ارشيف من :أخبار لبنانية
حصار غزة والاعتداء على سفن أسطول الحرية في فقه القانون الدولي
إعداد: د.عادل عزام سقف الحيط(*)
تتعرض هذه الدراسة إلى التكييف القانوني الدولي لاحتلال فلسطين، وإلى قرارات التقسيم وبطلان كل المخالفات الجسيمة للقواعد الآمرة المتعلقة بأحكام الانتداب الدولية في عهد عصبة الأمم، وقواعد الوصاية في ميثاق الأمم المتحدة. كذلك تناقش الدراسة تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها على قطاع غزة، وادّعاءَ العدو الصهيوني أن غزّة كيان معادٍ لا إقليم محتل، والالتزامَ بمبدئي التمييز والتناسب في تحقيق الأهداف العسكرية. وتَبْسُطُ الدراسة القول في شرعية المقاومة المسلّحة في غزة، وارتباطها بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
وأيضاً، فإنها تفنّد عدم قانونية اتفاقيات المعابر البرية التي أبرمها الاحتلال؛ فالاحتلال الحربي، واقعياً، يوقف الدولة المحتلة عن ممارسة سلطاتها السيادية مؤقتاً، ولا يلغيها، كما لا يحق له أن يغير المركز القانوني للأقاليم المحتلة. وكذلك تتعرض الدراسة إلى عدم قانونية الإغلاقين: الجوي والبحري المفروضين على غزة، واعتبارهما عقوبة جماعية على سكان القطاع وجريمة ضد الإنسانية. ويتناول الباحث جريمةَ الاعتداء على سفن أسطول الحرية التي شرعت بالتدخل المدني الإنساني لإغاثة أهلنا في غزة، والقوانينَ الدولية والوطنية المتصلة بمعاقبة كيان العدو وكل مسؤوليه وجنوده الذين شاركوا في الجريمة.
التكييف القانون الدولي لاحتلال فلسطين
الأراضي الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية، من البحر إلى النهر، هي أراض محتلة في فقه القانون الدولي؛ فالاحتلال والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة يخالف المبادئ العامة والقواعد الآمرة الدولية، وهي قواعد تتصل بالنظام العامّ، ولا يجوز الاتفاق على مخالفتها. فالكيان الصهيوني بذلك غير شرعي، وإن اعترفت له منظمة الأمم المتحدة بصفة "الدولة"؛ فالقرارات الباطلة، موضوعاً، وما ينبني عليها من إجراءات، لا ترتّب أثراً أو حقوقاً للمعتدي، بل يستطيل إليها البطلان ويعطّل أثرها، لأن ما يبنى على باطل هو باطل، ولا يرد عليه التصحيح، ولا يغير من بطلانه الاعتراف.
ومن ثَمّ، فليس لأحد حق التنازل عن البطلان المطلق صراحة أو ضمناً، ويجوز الاحتجاج به (البطلان) على الرغم من سبق التنازل عنه، فالبطلان المطلق لا يَسقط الحق في التمسك به مطلقاً، لأنه من القواعد الآمرة ولأنه متصل بحق الشعوب والأجيال اللاحقة في الاستقلال وتقرير المصير.
وتطبيقاً لذلك، فقرار التقسيم رقم (181) لعام 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين: فلسطينية ويهودية، هو قرار باطل ومخالف لميثاق الأمم المتحدة ولقواعد القانون الدولي وأحكامه؛ لأن الأمم المتحدة عامة، والجمعية العامة خاصة، لا يحق لها أن تقسّم وطناًً لا تملكه، فمن لا يملك لا يمنح. كما أن القرار باطل قانوناً لمخالفته قواعد القانون الدولي الآمرة، وأحكام الانتداب الدولية في عهد عصبة الأمم، وكذلك أحكام الوصاية الدولية في عهد الأمم المتحدة؛ ومن ثَمّ يستطيل البطلان ويمتدّ إلى كافة الآثار المترتبة على قرار التقسيم.
وفي كل الأحوال، فقرار الأمم المتحدة بقبول "إسرائيل" عضواً في المجتمع الدولي، اشترط عليها قبولها بقرار التقسيم رقم (181) لعام 1947، وبالقرار (194) لعام 1948 القاضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين؛ ورفض "إسرائيل" أياً من القرارين المذكورين يعني الطعن في شرعيتها الدولية (الحوراني: 2002، دراسة قانونية).
وقد اعترفت الأمم المتحدة بأقاليم "إسرائيل" البرية والبحرية والجوية، وفقاً لما جاء في قرار التقسيم (181) لسنة 1947، ثم لاحقاً وفق القرار (242) لسنة 1967، على الرغم من عدم تسليمنا بأي منهما. وترتكز السلطة الفلسطينية في مفاوضاتها إلى القرار (242) على الرغم من أنه ينصّ على وجوب انسحاب الكيان الصهيوني إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967، في حين أن القرار (181)، على الرغم من بطلانه ورفض العرب له وقت صدوره، يحكم للفلسطينيين من أرض فلسطين بضعفي ونصف المساحة التي يحكم بها القرار (242)؛ وإن القرار الأخير، بخلاف القرار الأول، لا يتعرض لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره؛ بل يتحدث عن "حل عادل" لقضية اللاجئين لا "حق العودة"، ولقد جادل الكيان الصهيوني في أن هذا الحق يشمل اليهود في الدول العربية ودول المهجر.
