عبد الحسين شبيب
تتجه الانظار الى قمة لشبونة للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي المقررة في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وهي مخصصة للبت في موضوع نشر نظام الدفاع الصاروخي المشترك لأوروبا، والذي تعتبر تركيا أحد ابرز النطاقات الجغرافية التي سيتم نشره فيها، بعدما أعرضت الولايات المتحدة عن نشره في بولونيا وتشيكيا بسبب الاعتراضات الروسية الحاسمة عليه وتشخيصه تهديدا مباشرا لها. وقد تم تجاوز الموضوع مع موسكو في عهد ادارة الرئيس باراك اوباما وترجم الأمر بتوقيع البلدين على معاهدة تخفيض الاسلحة الاستراتيجية (ستارت). وقد بات دور تركيا محوريا في نشر النظام ونجاحه، وهي أعطت موافقة مبدئية عليه لكن ضمن شروط وثوابت جديدة هي، وفق ما يقوله وزير الخارجية أحمد داوود اوغلو، على الشكل التالي:
أولاً: ان أنقرة ترفض استعادة اللغة التي كانت سائدة في حقبة الحرب الباردة.
ثانياً: ان الوثيقة الني سيقرها أعضاء الحلف في قمة لشبونة وتعتبر بمثابة فلسفة لنظام الدرع الصاروخي يجب ان لا تشير الى اسم اي دولة تشكل مصدر تهديد، وبالتحديد ايران وسوريا.
ثالثاً: لن تستفيد من الدرع اي دولة ليست عضواً في الحلف، أي "اسرائيل".
وعليه تتكثف الاتصالات حاليا على الجانبين التركي والأميركي حتى لا تشهد القمة صداما جديدا بين البلدين بعد الأزمة التي تصاعدت على خلفية موقف واشنطن من موضوع الابادة الارمنية وموقفها من المجزرة الاسرائيلية في اسطول الحرية المتضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة، ثم تصويت تركيا ضد القرار الأخير في مجلس الأمن الدولي، والذي فرض عقوبات جديدة على ايران بذريعة برنامجها النووي. وبمعزل عما ستؤول اليه القمة، فان تركيا تبدو منسجمة مع نفسها في الشروط التي وضعتها لتسهيل عملية نشر الدرع الصاروخي على أراضيها، ذلك انها تقوم بعملية تحول في سياساتها الخارجية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الاسلامي السلطة عام 2002، وهي عبرت في الفترة الماضية بقوة عن هذا التحول، الى ان ترجمته بوثيقة ثبّتها مجلس الأمن القومي التركي (الذي يجمع القيادتين السياسية والعسكرية برئاسة رئيس الجمهورية) في «الدستور السري» أو "الكتاب الاحمر" الذي يُعَدّ الوثيقة الرسمية الأهم في تحديد الاستراتيجيات العريضة التركية الخارجية والداخلية لخمس سنوات مقبلة، وكان أبرزها تصنيف "إسرائيل" بأنها «تهديد رئيسي لتركيا»، حيث حملت "اسرائيل" مسؤولية انعدام استقرار المنطقة بسبب النشاط الإسرائيلي، وسياساتها التي قد تسبّب بسباق تسلّح في المنطقة، وهو ما يشكل تهديدا لتركيا.
وهذه العبارة وصفتها الصحافة التركية بـ«التاريخية» باعتبار أنها المرة الأولى في مسيرة العلاقات التركية ـ الإسرائيلية منذ 1949 التي تُذكَر فيها "إسرائيل" كتهديد خارجي بالنسبة إلى تركيا. لكن التصنيف الآخر الموازي هو ازالة سوريا وإيران من لائحة الدول التي تُعَدّ تهديداً خارجياً لتركيا بعدما كانت ايران في نسخة عام 2005 مصنَّفة على أنها «التهديد الأول» لها على خلفية نظام حكمها الإسلامي وقدراتها النووية. والتوصيف المعطى لهذا التبديل في الاخطار التي تتهدد تركيا هو اعتباره "تحولاً استراتيجياً من العيار الثقيل، ستكون له تداعيات على مستوى الشرق الاوسط"، المنقسم منذ فترة بين محورين واحد تقوده ايران ومعها حلفاء في خط الممانعة وآخر تقوده الولايات المتحدة ويوصف بالاعتدال ومعها "اسرائيل" واطراف عربية اخرى.
والموقف التركي الأخير يشير الى بدايات انتقال من المنطقة الوسطية الى منطقة اكثر انحيازا الى المحور الايراني السوري الممانع، ولا سيما انه بموازاة التحسن المطرد في العلاقات بين انقرة وكل من طهران ودمشق، هناك توتر ملحوظ وملموس بين انقرة وتل ابيب، كانت الحرب الاسرائيلية الاخيرة على غزة ابرز تجلياته.
