ارشيف من :آراء وتحليلات

بلا مواربة: لو أنهم تركوه مضاءً بمصباح

بلا مواربة: لو أنهم تركوه مضاءً بمصباح
محمود ريا
أذهلني التقرير الذي شاهدته على إحدى محطات التلفزة الإخبارية العالمية، فالفكرة التي تتضمنه إبداعية إلى حد كبير، بالرغم من أنها فكرة بسيطة ومنسوخة من تراث الآباء والأجداد.
يتحدث التقرير عن موجة توفير تسود في العديد من المدن البريطانية، أساسها إطفاء المصابيح العامة في الشوارع التي لا يتم استخدامها ليلاً، أي تلك الشوارع التي تقود إلى المناطق الصناعية وغيرها من المناطق التي لا تشهد حركة ليلية.
وبالرغم من وجود العديد من الانتقادات التي صدرت من أكثر من جهة، فإن هذا الإجراء آخذ بالانتشار والتوسع حيث تقوم البلديات بإطفاء عدد من المصابيح وترك عدد آخر مما يوفر في استهلاك الطاقة إلى النصف، وأكثر في بعض الأحيان.
بالطبع، الهدف هو التوفير، وطلب التوفير ناجم عن الأزمة الاقتصادية التي تسود في بلدان الغرب، والتي تدفع المسؤولين إلى البحث عن أي وسيلة يمكن من خلالها تقليص الإنفاق وبالتالي تعديل الميزانيات التي يبدو أنه لا أمل باعتدالها في المدى القريب.
ودون التوقف عند ما يحمله هذا الإجراء من ارتكاس عن نشر الضوء في أنحاء المدن، ولا عند الأخطار التي يمكن أن يؤدي إليها على صعيد تفاقم حوادث السير الليلية، فإن مجرد التفكير بوسائل لتوفير الأموال والتخفيف من عجز الميزانيات، حتى لو أدى ذلك إلى أخطار وأضرار، يعتبر أمراً محموداً بحد ذاته وينبغي تقديره ومحاولة تفهّم ظروفه وأسبابه.
ولكن ما أثار ذهولي ليس هذا الإجراء بالذات، ولكن ما أثاره من تداعيات في ذهني، حيث ذكّرني بحادثة شهدتها في إحدى المقابلات التي مرّت عليّ على شاشة تلفزيونية محلية أواخر التسعينات من القرن المنصرم.
كان الضيف في تلك المقابلة الوزير القاضي الآدمي الطيب الراحل سليمان طرابلسي، الذي كان وزيراً للموارد المائية والكهربائية والنفط (كما كانت تسمى وزارة الطاقة حينها) في عهد الرئيس السابق العماد إميل لحود، وفي الحكومة التي ترأسّها الرئيس سليم الحص.
في تلك الحلقة التلفزيونية كان معالي الوزير يتحدث عن محاولة الحكومة، بتوجيهات من رئيس الجمهورية، معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد من خلال الحد من الأنفاق وضغط النفقات وتوفير الأموال للمسائل الضرورية، وذلك بهدف كبح الدين العام المتضخم نتيجة سياسات الحكومات السابقة والتي وضعت لبنان أمام كارثة اقتصادية ما زالت تتفاعل حتى الآن.
وبقدر ما كانت شروحات الوزير الطيّب علمية وهادئة، بقدر ما كانت تضع اليد على الجرح، وتطرح حلولاً للمشكلة الاقتصادية لو استمر بها الزمان لكانت أنقذت البلاد من حال الشلل الاقتصادي التي يعاني منها حالياً
وفي خضم الحلقة "فُتح الهواء" للجمهور كي يقدم المتصلون مداخلات حول القضايا التي طرحها معالي الوزير.
ومن بين الاتصالات التي وردت اتصال من "خواجا"، يبدو من صوته أنه يرتدي بذلة أنيقة، ويضع سيجاراً في طرف فمه. وقدّم "الخواجا" في اتصاله "فكرة توفيرية" للوزير الطرابلسي تقضي بإطفاء مصباح من المصابيح التي تنير طريق ضهر البيدر وإبقاء مصباح، بحيث يتم إطفاء نصف المصابيح التي تنير الطريق وتوفر نصف التكلفة.
طبعاً، كان يمكن التفكير بالاقتراح حينها لولا أن مسحة السخرية كانت بادية في حديث "الخواجا" الذي كان غير مقتنع بوجوب تخفيض النفقات، ويعتبر أن البلد يجب أن يصرف أكثر كي يجلب مستثمرين أكثر وبالتالي أموالاً أكثر لتطوير الاقتصاد، أي أنه باختصار كان يمثّل النمط الاقتصادي النيوليبرالي الذي لا يكترث بمعاناة المواطنين ولا يفكر إلا بتكبير الأرقام الاقتصادية بغض النظر عن تأثيرها الفعلي على الاقتصاد المنتج والحقيقي.
هذا النهج الذي عاد وسيطر على البلد من جديد، بعد تجربة حكومة السنتين الحصّية، قادنا إلى موقع جعلنا فيه نترحّم على أيام طريق ضهر البيدر المضاء ليلاً، ولو "بمصباح إي مصباح لأ"، حيث لا نرى مصابيح منارة على الطريق الآن.
لو أن ذلك "الخواجا" كان مقتنعاً باقتراحه المبدع، لكان بزّ أهل انكلترا بذكائه الاقتصادي، ولكان نجّى هو وفريقه البلد من الأزمة الإقتصادية التي أوقعه فيها.
2010-10-29