ارشيف من :آراء وتحليلات

في ظل تشابك الحسابات وتباين المصالح: لبنان ولعبة الانتظار الصعب

في ظل تشابك الحسابات وتباين المصالح: لبنان ولعبة الانتظار الصعب
مصطفى الحاج علي
تمتاز المرحلة التي يمر بها لبنان بحالٍ من عدم الوضوح واليقين، وبحالة من الدقة والهشاشة، والأمور تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل استمرار التجاذب والاشتباك حول المحكمة الدولية والقرار الفتنة، أي القرار الاتهامي، وفي ظل تناقض المعطيات والوقائع التي تجذب الوضع الداخلي باتجاهات متباينة، وتضع الأطراف جميعاً ـ مع الوقت ـ أمام محك حسم الخيارات والاختيارات، الأمر الذي سيضع لبنان في مهب مرحلة جديدة مختلفة كل الاختلاف عن المراحل السابقة.
من نافل القول، ان الإدارة الاميركية الحالية وضعت مقاربة جديدة للأوضاع في المنطقة تستند الى الترابط والشمولية بين الملفات والقضايا، ما يعني بدوره عدم التفكيك ـ مثلاً ـ بين ملف التسوية والملف العراقي والأفغاني والملف اللبناني.
هذه المقاربة من شأنها أن تحول الملف اللبناني الى مادة في بازار المواجهات أو التسويات المعروفة في المنطقة، ومن نافل القول أيضاً، إن الإدارة الاميركية الحالية ورثت كل أخطاء وفشل وأزمات الإدارة السابقة، ما جعلها محكومة باستراتيجية واحدة قوامها التالي:
أ ـ احتواء الخسائر حيث أمكن.
ب ـ تسنيد الأوضاع حيث أمكن.
ج ـ السعي قدر الإمكان الى عدم ترك فراغات أساسية تسارع القوى المناوئة لها الى ملئها، وهذا يتطلب بدوره إما الانخراط في تسويات مع أطراف هذه القوى، وإما اشغالها بضغوط متنوعة لإرباكها وللتقليل من مدى التنازلات التي قد تضطر الى دفعها، وفي النهاية لشراء الوقت الضروري من أجل النهوض من الكبوة واستئناف سياسة هجومية شاملة.
ومن نافل القول أيضاً، أن ما يهم واشنطن بالدرجة الأولى، هو توفير سبل خروج لائق من العراق يترافق مع ضمان لوضع حكومي لا يمس مصالحها على الأقل في المدى المتوسط، الأمر عينه ينطبق على ما تعانيه واشنطن في افغانستان وصولاً الى الأخطار المحدقة بأفغانستان، بكلمة أخرى، يبدو الوضع الجيوبوليتيكي والبيئة الاستراتيجية الخاصة بالمصالح الاميركية في أكثر من دولة رئيسية تعاني من أخطار وتهديدات جدية، وهي مضطرة الى التعاون ومد اليد الى الدول الاقليمية المؤثرة فيها في سياق استراتيجية احتواء الخسائر، وتقليص مساحات الفراغ، وهنا، تظهر ايران وسوريا كدولتين مؤثرتين لا يمكن القفز عنهما خصوصاً في ما يتصل بملف العراق، وملف التسوية، والملف اللبناني. واذا عطفنا على ما تقدم تعثر التسوية، وعجز ادارة أوباما عن تحقيق أي انجاز مهما بدا طفيفاً، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات سلبية على منظومة عرب التسوية في المنطقة، لا سيما في ظل اندفاعة المشروع الصهيوني لتحقيق المزيد من الحقائق على الأرض على حساب تدمير القضية الفلسطينية، وتهديد الأراضي، وفرض الكيان الاسرائيلي كدولة يهودية عنصرية.
في السياق عينه، لا يبدو حلفاء اميركا من العرب في وضع مريح: فلا التسوية تسير كما يشتهون، والدول الأساسية كمصر والسعودية تعانيان داخلياً: الأولى تمر في مرحلة انتقالية صعبة تحت عنوان التوريث، والثانية، تتصارع فيها اتجاهات عنوانها غير المعلن كرسي العرش.
