ارشيف من :آراء وتحليلات
ويكيليكس 2"... ألعوبة أميركية مفضوحة!
ما لم تتمكن إدارة جورج بوش من تحقيقه بالقذائف، سعت إدارة باراك أوباما إلى تحقيقه عن طريق المزيد من القذائف (رفع عديد القوات الأميركية في أفغانستان) ثم، بعد فشل القذائف، عن طريق تسريب الوثائق.
فمن أجل كسب الحرب الأفغانية بدماء الباكستانيين، دأب الأميركيون وحلفاؤهم في الأطلسي على ممارسة الضغوط على باكستان عبر التلميح والتصريح بأن أجهزة عسكرية واستخباراتية باكستانية تتعاون بشكل نشط مع طالبان، على أمل أن تسعى السلطات الباكستانية إلى تبرئة نفسها وتبييض صفحتها من خلال
وضع السيف في رقاب الشعبين الباكستاني والأفغاني.
وفي هذا السياق صدرت وثائق "ويكيليكس 1" بشأن الحرب الأفغانية. ولم ينطل على أحد "تظاهر" الإدارة لأميركية بالاستياء بدعوى أن هذه الوثائق تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي وتعرض للخطر حياة الجنود الأميركيين والمتعاونين المحليين معهم.
فالمنطق والحس السليم وما لا يحصى من معطيات في مقدمتها العلاقة التاريخية الوثيقة بين مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج، والضبابية المحيطة بهذا الشخص، كل ذلك يشي بأنه ليس أكثر من أداة في تسريب تلك الوثائق التي لم تكن غير ديباجة طويلة لعبارة واحدة هي أمر أميركي موجه إلى الحكومة
الباكستانية مفاده: عليكم أن تفتحوا حرباً شاملة على طالبان وعلى أنفسكم، وإلا حجبنا عنكم القروض والمساعدات واستخدمنا وسائلنا من أجل إسقاط حكمكم...
ومع صدور وثائق "ويكيليكس 2" (400 ألف وثيقة يحتاج جمعها وتبويبها إلى جيوش من العاملين المتخصصين، وإلى تكاليف مالية هائلة لا تقدر على مثلها إلا مؤسسات ضخمة)، تظاهرت إدارة أوباما بالاستياء نفسه وللاعتبارات نفسها.
واختلاف الوضع العراقي عن الوضع الباكستاني فرض ديباجة مختلفة، وإن كان المقصود النهائي هو هو، إن لجهة تحريض العراقيين على بعضهم البعض، وإن لجهة التحريض على إيران بدعوى أنها تتدخل في الشأن العراقي لمصلحة طرف دون طرف آخر، أو لجهة التحريض على الجيش العراقي الذي تتهمه
الوثائق بممارسة أعمال تعذيب تستر عليها الجيش الأميركي، أو لجهة عرقلة حالة الانفراج المفتوحة على احتمال قيام المالكي بتشكيل الحكومة الجديدة. ولتسهيل إمرار الوثائق المذكورة، وربما لأن المقتول لا يضيره أن يقول "أقتلوني ومالكاً"، كان الحرص بارزاً على البدء بتجريم الأميركيين.
"تضحية" تتحملها الإدارة الأميركية لأسباب منها افتقارها للقدرة على التنصل من تاريخ الولايات المتحدة المجبول بالجريمة منذ إبادة عشرات الملايين من الهنود الحمر، واستعباد السود الأفارقة، وهيروشيما وفييتنام، ومئات التدخلات العسكرية العدوانية والاغتيالات في طول العالم وعرضه.
ومنها علمها بأن الكشف عن الممارسات الإجرامية الأميركية في العراق لا يفضي إلى أكثر من تداعيات إعلامية، وبأن التحريض، من الباب المذهبي، على هذا الفريق العراقي أو ذاك، أو على إيران، من شأنه أن يدفع بالأمور نحو مسارات فتنوية هي الوحيدة القادرة على منح الأميركيين فرصة لتدارك هزيمتهم في العراق والعودة، من ثم، إلى حلم الشرق الأوسط الجديد والإمبراطورية الأميركية العالمية.
لكن تجريم الأميركيين ـ وهنا أول بروز لأصابع الإدارة الأميركية ـ لا يظهر في وثائق "ويكيليكس 2" إلا بشكل مخفف جداً: الاعتراف بمقتل ما يزيد قليلاً عن 100 ألف عراقي جراء الغزو الأميركي علماً بأن الحصار الذي فرض على العراق منذ الحرب الأولى عام 1991، كلف العراقيين ما لا يقل عن مليون حالة وفاة بسبب النقص في الأدوية، دون الحديث عن ضحايا نقص الغذاء والأسلحة المحرمة التي استخدمت في إبادة فرق عسكرية عراقية كاملة.
ثم تبرز أصابع الإدارة الأميركية في محاولة إضفاء المشروعية على الغزو من خلال التركيز على التجاوزات " غير القانونية" المرتكبة، بعلم القيادة أو بغير علمها، من قبل جنود أميركيين، بحق مدنيين أو سجناء عراقيين، أو على انتهاكات حقوق الإنسان من قبل الجيش الأميركي. أو حتى على بعض الحوادث
الفردية المتفرقة.
كما ولو أن اجتياح العراق للأسباب المعروفة من قبل مئات الألوف من الجنود الأميركيين والقوات الحليفة أمر في منتهى القانونية برغم امتناع الأمم المتحدة عن منح الغزو مظلة قانونية، كما هو الشأن في أفغانستان. أو كما ولو أن الاحترام الشكلي لما يسمى بحقوق الإنسان كافٍ لطمس الجريمة المرتكبة بحق
شعب بأكمله تحتل بلاده وتصادر مقدراته بالشكل المعروف في العراق.
تسريبات "ويكيليكس 1" و "ويكيليكس 2" وما سيعقبها من تسريبات، هي من سنخ التلاعبات الأميركية الهادفة، منذ افتعال هجمات 11/9، إلى تغيير مجرى التاريخ بطرق ملتوية تدلل، في أول ما تدلل عليه، على أن المتلاعبين ومفتعلي الأحداث، قد نضب معينهم ولم يبق لديهم من أسلحة غير الأضاليل والأباطيل
التي لا تغني من الحق شيئاً.
وإذا كانت الأباطيل والأضاليل قد نجحت في إرباك العالم ردحاً من الدهر، فإن ذلك لا يبطل، في النهاية، المقولة الخالدة التي تقول: لا يصح إلا الصحيح.