وبموجب القرار (242) يتعامل المجتمع الدولي مع القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة على أنها "مناطق محتلة"، مما يعني أن جميع الأعمال العسكرية التي ينفذها العدو في هذه المناطق محكومة باتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949.
ويجادل الكيان الصهيوني في أن فلسطين قبل الانتداب لم تكن دولة ذات سيادة، وأن الأراضي التي استولى عليها العدو في حرب 1967 لم تكن جزءاً من دولة وإنما مثّلت "مناطق مدارة" لا "مناطق مستقلة" (غتمان وريف وكُتاب: 2003، ص 55). غير أن واقع الأمر يشير إلى أن فلسطين، بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، قد وُضعت خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تحت الانتداب البريطاني، بموجب المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم، لمساعدتها في تطوير أجهزتها الإدارية والسياسية.
وقد صنّفت فلسطين آنذاك وفق الفئة (أ)، وهي نفس الفئة التي صنف فيها كل من العراق وسوريا ولبنان والأردن. والتكييف القانوني لهذه الطائفة من طوائف الانتداب أنها بلغت تطوراً سياسياً يؤهلها للتمتع بالاستقلال الكامل، لكنها لا تباشر اختصاص الدولة بذاتها، بل تنوب عنها في ذلك الدولة المنتدَبة، وهي بريطانيا في حالة فلسطين (سرحان: 1989، 26 – 28). وقد أعلنت العصبة في اجتماعها الأخير والمنعقد في نيسان / أبريل 1946 أنها انحلت تماماً، وأن دورها بالنسبة للأراضي الواقعة تحت الانتداب قد انتهى، وبذلك لم تنقل العصبة أي وصاية تتعلق بفلسطين إلى الأمم المتحدة (الطاهر: 2001، دراسة قانونية).
وفي واقع الأمر، فبريطانيا اقترفت خيانة لأمانة صكّ الانتداب؛ حيث سهّلت هجرة اليهود إلى فلسطين، ودعمت تسليح العصابات الصهيونية، مخالفةً بذلك البند (5) من صك الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدبة بعدم التصرف أو بعدم تأجير أي جزء من أراضي فلسطين، والبندان (22) و (28) – على التوالي - يلزمان دولة الانتداب بمنح الشعب الفلسطيني كامل حقوقه الوطنية في دولته المستقلة، وبتسليم فلسطين إلى "حكومة محلية" فور انتهاء الانتداب.
ويَفترض صك الانتداب أن القيود المفروضة على سيادة الشعب قيود مؤقتة، ولا يَمنح الصكُّ، أو الشرعة الدولية، الدولةَ المنتدبةَ الحقَّ في مصادرة حق الشعب الواقع تحت الانتداب في تقرير مصيره (South West African Case, Security Council Resolution 276 – 1970).
وعندما أُنشئت منظمة الأمم المتحدة عام 1945، كانت فلسطين تتمتع بمقومات الشخصية الدولية، وهي حقيقة يؤيدها التاريخ، فقد أَبرمت فلسطين عدة معاهدات دولية، إبّان الانتداب وفي أثنائه، كان من أهمها اتفاقية تسليم المجرمين عام 1922 مع الحكومة المصرية، والاتفاقية المصرية الفلسطينية التي صادق عليها مجلس الوزراء المصري عام 1946 بشأن تبادل عربات الركاب بين مصلحتي السكك الحديدية المصرية والفلسطينية (بيومي: 2002، دراسة قانونية).
وفي ردها على الاعتراض الذي تقدمت به الدول العربية، على عدم صلاحية تصرف الأمم المتحدة بفلسطين، فقد أيدت "لجنة الأمم المتحدة حول فلسطين" الاعتراض، وقررت الآتي: "بدراسة الفصل الثاني عشر – في نظام الوصاية الدولي - من ميثاق الأمم المتحدة، تبيّن بما لا يدع مجالاً للشك أن الجمعية العامة، وأي جهاز آخر من أجهزة الأمم المتحدة، لا يتمتعون بصلاحية النظر، ناهيك عن التوصية أو فرض أي حل لقضية فلسطين، يخرج عن إطار الاعتراف باستقلالها ...." (الطاهر: 2001، دراسة قانونية).
وقد أيد فقهاء القانون الدولي المنصفون قرار اللجنة، بناءً على أن الأمم المتحدة غير قادرة على نقل ملكية سيادة إقليمية لا تملكها أصلاً، فيكون التقسيم اعتداءً على أرض فلسطين، وحرماناً للأغلبية الفلسطينية من حق تقرير المصير لصالح الأقلية اليهودية، التي سهّلت لها الدولة المنتدَبة هجرة معظمهم إلى فلسطين في أثناء الانتداب؛ فعدد اليهود في فلسطين إبّان عهد الانتداب عام 1922 كان أربعة وثمانين ألفاً، وفي عام 1946 ارتفع هذا العدد إلى ستمائة وثمانية آلاف نسمة، أي بنسبة زيادة بلغت 87%، كان أكثرهم وَفـَدَ إلى فلسطين في فترة الانتداب من بولندا وروسيا ووسط أوروبا- وفق إحصائية اعتمدها الطاهر ونشرتها صحيفة العربي الناصرية المصرية (الطاهر: 2001، دراسة قانونية).