يضاف الى ما تقدم، ان الرياض وجدت نفسها مؤخراً خاسراً كبيراً في الملف العراقي بعد أن تم التوافق من دونها على اعادة تكليف المالكي مهمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وهي التي بذلت كل ما تستطيع لمنع ذلك. ولا شك، ان القيمة الاستراتيجية للعراق أهم بكثير من القيمة الاستراتيجية للبنان في الحسابات السورية.
هذه الوقائع تشير الى أن من مصلحة الولايات المتحدة والرياض الربط بين الملفات، لأن من شأن ذلك ان يسمح لها بهامش حركة واسع، وقدرة على المناورة، والأخذ والرد أكثر، ولهذه الاعتبارات ثمة من يرى أن الأمور ما تزال تحمل امكانية انتاج تسويات ما، لكن مع الأخذ بالاعتبار ما يلي:
أولاً: لقد تمكنت المعارضة في لبنان حتى هذه اللحظة من احتواء الكثير من مفاعيل المحكمة والقرار الظني حتى قبل صدوره، ما يضعف من شأن هذه الورقة، ولا يجهز عليها نهائياً، وبالتالي من شأنه ان يقلل من أثمانها المترفة حتى الحد الأدنى، لا سيما أنه ما تزال في أيدي المعارضة العديد من الأوراق الكبيرة والمؤثرة التي لم تلعبها حتى الآن بانتظار ما ستؤول اليه التحركات المتنوعة، والاتصالات والحوارات في أكثر من مكان.
ثانياً: لقد نجحت زيارة الرئيس الايراني احمدي نجاد الى لبنان بكل ثقلها الرمزي والرسائلي والمضموني، في تظهير حقيقة توازنات القوة التي تحكم لبنان والمنطقة، وهي تميل نسبياً الى المعارضة وايران وسوريا.
ثالثاً: كما لدى ايران وسوريا والمعارضة في لبنان أوراق قوة مؤثرة في يدها، لا شك، أن لدى واشنطن أوراقا منها ورقة الضغوط الاقتصادية والمالية والديبلوماسية، ومنها أيضاً ورقة المحكمة، وهنا قد نجد أنفسنا أمام توازن دقيق وصعب في تبادل الضغوط.
رابعاً: إن أمام أوباما محطة انتقالية صعبة هي انتخابات الكونغرس في تشرين الثاني، والتي من شأن نتائجها إما ان تلقي عليه المزيد من القيود، وإما ان يتحرر نسبياً منها، وفي كلتا الحالتين لن تجد ادارة اميركية اكثر فاعلية مما هي عليه اليوم.
خامساً: لا شك، ان الحاضر الأكبر في الحسابات الاميركية المتعلقة بلبنان هي تلك التي تمس المصلحة الاسرائيلية المباشرة، وتحديداً موضوع المقاومة وسلاحها، والمحكمة ان وجدت فلهذا الاعتبار.
كل ما تقدم، يؤكد أننا أمام حسابات متشابكة ومعقدة، والمحكمة ليست الا ورقة من ضمن مجموعة أوراق، إلا أن مشكلة القيمين على هذه الورقة هي في الاختلاف حول طريقة توظيفها: الاسرائيلي يريدها سيفاً مصلتاً فوق رقبة المقاومة من ضمن معركته الاستراتيجية معها، الرياض تريدها ورقة في محاولاتها لتحقيق شيء من التوازن لموقعها ودورها الاقليمي ومن المدخل العراقي تحديداً، واشنطن تريد ان تجمع بين الأمرين، أما فريق الرياض وواشنطن اللبناني فيريد من المحكمة ان تشكل المدخل لتسنيد وضعه، واعادة التوازن اليه، وضمان امساكه بلعبة السلطة.
هل التوقيت بين هذه المصالح أمر ممكن؟ قد يكون ذلك متاحاً، إلا أنه صعب، ولهذا فالأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، ولذا يشوبها عدم الوضوح والحسم، حيث تبقى لعبة الانتظار المحكومة بالقلق والهواجس والتوتر سيد الموقف خلال الأسابيع القادمة، وربما الأشهر القادمة.
2010-10-23