور للمرة الأولى إثر حرب يونيو/حزيران 1967، وجاءت لتسويغ مفهوم إستراتيجي في "نظرية الأمن الإسرائيلية" فحواه أن نهر الأردن يجب أن يكون جزءا من "حدود إسرائيل الأمنية"، ذلك أنه يضمن للدولة العبرية "حدوداً يمكن الدفاع عنها"، وفقا لما ورد في حينه في ما عرف باسم "خطة يغئال آلون".
وفي الحدود والأمن والدولة الفلسطينية، فإن الجيش الإسرائيلي هو الذي يتسلم هناك هذه المهمة منذ زمن، كما كان كتب زئيف شيف المعلق العسكري في صحيفة هآرتس (قبل وفاته) حول المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قائلا "إن مهمة إعداد الخرائط ألقيت على عاتق قسم التخطيط في هيئة الأركان العسكرية".
وحسب خرائط الجيش الإسرائيلي سيواصل الإسرائيليون الإشراف على المعابر الحدودية مع الأردن، وفي الموانئ والمطارات، ولن ترسم الحدود بين إسرائيل وفلسطين، كما سيستمر العمل وفق التسويات الاقتصادية وأجهزة التعاون الأمني والمدني كما هي قائمة.
وتتضمن وثيقة خريطة الجيش للحدود والأمن والدولة من ضمن ما تتضمن:
1- أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح.
2- منع عقد تحالفات بين فلسطين وأي دولة أخرى.
3- وجود محطات إنذار إسرائيلية في المناطق الفلسطينية المرتفعة.
4- انتشار الجيش الإسرائيلي على طول نهر الأردن.
5- وجود إسرائيلي في المعابر الحدودية الفلسطينية.
6- استمرار إسرائيل في السيطرة على المجال الجوي للدولة الفلسطينية.
7- ممرات خاصة تتيح لإسرائيل التوغل في عمق الأراضي الفلسطينية وقت الحاجة.
كما جاء في تقرير للدائرة الأمنية والسياسية في وزارة الحرب الإسرائيلية برئاسة عاموس جلعاد، وبالتعاون مع شعبة التخطيط في رئاسة هيئة الأركان الذي قدم إلى المستوى السياسي حول الرؤية الإستراتيجية الأمنية لمستقبل الضفة الغربية في إطار الاتفاق الدائم أن التقرير المذكور يوصي بضرورة الاحتفاظ بثمانية مواقع عسكرية إستراتيجية إسرائيلية في الضفة الغربية أو ما يعرف بالنقاط الأمنية.
ويحذر التقرير من التنازل عن هذا المطلب المتمثل في إقامة هذه النقاط في مواقع مختلفة من الضفة الغربية وأن يتضمن أي اتفاق مستقبلي مع الجانب الفلسطيني هذه الترتيبات الأمنية.
الحدود والأمن وحلم الدولة
فالواضح إذن، أنهم في إسرائيل يرسمون حدودهم وحدود "دولة فلسطين" وفق وثائقهم وخرائطهم وأدبياتهم، فماذا تقول تلك الوثائق والخرائط والأدبيات التي تشكل من وجهة نظر إسرائيلية أساس العملية التفاوضية، خاصة أن دولة الاحتلال تربط ربطا قويا وعضويا وإستراتيجيا بين مشروع الاستيطان السرطاني وجدار الفصل والضم والتهويد و"ترسيم الحدود" و"الترتيبات الأمنية" و"مستقبل الدولة الفلسطينية".
ويبين جوهر وثائق ترسيم الحدود والترتيبات الأمنية أن دولة الاحتلال تريد للشعب الفلسطيني عمليا "دولة منزوعة الدولة"، وأن لا تكون هذه الدولة سوى "محمية" تحت السيادة الإسرائيلية، دولة منزوعة السلاح وبلا جيش يحمي حدودها الهشة، وليسمها الفلسطينيون دولة أو إمبراطورية لا فرق.
ويتبين لنا في الخلاصة المكثفة في هذا السياق أن خرائطهم بحدودها وبترتيباتها الأمنية المعدة في شعبة الأركان العسكرية الإسرائيلية، إنما هي عبارة عن "صفقة سياسية" تعرض على الفلسطينيين مضمونها دولة مؤقتة -بسقف الحكم الذاتي- منزوعة المقومات مقابل التنازل في الضفة وعن القدس وعن حق العودة للاجئين.
وإما أن يقبل الفلسطينيون هذه الصفقة أو أن يرفضوها. فإن رفضوها فهذا يشكل الذريعة التي يريدونها لتمضي دولة الاحتلال قدما في استكمال مشاريعها ومخططاتها واستيطانها وجدرانها الرامية إلى نهب وتهويد الأرض والمدينة المقدسة إلى أبد الآبدين.
يحتاج الفلسطينيون في مواجهة هذا التهديد الإستراتيجي الخطير إلى خطاب وعمق وموقف ودعم عربي حقيقي وجاد ومسؤول، في الوقت الذي يحتاجون فيه قبل كل شيء إلى وحدتهم الوطنية الداخلية الصلبة وإلى برنامج سياسي واضح المعالم والمضامين والخطوط والأهداف.
(*)المصدر: موقع الجزيرة/ تحليلات