غير أن الجمعية العامة لم تعر قرار اللجنة والخبراء أي اهتمام، وأصرت على أنها مخوّلة، بموجب البند (10) من ميثاق الأمم المتحدة، بالتصرف والتوصية وفق مشيئتها، واحتجت بالنص الآتي: "للجمعية العامة أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق هذا الميثاق أو يتصل بسلطات أي فرع من الفروع المنصوص عليها فيه أو في وظائفه. كما أن لها، في ما عدا ما نُصّ عليه في المادة (12)، أن توصي أعضاء الهيئة أو مجلس الأمن أو كليهما بما تراه في تلك المسائل والأمور".
ويعدّ قرار الجمعية تأويلاً مخالفاً لميثاقها، وهو الذي ينص في المادة (80/1) منه على الآتي: " ... لا يجوز تأويل نصّ أيّ حكم من أحكام هذا الفصل - الفصل الثاني عشر: في نظام الوصاية الدولي - ولا تخريجه، تأويلاً أو تخريجاً، من شأنه أن يغير بطريقة ما أيَّ حقوق لأيِّ دول أو شعوب ....". كما يخالف القرار ما جاء في البند (73) من الميثاق، وفيه أن أعضاء الأمم المتحدة الذين يوكل إليهم إدارة الأقاليم يقرّون بأن: "مصالح أهل هذه الأقاليم لها المقام الأول، ويَقبلون أمانة مقدسة في عنقهم ... ويعملون على تنمية رفاهية أهل هذه الأقاليم ... ويوطدون السلم والأمن الدولي". بل إن القرار يخالف ديباجة ميثاق هيئة الأمم المتحدة التي نصت على ضرورة: "تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي".
تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها على قطاع غزة والالتزام بمبدئي التمييز والتناسب في الأعمال القتالية
ينظر المجتمع الدولي إلى القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها أقاليم فلسطينية محتلة، وقد أصدر مجلس الأمن الكثير من القرارات في هذا الشأن، ربما كان أهمها القرار رقم (446) لعام 1979، والذي ينص على خضوع الأعمال الحربية التي يقوم بها العدوّ في كل الأقاليم المحتلة عام 1967 لاتفاقية جنيف الرابعة (Reynolds: 2010, BBC News). ومن القرارات المعاصرة ذات الصلة القرار رقم (1860) الصادر في 9 من كانون الثاني/ يناير2009، إثر العدوان الصهيوني البربري على غزة، والذي نص على أن قطاع غزة يؤلف جزءاً متكاملاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ويشكل من ثَمّ جزءاً من الدولة الفلسطينية (United Nation Security Council SC/9940: 2010).
ووفق مبادئ القانون الدولي، فالعدو يشكل قوة احتلال ما دامت سيطرته مستمرة على معابر قطاع غزة وعلى إقليميه البحري والجوي. وتطبق من ثَمّ على الأراضي الفلسطينية أحكام اتفاقية لاهاي لعام 1907، واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والبروتوكول الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف لعام 1977، ويبقى الاحتلال الصهيوني مسؤولاً مسؤولية كاملة عن حفظ الأمن وحقوق الإنسان داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بصفته قوة احتلال لا تزال تسيطر على المناطق التي تديرها مدنياً حركة حماس، دون أن يعفي ذلك الاحتلال الصهيوني من مسؤوليته القانونية طبقاً للقانون الدولي.
ولقد أحكم العدو حصاره على القطاع منذ فوز حماس في الانتخابات عام 2006 بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وما تلاه من مؤامرات داخلية وخارجية استهدفت إثارة القلاقل والفتن، لعزل حماس عن الحكم وإفشال التجربة الديمقراطية هناك. ويتذرع العدو بالاتفاقيات الأمنية التي أبرمها مع السلطة الفلسطينية قبل "إعادة انتشاره" في قطاع غزة عام 2005، وهي اتفاقيات ومعاهدات باطلة بطلاناً مطلقاً؛ فهي قد أُبرمت تحت تهديد الاحتلال العسكري، وتؤدي إلى تنازلات إقليمية خطيرة، وهذا ما نصت عليه المادة (52) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية: " تكون المعاهدة باطلة إذا تم التوصل إلى عقدها بطريق التهديد أو استخدام القوة، بصورة مخالفة لمبادئ القانون الدولي المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة". وسنأتي بشيء من التفصيل على ذلك.
وتُعنى اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، بإلزام الأطراف السامية بالحفاظ على حياة المدنيين غير المقاتلين وكرامتهم، وممتلكاتهم، أثناء النزاعات المسلحة في الدول والأقاليم المحتلة. غير أن المحكمة العليا الصهيونية كانت قد قررت أن اتفاقيه لاهاي واتفاقيات جنيف الثلاث الأولى تمثل جزءاً من القانون الدولي العرفي، ومن ثَمّ فهي تلزم حكومة العدو بالعمل بمقتضاها، في حين أعلنت المحكمة أنها ستتصرف، بحكم الواقع، وفقاً للأحكام الإنسانية بشأن اتفاقية جنييف الرابعة. وكان العدو قد اعترف باتفاقية جنيف الرابعة في الأمر العسكري رقم (3) الصادر في 7 حزيران/ يونيو 1967، ثم عاد وألغى اعترافه بها ضارباً بقرارات مجلس الأمن ذات العلاقة عرض الحائط (محكمة العدل الدولية – إجراءات إفتاء: 2004، ص 139). والواقع أن اتفاقيتي لاهاي وجنيف ملزمتان لجميع الدول، سواء أصادقت عليهما الدول أم امتنعت عن ذلك؛ لأنهما تجسدان، في جميع جوانبهما ذات الصلة، القانونَ الدوليَّ العامَّ والقانونَ الدوليَّ الإنسانيَّ العرفيَّ. وقد أيد هذا التوجهَ أحكامُ العديد من المحاكم الجنائية وقراراتها، وكذا أحكام اللجان الدولية (سقف الحيط: 2009، دراسة قانونية).
