ارشيف من :آراء وتحليلات

أوروبا بين الخلاص الآتي من الشرق والخطر الداهم من الغرب !

أوروبا بين الخلاص الآتي من الشرق والخطر الداهم من الغرب !
عقيل الشيخ حسين
تحت عنوان "أوروبا بين الأخطار الحقيقية والخلاص الآتي من الشرق"، ذكرنا في مقالة سابقة أن لحركات المقاومة والممانعة في المنطقة العربية الإسلامية، وخصوصاً في نقاطها الساخنة التي تشهد حروباً طويلة الأمد، كما في أفغانستان والعراق، أو حروباً متقطعة ومتواترة، كما في لبنان وفلسطين، فضل كبير في فتح طريق الخلاص أمام الغرب عبر دفعه، من خلال ما تلحقه به من هزائم، نحو البحث عن حلول، في الغرب، لمشكلاته المتعددة الأطراف.
في مقالة اليوم، نتطرق إلى ما يمكن أن نسميه، على نقيض الخلاص، ضربة قاسية توجهها الإدارة الأميركية إلى حلفائها الأوروبيين، في وقت هم بأمس الحاجة فيه إلى المساعدة بسبب الضربات القاسية التي يتلقونها داخل مجتمعاتهم، تحديداً في ما يتعلق بالعجز الكبير في الموازنات، وبالإصلاحات التقشفية الهادفة إلى تقليص هذا العجز، علماً بأن هذه الإصلاحات تثير غضباً غير مسبوق في الشارع الأوروبي، ولا شبيه له غير حالات الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي التي شهدتها أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، ثم قبل الحرب العالمية الثانية.
أبرز الإصلاحات هي تلك التي أقرت في فرنسا من قبل الجمعية العمومية مؤخراً وقضت برفع سن التقاعد من 62 إلى 67 عاماً.
إجراء اعتمدته حكومات أوروبية أخرى لأنه يسمح بتوفير مبالغ مالية كبيرة من نتاج عمل ملايين الأشخاص الذين كانوا، فيما لو منحوا رواتبهم التقاعدية في سن الـ 62، سيتحولون، من منتجين إلى مستهلكين شديدي الوطأة على الموازنة، إضافة، بالنظر إلى تقدمهم في العمر، إلى ارتفاع مستوى إنفاقهم الصحي والرعائي على حساب صناديق الضمان الاجتماعي.
ملايين التلامذة ممن لا تزيد أعمارهم عن 15 عاماً باتوا مرشحين بامتياز للانضمام إلى طوابير العاطلين عن العمل  
بالمقابل، يدفع هذا الإجراء باتجاه تناقص الطلب على توظيف العناصر الشابة التي تحرم بذلك من فرص الحصول على وظائف قبل سن الثلاثين، الأمر الذي أثار غضب هذه العناصر، وامتد إلى الجامعات وخصوصاً إلى المدارس الثانوية، حيث انضم إلى حركة الاحتجاج ملايين التلامذة ممن لا تزيد أعمارهم عن 15 عاماً والذين باتوا مرشحين بامتياز للانضمام إلى طوابير العاطلين عن العمل الذين بلغت نسبتهم في أكثر من بلد أوروبي حدود الـ 20 بالمئة.
وبين العناصر الشابة والعناصر المتقدمة في السن، تمتد جميع شرائح الطبقات الوسطى وما دون الوسطى لتتحمل، جنباً إلى جنب، ضغوط تقليص الإنفاق العام، وبالتالي تخفيض الرواتب (خفضت رواتب المدرسين في رومانيا بنسبة 25 بالمئة)، أو حتى التوقف عن دفع رواتب الموظفين لأشهر متتالية، كما في حالة اليونان.
النقابات العمالية نزلت بكل ثقلها إلى الشارع، وتمكنت خلال الأسابع الثلاثة الماضية من تنظيم آلاف المظاهرات التي عمت المدن الأوروبية من بروكسل إلى باريس، ومن براغ إلى برلين ودبلن ومدريد وأثينا.