وعليه فانه بموازاة التوقعات بتراجع إضافي في التعاون الثنائي بين "اسرائيل" وتركيا على الصعد الأمنية والاستخبارية والتجارية والتسليحية، فان المزيد من التقارب بين تركيا واصدقائها الجدد، اي ايران وسوريا، تريد انقرة ترجمته فعليا في قمة لشبونة باصرارها على عدم تصنيف هذين البلدين بانهما تهديد، وانها ترفض ان تكون رأس حربة في مواجهتهما، بعدما ثبتت ذلك في كتابها الاحمر السري. علما ان هذا الكتاب اختُرع في حقبة الحرب الباردة، تحديداً بعدما أصبحت تركيا عضواً في حلف شماليّ الأطلسي عام 1952. وحينها كان الهدف منه تقديم ضمانات للحلف الغربي بأن تركيا لن تكون في يوم من الأيام عضواً في أي تحالف اشتراكي ـ سوفياتي، مع الاشارة الى ان ذلك التحالف زال من القاموس الغربي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته واستبدله بالخطر الاسلامي كما يرد في تعريفات السياسات الغربية التي استقرت حاليا على حصره بالخطر الايراني وخطر المنظمات الاسلامية المصنفة ارهابية.
طبعا التعديلات التي ادخلت على الكتاب الاحمر كان لافتا فيها ان حكومة أردوغان هي التي اعدتها، واعتُمدت حرفياً في اجتماع مجلس الأمن القومي لتكون المرة الأولى التي تكون الحكومة المدنية هي مَن يخطّ هذه الوثيقة، لا العسكر على ما درجت عليه العادة، وليأتي ذلك مكملا لما آلت اليه نتائج الاستفتاء على أكبر تعديلات دستورية تشهدها تركيا في تاريخها الحديث وشمل 26 مادة وقدمها حزب العدالة وحظيت بموافقة 58 في المئة من الاتراك، بحيث حدت من صلاحيات العسكر والقضاء فاتاحت محاكمة الضباط امام المحاكم المدنية، وكذلك أعطت الحق للضباط الذين يفصلهم مجلس الأمن القومي في التظلّم أمام محاكم التمييز، فضلا عن غلّ يد المؤسسة القضائية في حل الأحزاب السياسية وتقييد نشاطها (كما فعلت مرارا مع الاحزاب ذات التوجه الاسلامي)، من خلال توسيع المحكمة الدستورية ومجلس المدّعين العامين وإعطاء البرلمان الحق في تعيين عدد مناسب في الهيئات القضائية العليا.
واذا اخذنا بالاعتبار الرغبة الايرانية بتوسيع علاقاتها مع تركيا وتطويرها الى اكبر قدر ممكن، ما يجعل لهذين البلدين الاسلامين في المنطقة من قوة وتأثير اكبر في مسار الاحداث ورسم مستقبل المنطقة بعيدا عن التاثيرات الخارجية لا سيما الاميركية، فان ما هو لافت ان هذين البلدين كانا اول بلدين مسلمين اعترفا بـ"اسرائيل" وفتحا ابوابهما لها بعيدا عن تطلعات العرب وانحيازهم الى القضية الفلسطينية، ما ساهم حينها في تقوية الجانب الاسرائيلي على الاطراف العربية مجتمعة. لكن كما تلقت العلاقات الايرانية الاسرائيلية في زمن الشاه صفعة قوية بعيد انتصار الثورة الاسلامية وباتت ايران اليوم العدو رقم واحد لـ"اسرائيل" والتهديد الوجودي لها، فان الافتراق التركي عن "اسرائيل" والذي وصل حد اعتبارها تهديدا قوميا من شأنه اذا تواصل بوتيرته المتسارعة ان يضيق الخناق على الدولة العبرية وان يعزز المواقف الفلسطينية والعربية الرافضة للتسوية مع "اسرائيل"، ويقوي محور الممانعة في وجه الهجمة الاميركية المستشرسة منذ غزوة افغانستان. وهذا يعني أن الشرق الاوسط الجديد بنسخته الاميركية التي فشلت في أكثر من استحقاق ادارته واشنطن بنفسها، لا سيما حرب تموز 2006 على المقاومة في لبنان، هذا الشرق الاوسط الجديد يوجد منه نسخة اخرى مختلفة صناعة محلية انضمت اليها تركيا مؤخرا لتعطيها قوة دفع اضافية ربما تساهم في عودة بعض الدول العربية الى خيارات شعوبها المؤيدة للمقاومة والمحبذة لتكرار نماذج الانتصارات في لبنان والصمود في غزة. وبالتالي يضع كل ذلك "اسرائيل" امام مآزق جديدة لن تقوى على الافلات منها اذا عادت تركيا الى ثوبها الاسلامي كما سبقتها اليه ايران.