وكما نصت المادة الثانية من اتفاقية جنيف الرابعة، فهذه الاتفاقية تسري على: "جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليمِ أحد الأطراف السامية المتعاقدة". وقد حاولت حكومة العدو التنصل من حقيقة أنها دولة محتلة لقطاع غزة، ومن ثَمّ أنكرت دورها وواجباتها بوصفها قوة احتلال مسؤولة إنسانياً وقانونياً وفق هذه الاتفاقية، وتذرعت بأن "انسحابها" من القطاع سنة 2005 يعني استقلال القطاع وبسط حكومة فلسطينية السيادةَ عليه. والحقيقة أن ما قامت به قوات العدو هو "إعادة انتشار" لا انسحاب، وأن قطاع غزة لا يزال محتلاً، بسبب سيطرة العدو غير المشروعة، على كافة معابره البرية، وعلى أراض أخرى للقطاع، وعلى إقليميه البحري والجوي؛ ومن ثَم فانسحاب العدو المنفرد إلى مواقع جديدة، وكذلك عدم ممارسة العدو لوظائف الحكومة داخل القطاع، لا تعني إنهاء حالة الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية الغزيّة، ولا تؤدي إلى استقلال القطاع بالمعنى القانوني، وإنما تبقيه محتلاً جزئياً وخاضعاً لتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة (سقف الحيط: 2009، دراسة قانونية).
وفي 5 من تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار (A/Res/64/10)، وفيه استرشدت بمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، وأشارت إلى قواعد القانون الدولي ومبادئه ذات الصلة، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب والمؤرخة في 12 من آب/ أغسطس 1949، تسري على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية؛ وأوصت الجمعية حكومة سويسرا، بصفتها الحكومة الوديعة لاتفاقية جنيف، المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب، بأن تتخذ الإجراءات اللازمة في أقرب وقت ممكن لعقد مؤتمر للأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن تدابير إنفاذ الاتفاقية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكفالة احترامها وفقاً للمادة الأولى منها. غير أن هذه التوصيات لم تترجم عملياً في فلسطين المحتلة، ولا يزال العدو الصهيوني ينكر أنه قوة احتلال (General Assembly:2009, 39th plenary meeting).
ويقودنا ذلك إلى ضرورة تقيّد قوات الاحتلال بمبدئين حربيين مهمّين، أولهما هو: مبدأ التمييز "The Principle of Distinction"، ومفاده: التمييز بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية؛ فالعمليات القتالية يجب أن توجه إلى المقاتلين وإلى الأعيان المستخدمة في القتال فقط، لا إلى المدنيين أو أعيانهم. وقد جاء في المادة (48) من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف لسنة 1977 ما يفيد باقتصار القتال على الأهداف العسكرية دون غيرها: "تعمل أطراف النزاع على التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ومن ثَمَّ فعليها أن توجّه عملياتها ضد الأهداف العسكرية دون غيرها، وذلك من أجل تأمين احترام السكان المدنيين وحمايتهم وتأمين الأعيان المدنية". كما حظرت المادتان (51) و(52) من ذات البروتوكول الهجمات العسكرية العشوائية التي توقع خسائرَ في أرواح المدنيين أو تهدد سلامتهمً، أو تضر بالأعيان المدنية، بغية تحقيق انتصارات عسكرية. وحظرت المادة (54) تجويع المدنيين بصفته أسلوباً من أساليب الحرب. هذا، وتشكل أيٌّ من التجاوزات الجسيمة السابقة جريمة حرب وفق ما جاء في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
أما المبدأ الثاني فهو مبدأ التناسب ""The rule of proportionality وبموجبه فيُحظر شن الهجوم العسكري الذي يتوقع أن يتسبب في خسائر عرضية تلحق بأرواح المدنيين أو يؤدي إلى الإضرار بالأعيان المدنية. ويجب الافتراض بأن الأعيان المدنية لا تستخدم لتسهيل مهمات قتالية، فإذا تعمد المقاتلون التماهي بالمدنيين وأعيانهم، فيُحظر على الجيوش ضربهم، إلا في حالات الضرورة القصوى التي يتحقق فيها للمهاجمين منفعة إنسانية كبيرة للغاية، مقارنة بخسائر محدودة للغاية في المدنيين و/أو في أعيانهم. كما يُحظر بشكل قاطع ضرب أماكن التركّز السكاني، وإنْ تَحَصَّنَ بها المقاتلون، ويُحظر القصف السجّادي، ويحظر استخدام القوة المفرطة التي لا تبيحها الضرورة العسكرية في قتل المحاربين: تشفياً وانتقاماً وإرهاباً.