لم يخل الأمر من صدامات مع الشرطة تم خلالها اعتقال المئات من المتظاهرين، وأدى لجوء شرطة مكافحة الشغب إلى اللجوء إلى العنف وإطلاق الأعيرة المطاطية إلى ارتفاع وتيرة الغضب الشعبي.
وبالتوازي مع التظاهرات، لم يسلم أي قطاع عام أو خاص من إضرابات شلت وسائط النقل على اختلافها. ووصلت الإضرابات إلى مصافي النفط ومستودعاته، حيث صار من العادي رؤية طوابير من مئات السيارات المتوقفة أمام محطات الوقود بانتظار أي تطور. 
إذا كانت أميركا مستعدة لأن توجه مثل هذه الضربة المنكرة لأعز حلفائها وأقربهم، فما ظنكم بما يمكن أن تفعله بتابعيها 
أوروبا تعاني حالياً من شلل حقيقي. والشلل مرشح لأن يشهد المزيد من التفاقم.  ومع هذا، تصر الحكومات على عدم التراجع عن خططها الإصلاحية التقشفية. وهي إذ تفعل ذلك، تفعله تحت وطأة تهديدات المفوضية الأوروبية بمعاقبة كل بلد يقصر في العمل من أجل تقليص ديونه السيادية.
والنقابات تصر بدورها على عدم التراجع، ما يعني أن السلم الاجتماعي في أوروبا يتعرض لتهديد جدي.
وفي ظل هذا المأزق، يطل الأميركيون برؤوسهم ليزيدوا الوضع تفجراً. فهم قلقون، على لسان أوباما، ووزير دفاعه، روبرت غيتس، ووزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، بسبب خطط خفض موازنات الدفاع من قبل الحكومات الأوروبية.
فمن الطبيعي لخفض الإنفاق العام أن يمس الإنفاق العسكري. وهنالك خطط في جميع بلدان أوروبا لاعتماد تخفيضات كبيرة في هذا المجال. بريطانيا تريد خفض إنفاقها العسكري بمعدل عشرة بالمئة من أصل 37 مليار جنيه (59 مليار دولار). أما ألمانيا فستشطب 9،3 مليار يورو (13 مليار دولار) من موازنتها الدفاعية. وعلى هذا القياس قس.
سبب القلق الأميركي هو أن هذه الإجراءات من شأنها أن تقوض قدرات حلف شمال الأطلسي. إضافة إلى مسؤوليات أخرى على الأوروبيين أن يضطلعوا بها في مجال أمن الفضاء الالكتروني والدفاع الصاروخي...
بكلام آخر، يقول الأميركيون للحكومات الأوروبية : صادروا ما تبقى لشعوبكم من مقومات العيش لتملأوا بها صناديق الحلف الأطلسي... ولتأمين احتياجات حروب الغزو. تلك الحروب التي باتت مرفوضة من حكومات أوروبا وشعوبها على السواء.
أكثر من مرة، كان خراب أوروبا خلال النصف الأول من القرن العشرين رافعة لازدهار الولايات المتحدة. فهل دخلت أميركا المأزومة في منطق الخروج من أزمتها عبر تخريب أوروبا... عبر نقل الفوضى البناءة إلى أوروبا، بعد أن عجزت عن زرعها في الشرق الأوسط ؟
وإذا كانت أميركا مستعدة لأن توجه مثل هذه الضربة المنكرة لأعز حلفائها وأقربهم، فما ظنكم بما يمكن أن تفعله بتابعيها الذين لا نكشف سراً إذا قلنا بأنها تستغلهم وتستعملهم ثم تلتهمهم. ألم تقل أميركا بالصوت العالي : بعد أفغانستان والعراق يأتي دور السعودية ؟!
2010-10-16