ارشيف من :آراء وتحليلات

سياسات التقشف: بريطانيا تلتحق بمسيرة أوروبا نحو الباب المسدود

سياسات التقشف: بريطانيا تلتحق بمسيرة أوروبا نحو الباب المسدود
عقيل الشيخ حسين

الغرب الذي لا يرى الخشبة في عينه ويرى القشة في عين غيره، ابتهج أيما ابتهاج وتصور أن انهيار النظام السوفياتي يعني أن النظام الرأسمالي هو الأصلح لتنظيم حياة البشر وأنه، بالتالي، عصي على الانهيار.


لكن أحدهم قال يومها أن النظام السوفياتي سقط دون أن تهرق نقطة دم واحدة. أما النظام الرأسمالي فإنه يتجه نحو وضع سيضطر فيه الناس ـ لشدة الجوع ـ إلى اقتطاع اللحم عن أجسام بعضهم البعض بالسواطير!

وقبل يومين، ذكرت الصحف البريطانية السواطير تحديداً في معرض كلامها عن خطة التقشف (والتقشف هو جوع إلى هذا الحد أو ذاك) غير المسبوقة التي اعتمدتها الحكومة البريطانية، في محاولة لسد العجز القياسي في ميزانية الدولة، بهدف توفير مبلغ 83 مليار جنيه استرليني (حوالي 140 مليار دولار) خلال السنوات الأربع القادمة. وعلى أمل أن يؤدي هذا الوفر إلى تقليص العجز من حدود 10 بالمائة إلى حدود الواحد بالمائة.

السواطير المذكورة هي بالطبع سواطير رمزية، لكن أحداً لا يمكنه الزعم بأنها أقل، حتى الآن، من ضربات متفاوتة العنف تم توجيهها بنسب متفاوتة إلى مختلف مؤسسات الدولة، وبالتالي إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، بما فيها التاج البريطاني نفسه.

اقتطاعات مهمة من ميزانيات جميع الوزارات مع ميل لمراعاة القطاع الصحي، ربما لأن ذلك يسمح بصيد عصفورين بحجر واحد : الظهور بالمظهر الإنساني الذي يوفره الطابع الخاص للناحية الصحية، والفوز بالحظوة عند شركات الأدوية.

ولأسباب أخرى منها الانصياع لرغبة الأميركيين الذين حذروا من تقليص الانفاق العسكري، اقتصر خفض الإنفاق في هذا المجال، على شطب 8 بالمائة من موازنة الدفاع، لتشمل التخلي عن حاملة الطائرات الوحيدة العاملة في الجيش البريطاني، وإقرار تخفيضات في عدد الرؤوس النووية، وإلغاء عقود لشراء طائرات تجسس، وتسريح نحو 17 ألف جندي. وكان لذلك أثره السلبي على معنويات أولئك الذين ما زال يراودهم، وإن على استحياء، حلم الأمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.

أجهزة الشرطة على اختلافها نالت قسطها من عصر النفقات، لكن ما يصور على أنه قضية العالم الكبرى ـ التي نذر الغرب نفسه لخدمتها ـ كانت وراء عدم اشتمال عصر النفقات على أجهزة الشرطة العاملة في مكافحة الإرهاب.

وبالمناسبة، قفزت كلمة "الاحتقار" إلى واجهة بورصة المصطلحات التي انتجتها تظاهرات الاحتجاج المتصاعدة في فرنسا على خطط التقشف الحكومية. والمقصود هو ما يبديه الرئيس ساركوزي من احتقار لثمانين بالمئة من الفرنسيين عبر إصراره على تمرير سياسته التقشفية، وعدم تردده، بين تجاوزات كثيرة أخرى، عن استخدام القمع البوليسي، في سبيل ذلك.

وأياً يكن الأمر، فإن سياسات الإنفاق الشعبوية الهادفة إلى تملق المواطنين وإلى إيهام الشعوب التي أفقرها الاستعمار والتواطؤ المحلي، بأن الغرب هو الفردوس الأرضي، وأن فكره وأنظمته وأنماط عيشه هي ألأفضل والأجمل والأرقى، قد انكشفت وتلوح في الأفق كوارث اقتصادية واجتماعية، بدا لقادة الغرب أن شن الحروب هو الوسيلة الفضلى لتلافيها.

صحيح أن الصناعات الحربية وبعض المرافق الأخرى قد حصدت أرباحاً كبيرة من تلك الحروب، لكن فشل تلك الحروب وعجزها عن بلوغ غاياتها في وضع اليد على مقدرات الشعوب، إضافت إلى تكلفتها المالية الباهظة تكلفة الإنفاق المالي الشعبوي والفساد المالي الذي نخر الأجهزة السياسية والإدارية في الغرب برغم كل مزاعم العقلنة والتنظيم واحترام القوانين.

وهكذا تتجه بعض بلدان الغرب إلى حافة الإفلاس، وجرت وراءها معظم بلدان العالم المهتدية بهديها والسائرة على سننها، ووجدت نفسها مثقلة بديون ثقيلة لا مجال لسدادها إلا عبر سياسات التقشف المرفوضة طبعاً من قبل مواطنين تحولوا إلى مستهلكين، واطمأنوا إلى قدرة ما يسمى بدولة الخدمات على الإغداق عليهم إلى ما لا نهاية.

لكن ذلك الاطمئنان لم يكن غير وهم لا يغني من الواقع شيئاً. تكفي الإشارة إلى أن خطة التقشف البريطانية ستقذف إلى مهاوي البطالة والفقر بما لا يقل عن مليون موظف في القطاعين العام والخاص. وهؤلاء لن تنالهم بالطبع عناية دولة الخدمات. وما يقال عن بريطانيا يقال في هذا المجال عن غيرها من بلدان الغرب.

لا بد من الإشارة إلى أن مصطلح "دولة الخدمات" هو ترجمة عربية غير أمينة لتعبير غربي يقصد به "دولة العناية"، أي العناية التي تكفلت بها الدولة العلمانية كبديل عن العناية الإلهية، في إطار السعي الغربي إلى فصل الدين عن السياسة وطرده إلى السماء وإبعاده، بالتالي، عن الاضطلاع بمهمته في ترشيد حياة البشر.

وكل ذلك يتراكم ويتآزر في دفع بلدان الغرب وحضارة الغرب "الرائدة"، نحو الهاوية. فهل من بديل عالمي يقدمه القائلون بأنهم يمتلكون ناصية التدبير الصحيح لشؤون الحياة البشرية. وهل من وسيلة لفك الارتباط بالغرب وحضارته قبل أن يؤدي الارتباط به إلى السقوط خلفه في مهاوي الهاوية ؟

لا أظن أن أحداً سينبري لتقديم إجابة، مع كون الإجابة في منتهى السهولة! مشكلة هي بالفعل أدهى وأمر من المشكلات التي يتخبط فيها الغرب ويجر إليها الشمال والشرق والجنوب؟

2010-10-26