وتصف المادة (85) من البروتوكول الأول الهجومَ العشوائيَّ الذي ينفذ، مع سابق معرفة المهاجمين بأنه سيوقع ضرراً جانبياً مفرطاً بالسكان المدنيين- تصفه بالخرق القانوني الجسيم، وهو جريمة حرب وفق التكييف القانوني للمادة (8/ب/4) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي التي عددت جرائم الحرب، فأوردت في الفقرة (ب) النص الآتي، تبياناً له وتوضيحاً، فقالت إنه : "تَعَمُّدُ شنّ هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مدنية أو إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديدٍ للبيئة الطبيعية، ويكون إفراطه واضحاً بالقياس إلى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة".
ويتذرع العدو الصهيوني بأن المقاومة الفلسطينية الغزّية تطلق صواريخ بعيدة المدى تطول مستوطنيه "المدنيين"؛ لذلك فهو فرض حصاره على غزة لضمان وقف إطلاق الصواريخ، وهو من ثَمَّ يحاول تبرير العقوبات الجماعية ضد سكان القطاع بالدفاع الشرعي. وعلى سبيل الفرض الساقط بأن صواريخ المقاومة تنتهك القانون الدولي، مع عدم التسليم بذلك، فإن مخالفة القواعد الآمرة لهذا القانون من جانب المقاومة، لا يبرر جرائم يرتبكها المحتلّ، ويبقى العدو ملزماً بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الأول الملحق بها.
وقد ذهب في ذات الاتجاه الفقيهُ ميشيل فيوذي، المستشارُ القانوني السابق للجنة الدولية للصليب الأحمر، حيث قال: "إن عدم احترام مجموعات معينة لقوانين الحرب، لا يعطي مجموعات أخرى حقاً في عدم احترامها" (غتمان وريف وكتاب: 2003، ص 70).
وفي ضوء تمترس العدو الصهيوني الجبان على تخوم حدود غزة البرية، واعتماده الدباباتِ والأسلحةَ الثقيلة، للحيلولة دون تمكين رجال المقاومة المسلحين بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة من الاشتباك مع جنوده ومستوطنيه، وفي ضوء استهداف العدو لغزة بالصواريخ الأرضية وصواريخ الطائرات والسفن، ونظراً لضعف الإمكانات الفنية في القوة الصاروخية لدى المقاومين- فلا يؤخذ على المقاومين توخي دقة إصابة صواريخهم لأهدافها.
ويرى الباحث أن مبدأ التناسب يتحقق في استخدام المقاومة الفلسطينية القوةَ الصاروخيةَ غيرَ الموجهة، للدفاع عن النفس واستهداف المستوطنين الغاصبين، إذا أحصينا عدد ضحايا الحصار الصهيوني الظالم المفروض على غزة، قياساً بعدد ضحايا الصواريخ القسّامية من مستوطني العدو. في حين أن العكس غير صحيح، ففرض الحصار والتجويع على غزة هو عقوبة جماعية لا تتناسب وفوز فصيل مقاوم في انتخابات حرة ونزيهة باعتراف المجتمع الدولي، أو أسر جندي صهيوني نظامي. والأهم من ذلك هو أنه لا يجوز لقوات الاحتلال الردُّ بالمثل، تطبيقاً للقاعدة القانونية والفقهية المستقرة التي تقرر أنه: "لا دفاع شرعيّ ضدّ دفاع شرعيّ"، فحق الرد غير مكفول قانوناً لقوات العدو.
المقاومة المسلحة
لعل أحد أهم القرارات الدولية المفسّرة لحق الشعوب في تقرير مصيرها هو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذو الرقم (1514) بتاريخ 14 من كانون الأول/ ديسمبر 1960، والقاضي بأن إخضاع الشعوب للاستعباد الأجنبي واستغلالها يشكل إنكاراً لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، وأن لجميع الشعوب الحقَّ في تقرير مصيرها ووضعَ حد لكل الأعمال المسلحة والتدابير القمعية المتّخذة ضدها، ويجب أن يُصار فوراً إلى اتخاذ التدابير اللازمة، في الأقاليم المشمولة بالوصاية، والتي لم تنل استقلالها بعد، لنقل جميع السلطات إلى شعوب تلك الأقاليم، دون قيد أو شرط، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي (بجك: 2006، ص 521). وعندما اعتمدت الجمعية العامة العهدين الدوليين لحقوق الإنسان في 16من كانون الأول/ ديسمبر 1966 حرصت على أن تضمّن المادة الأولى في كلا العهدين نصّاً حول حق الشعوب في تقرير مصيرها.
واعتمدت الجمعية العامة، بقرارها رقم XXV)) (2621) بتاريخ 12من تشرين الأول/ أكتوبر 1970، برنامج العمل من أجل التنفيذ التام لإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة. وورد في القرار أن للشعوب المستعمرة الحق في الكفاح، بجميع الوسائل الضرورية التي في متناولها، ضد الدول الاستعمارية (Gowlland-Debbas: 1990, pg. 228).
ووفقاً لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومنها القرارات: 2105 (XX); 2465 (XXIII); 2674 (XXV); 2708 (XXV); 2734 (XXV); 2797 (XXVI); 2878 (XXVI); 2908 (XXVII); 3070 (XXVIII); 3103 (XXVIII); 3163 (XXVIII); 3328 (XXIX); 3379 (XXX);، ففصائل المقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة تعدّ حركات تحرر وطني. وقد أكدت هذه القرارات على شرعية نضال الشعوب المستعمَرة، وحقها في استخدام كل الوسائل العسكرية الممكنة لاستعادة القدرة على تقرير المصير والسيادة، كما أكدت على حقها في تلقي جميع أنواع المساعدة الدولية، وخصّت بالذكر شعبي فلسطين وجنوب أفريقيا. ودعت تلك القرارات جميع الحكومات إلى عدم إنكار حق الشعوب الواقعة تحت نير السيطرة الاستعمارية في الكفاح المسلح، وأدانت الدولَ التي تنكر حق أي شعب في تقرير مصيره، كما أدانت سياسة ضم الأقاليم المحتلة بالقوة، والاحتفاظ بها، ومحاولة تغيير مركزها القانوني؛ واعتبرت أياً من هذه الأعمال العدوانية انتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة، ولمبادئ القانون الدولي.
وانطلاقاً من أن حق الشعوب في تقرير مصيرها يشكل قاعدة آمرة في القانون الدولي، وأن الاستعمار جُرْم دوليّ، إضافة إلى أنه انتهاك لحقوق الإنسان، فقد أجيز للشعوب المستعمَرة ممارسة الدفاع عن حقها في تقرير المصير وانتزاع الاستقلال بمختلف الوسائل المنصوص عليها في الميثاق، ومنها استخدام القوة، وذلك بموجب المادة رقم (51) من الميثاق التي أشارت إلى حق الدفاع الشرعي، وهو حق طبيعي لا يملك القانون الدولي حياله سوى تنظيمه فقط، وليس له الحق في منعه أو الحد منه؛ ومن ثَمَّ فمنع وصول الأسلحة أو تعطيل وصولها إلى حركات التحرر الوطني، كحركة حماس وحركات المقاومة الغزّية الأخرى، جريمة تنتهك مبادىء القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهي أيضاً تواطؤ مع الاحتلال واشتراك في جرائمه.
وتأكيداً على ممارسة الشعوب لحقها في تقرير المصير بمختلف الوسائل المتاحة، ومنها الكفاح المسلح، فقد اعتمدت الجمعية العامة مجموعة قرارات بمنح حركات التحرر الوطني صفة المراقب في الأمم المتحدة، كون هذه الحركات تمثل الشعوب المناضلة في سبيل الاستقلال. والنموذجان الشاخصان لذلك هما: "المؤتمر الوطني لجنوبي أفريقيا" ممثِّلا لشعب جنوب أفريقيا سابقاً، و"منظمة التحرير الفلسطينية" ممثلة لشعب فلسطين (بجك: 2006، ص 522). وينطوي قرار منح حركات التحرر الوطني صفةَ مراقب في الأمم المتحدة على أبعاد قانونية مهمة تتعلق بالاعتراف بتمثيل حركات المقاومة لشعوبها في نضالها حتى التحرير، حيث يُعدّ أفرادها مقاتلين شرعيين يتمتعون بحقوق الجنود النظاميين (المصدر السابق).
ويعرّف الباحث المقاومة بأنها: "نزاع عسكري مسلح، تخوضه تنظيمات وأفراد متطوعون وطنيون ضد قوات الاحتلال الأجنبي ومرتزقته وعملائه، لتحرير الوطن، بإيقاع أكبر الخسائر الممكنة بقوات الاحتلال وأعوانه ودفعهم إلى الاندحار. وتخضع أعمال المقاومة العسكرية لمبادئ القانون الدولي الإنساني، ويتمتع المقاومون بالحماية التي نصت عليها ذات المبادئ".
وكثيراً ما يّستخدم تعبير "مقاتل غير نظامي" ليصف فدائياً ينتمي إلى مجموعة شبه عسكرية، أو مليشيا، أو فرق تطوعية، أو حركة مقاومة منظمة، أو قوة متمردة. وكثيراً ما يكون غير النظاميين مقاتلين متماهين بالشعب، لا يرتدون زياً موحداً، ولا يحملون أسحلتهم علناً عندما ينفذون هجماتهم. ويشيع استعمال تعبير "الأنصار" لوصف غير النظاميين الذين يقاومون جيشاً أجنبياً يحتل أوطانهم. ومن الفقهاء من يطلق على المقاومين الأكثر تنظيماً مصطلح: "القوات شبه العسكرية". ويُكفل للأنصار وللقوات شبه العسكرية، إذا قاتلوا في نزاع دولي وأُسِروا، ما يُكفل للعسكريين الشرعيين من الحماية التي نصّت عليها اتفاقيات جنيف الأربع.
ولما كان القانون الدولي قد قنّن للمقاومة شرعيةَ القتال ضد قوات الاحتلال، فإن المقاوم يتمتع بذات الحقوق التي يتمتع بها العسكري في الجيوش النظامية الدولية، وهذا ما نصت عليه المادة الأولى –القسم الأول /الفصل الأول - من اللائحة المتعلقة بقوانين الحرب البرية وأعرافها، في لاهاي عام 1907، ومنها اعتبار المقاوم أسير حرب إذا وقع في قبضة المحتل. وقد نصت المادة الرابعة في اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بأسرى الحرب على أن المقاومين يتمتعون بنفس الحماية التي يتمتع بها الأسرى العسكريون المقاتلون.
وتعني هذه الحماية أن تقدم لهم الرعاية الطبية اللازمة، وأن يُحظر تعذيبهم، وأن يجري تزويدهم بالطعام، وأن يسمح لهم بالاتصال الخارجي عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي. ومثلهم مثل أي قوة نظامية، فلا يمكن محاكمتهم لمجرد اشتراكهم في القتال بصفتهم مقاتلين محترفين، ولكن يمكن أن يعتقلوا بوصفهم أسرى حرب إلى أن يتوقف النزاع؛ وأن يُعادوا إلى أوطانهم دون إبطاء فور انتهاء العمليات العسكرية العدائية الفعلية.
وحتى يُعَدّ المقاومون غيرُ النظاميين مقاتلين شرعيين، مؤهلين لوضع أسرى حرب، فعليهم الالتزام بمعايير معينة، تشمل: أن يحتل العدو أرض المقاوم، وأن تجري أعمال المقاومة ضمن الإقليم المحتل، وأن يحمل المقاوم سلاحه علناً في أثناء الاشتباكات أو الانتشار، وأن يكون تحت إمرة شخص مسؤول وفق الظروف المتاحة، وأن يلتزم بالقواعد الدولية المتعلقة بالنزاع المسلح، وألا ينتهك القانون الدولي الإنساني (الفتلاوي: 2009، ص 138 - 139).
ويرى الباحث أن الشروط السابقة مجتمعة، باستثناء الشرط الأخير، تخضع لظروف القتال، وللجاهزية القتالية، ولنوعية الأسلحة المتاحة للمقاومين، وتطبيق مبدأ التناسب، ومدى تقيّد المحتل بالقانون الدولي الإنساني. فاستخدام العدوّ غير المتكافئ للطيران الحربي والقصف الجوي، إذا استهدف بهما دولاً أو أقاليمَ لا يتوفر فيها دفاعات جوية عالية الأداء، فيعدّ عمله هذا إخلالاً بمبدأ التناسب وغدراً؛ لأن قوات العدو تقاتل دون مخاطرة ودون أن تُشاهَد، وهو إخلال خطير بمبادئ الحرب والفروسية؛ الأمر الذي يحتم على المقاومين ابتكار أساليب عسكرية جديدة في مواجهة العدو، ومنها العمليات الاستشهادية التي تستهدف أرتاله العسكرية، وغيرها من الكمائن وأساليب التماهي. وقد نصّت المــادة (24) من اتفاقية لاهاي، الخاصة باحترام قوانين الحرب البرية وأعرافها، على الآتي: "يجوز اللجوء إلى خدع الحرب والوسائل اللازمة لجمع المعلومات عن العدوّ وعن الميدان". وأيضاً، فالمادة (37/2) من البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف الأربع نصّت على أنّ: "خدع الحرب ليست محظورة. ويُعدّ من خدع الحرب الأفعال التي لا تُحْسَبُ من أفعال الغدر، لأنها لا تستثير ثقة الخصم في الحماية التي يقرها القانون الدولي، والتي تهدف إلى تضليل الخصم أو استدراجه إلى المخاطرة، ولكنها لا تُخِلّ بأي قاعدة من قواعد ذلك القانون الذي يطبق في النزاع المسلح.
وتعدّ الأفعال التالية أمثلة على خدع الحرب، وهي: استخدامُ أساليب التمويه، والإيهامُ، وعملياتُ التضليل، وترويجُ المعلومات الخاطئة". كما أن مخالفة المحتل لقواعد القانون الدولي الإنساني هو بمثابة تحريض للمقاومين على الردّ بالمثل، خاصة أنهم في موقف الدفاع الشرعي، وأنهم أقلّ عدداً وعتاداً، ومن طبيعة الحروب أن الأفراد والتنظيمات الشعبية أقلّ انضباطاً من الجيوش النظامية، وإن كنا في فلسطين المحتلة نرصد العكس تماماً.
وعلى الرغم من كل القواعد الآمرة، فالعدوّ الصهيوني لا يعترف بالمقاومة الفلسطينية وبقوات حماس شبه العسكرية بوصفهم عسكريين نظاميين، حتى لا يُمنحوا حقوق أسرى الحرب. بل يعدّهم العدو مدنيين مجرمين يعيشون في "كيان معادٍ"، وبذلك يسوغ لنفسه ملاحقتهم واعتقالهم ومحاكمتهم وتجريم أفعالهم وسجنهم بصفتهم مجرمين أمنيين؛ ومع ذلك، فقواته العسكرية تستهدف الفلسطينيين كأنها تخوض حرباً نظامية (غتمان وريف وكتاب: 2003، ص 70).
ووفقاً للقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني، فإن أيّ اتفاقيات تمنع إمداد المقاومين بالسلاح تقع باطلة، ومن ذلك الاتفاقية الأمريكية الإسرائيلية لمنع تهريب السلاح إلى غزة. ويمكن تحديد أهم أسباب بطلانها بالآتي، أولاً: انتهاكها القانون الدولي بمنع شعب يرزح تحت نير الاحتلال من المقاومة والدفاع الشرعي؛ ثمّ حرمانها الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وتحقيق سيادته على أرضه، خلافاً للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وبشكل خاص المادتين (51) و(55)؛ كما أن المخالفتين السابقتين تعنيان أن الاتفاقية خالفت قانون المعاهدات الدولية لعام 1969، خاصة المادة (53)، فهما تعارضتا مع قواعد آمرة في القانون الدولي (أبو الخير: 2009b ، ص 21 - 22)؛ وكذلك، فالاتفاقية تخالف ميثاق حلف شمال الأطلسي "The North Atlantic Treaty"، خاصة ما ورد في المادة (سابعاً/3/أ) التي حددت نطاق الحماية العسكرية للحلف بأوروبا بشكل عام وأوروبا الغربية بشكل خاص، إضافة إلى أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا)، ومن ثَمّ ففلسطين ليست ضمن هذا النطاق.
إغلاق المعابر البرية والمجال الجوي
وفقاً للوائح لاهاي وللقانون الدولي العرفي والمكتوب، فالاحتلال الحربي يمثل عملاً مادياً مؤقتاً، لا حالةً قانونيةً دائمة؛ فهو من ثَمّ لا يرتب أية آثار قانونية؛ إذ هو نتاج استخدام غير مشروع للقوة في تسوية النزاعات الدولية، أو هو كسب مغانم غير مشروعة. فالاحتلال الحربي لا ينقل السيادة إلى الدولة المحتلة، بل تبقى السيادة للأمة الرازحة تحت الاحتلال (محكمة العدل الدولية – إجراءات إفتاء: 2004، ص 118).
أما السلطة الفعلية التي تمارسها دولة الاحتلال فهي ليست تطبيقاً لنظرية الحلول، وإنما يحكم تلك العلاقةَ قانونُ الاحتلال الحربي؛ فالاحتلال الحربي يوقف الدولة المحتلة (المغلوبة) عن ممارسة سلطاتها السيادية مؤقتاً، ولا يلغيها، ولا حق للقوة الغالبة في تغيير المركز القانوني للأقاليم المحتلة، ومن النصوص الحاضرة في هذا الشأن ما جاء في المادة (47) من اتفاقية جنيف الرابعة: "لا يُحرم الأشخاص المحميون الذين يقيمون في أي إقليم محتل، بأي حال ولا بأي كيفية، من الانتفاع بهذه الاتفاقية، سواء بسبب تغييرٍ يطرأ نتيجة لاحتلال الأراضي على مؤسسات الإقليم المذكور أو حكومته، أم بسبب اتفاقٍ يعقد بين سلطات الإقليم المحتل ودولة الاحتلال، أم بسبب قيام هذه الدولة بضم كل الأراضي المحتلة أو ضمّ بعضها".
كما أن هذه الاتفاقيات والتفاهمات تمت بقوة السلاح والتهديد باستخدامه، وقد نصت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية لعام 1969، في المادة (52) منها، على بطلان معاهدات الصلح التي تؤدي إلى تنازلات إقليمية، والتي تبرم نتيجة استعمال القوة في العلاقات الدولية أو التهديد باستعمالها، فجاء فيها: "تعدّ المعاهدة باطلة بطلاناً مطلقاً إذا تم إبرامها نتيجة التهديد باستعمال القوة، واستخدامها بالمخالفة لمبادئ القانون الدولي الواردة في ميثاق الأمم المتحدة". فاتفاقيات المعابر بذلك تدخل في دائرة البطلان المطلق المنصوص عليه في هذه المادة، لأنها أُبرمت تحت التهديد باستخدام القوة، مخالفة بذلك المبادئ العامة في القانون الدولي وأحكام ميثاق الأمم المتحدة، وهي قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.
وهذا ما نصت عليه المادة (53) من قانون المعاهدات، التي جاء فيها: "تكون المعاهدة باطلة إذا كانت وقت عقدها تتعارض مع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي. ولأغراض هذه الاتفاقية، فيقصد بالقاعدة الآمرة من القواعد العامة للقانون الدولي: القاعدة المقبولة والمعترف بها، من قبل المجتمع الدولي ككل، على أنها القاعـدة التي لا يجوز الإخلال بها، والتي لا يمكن تعديلها، إلا بقاعدة لاحقة من القواعد العامة للقانون الدولي ولها ذات الطابع". وقد تناولت المادة (64) ظهور قاعدة آمرة جديدة من القواعد العامة للقانون الدولي (النظام العام الدولي)، فنصت على أنه: "إذا ظهرت قاعدة آمرة جديدة من القواعد العامة للقانون الدولي فإن أي معاهدة نافذة تتعارض معها تصبح باطلة وتنقضي".
كما حددت المادة (71) من ذات القانون آثار بطلان المعاهدات، التي تتعارض مع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي، فعددتها على النحو الآتي:
1. في حالة المعاهدة التي تعدّ باطلة، بموجب المادة (53)، فعلى الأطراف:
أ. أن تزيل بقدر الإمكان آثار أي تصرف تم الاستناد فيه إلى أي نص يتعارض مـع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي؛
ب. أن تجعل علاقاتها المتبادلة متفقة مع القاعدة الآمرة من القواعد العامة للقانون الدولي.
2. في حالة المعاهدة التي تصبح باطلة ومنقضية، وفقاً للمادة 64، فيترتب على انقضاء المعاهدة:
أ. تحل