ارشيف من :أخبار لبنانية
المشهد الاستراتيجي لكيان العدو: تقييم دبلوماسي وعسكري
في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2010 خاطب كل من تال بيكر والعميد المتقاعد مايكل هيرتسوغ منتدى سياسي خاص على مأدبة غداء استضافها معهد واشنطن لمناقشة الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي الحالي على مائدة المفاوضات وعن ساحات المعارك المستقبلية المحتملة. والسيد بيكر هو زميل معهد واشنطن الدولي ومقره إسرائيل، وقد شغل سابقاً منصب المستشار القانوني لبعثة إسرائيل للأمم المتحدة، ومستشار دبلوماسي لوزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني. والسيد هيرتسوغ هو زميل ميلتون فاين الدولي في معهد واشنطن، وقد خدم على مدار العقد الماضي كمستشار ومن كبار مساعدي أربعة وزراء دفاع إسرائيليين. كما كان أيضاً مشاركاً رئيسياً في جميع مفاوضات السلام الإسرائيلية تقريباً، بما في ذلك محادثات القرب الحالية التي تقودها الولايات المتحدة. وفيما يلي خلاصة المقرِّر لملاحظاتهما.
مايكل هيرتسوغ
يمكن القول إن الموقف الاستراتيجي لإسرائيل في مجمله هو اليوم أسوأ مما كان عليه في السنوات الأخيرة حتى رغم أنه قد شهد تحسينات مثل:
• اقتصاد الدولة قوي، ويرجع ذلك جزئياً إلى ازدهار صناعات التقنية العالية. وفي الوقت نفسه، فإن اكتشاف موارد الغاز الطبيعي بالقرب من الشواطئ إنما يدعم الاكتفاء الذاتي المتزايد.
• جيش الدفاع الإسرائيلي ينفذ الدروس التي تعلمها من حرب لبنان عام 2006 للاستعداد لصراع محتمل في المستقبل. وعلاوة على ذلك فإن العلاقات الدفاعية والأمنية مع الولايات المتحدة ممتازة.
• التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو تعاون غير مسبوق.
ومع ذلك، فعلى الرغم من هذا التقدم هناك أسباب للتشاؤم إذا [ما تكلمنا] من منظور إقليمي ودولي.
وتبدأ القصة بضعف القيادة المركزية الواقعية عبر العالم العربي حيث يتم ملء الفراغ من قبل قوى غير عربية مثل إيران وتركيا. وتتبنى أنقرة تدريجياً توجهاً إسلامياً ناعماً في الوقت الذي تدهورت فيه علاقاتها مع إسرائيل. وتدور هناك علامات استفهام حول القيادة المستقبلية لمصر والسعودية والسلطة الفلسطينية. كما أن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية هي الآن في ركود تام حيث إن الضفة الغربية وغزة مقسمتان، والسلطة الفلسطينية ما تزال عاجزة عن إجراء انتخابات. وفي لبنان اكتسب «حزب الله» قوة على الصعيدين السياسي والعسكري كما ظهر من خلال الثقة بالنفس التي أحاطت بالزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى تلك البلاد. كما أن "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" (التي تحقق في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري) يمكن أن تدفع «حزب الله» إلى استفزاز إسرائيل في المستقبل القريب.
والتطور الآخر الذي لا تحمد عقباه بالنسبة لإسرائيل يتضمن التصور المنتشر الآن في الشرق الأوسط عن النفوذ الأمريكي المتضائل. وسواء كان له ما يبرره أم لا فإن هذا التصور قد أشعلته الأزمة الاقتصادية والانسحاب المرتقب للقوات الأمريكية من العراق والفشل في وقف برنامج إيران النووي إلى جانب التفكك المحتمل لمحادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وتعتمد إسرائيل على القوة الأمريكية لمقاومة القوى الراديكالية في المنطقة، ولا تستطيع رؤية المزيد من التراجع في تصور الهيبة الأمريكية.
وتواجه إسرائيل أيضاً جهوداً منظمة لنزع الشرعية عنها على الساحة الدولية. ففي صراعين غير متناسقين وهما لبنان في عام 2006 وغزة في 2008-2009 عمل خصوم إسرائيل ضد المدنيين من مناطق مأهولة بالمدنيين. وفي مثل تلك المواقف، يصبح الرد المنطقي لـ "جيش الدفاع الإسرائيلي" على هجمات الصواريخ ـ باستخدام قوات نيران وقوات أرضية واسعة النطاق ـ أكثر صعوبة في تطبيقه لا سيما على خلفية الجهود المستمرة لنزع الشرعية عن إسرائيل. وبينما اعتُبرت "عملية الرصاص المصبوب" في غزة نجاحاً عسكرياً إلا أن تقرير غولدستون الذي صدر في أعقابها قد سبب ضرراً كبيراً لرؤية الآخرين لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
ويمكن لعدد من "عوامل تغيير اللعبة" أن تحول الزخم باتجاه إسرائيل ـ على سبيل المثال، حدوث انفراجة في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، أو إطلاق مفاوضات مع سوريا، أو وقف برنامج إيران النووي ـ لكن لا يبدو أن أياً من هذه السيناريوهات مرجحاً. وعلى الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية فإن فجوات كبيرة بين الطرفين وانعدام الثقة والقيود المحلية على كلا الطرفين قد جعلت المفاوضات بطيئة إلى درجة التوقف. وحتى لو وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي على تمديد فترة تعليق بناء المستوطنات في الضفة الغربية لعدة شهور فإن أزمة أخرى ستكون وشيكة إذا لم تضع الولايات المتحدة والإسرائيليون والفلسطينيون بنود مرجعية للمفاوضات مما يسمح باستمرار المحادثات.
إن الانهيار في محادثات السلام ستكون له انعكاسات خطيرة من بينها احتمالية لجوء الفلسطينيين مباشرة إلى الأمم المتحدة في طلب أحادي الجانب للحصول على اعتراف بهم ضمن حدود عام 1967. ورغم إدراك جميع الأطراف (بما فيها الولايات المتحدة) لعواقب الفشل، ما يزال الطرفان عاجزين عن خلق سياسات قوية تدفعهم إلى الأمام. ومن بين النتائج المحتملة لفشل عملية السلام هو حكومة إسرائيلية مزعزعة الاستقرار.
تال بيكر
على الرغم من أن الهدف الأسمى لإسرائيل هو الحفاظ على طابعها الديمقراطي واليهودي على حد سواء مع تحقيق أقصى قدر من الأمن القومي والسلام، إلا أنه لا يزال هناك انعدام وجود توافق في الآراء حول كيفية تحقيق هذا الهدف. ففي السياق الإسرائيلي الفلسطيني يشعر كلا الطرفين أنهما مقيدان بمجموعة من العوامل الإقليمية والاعتبارات الأمنية والسياسات المحلية:
• إيران ـ وبصورة مختلفة ـ الدور الإقليمي المتغير لتركيا هو مبعث قلق وله تأثير على التقديرات السياسية في جميع أنحاء المنطقة؛
• على الجانب الآخر، يفهم معظم الإسرائيليين أهمية إقامة دولة فلسطينية تدرك التطلعات الوطنية الفلسطينية كجزء من وضع حد للصراع؛ ومع ذلك، فإنهم يخشون أن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية سيكون تكراراً لتجربة غزة. وفي الوقت نفسه، يخشى الفلسطينيون أن خلق دولة فلسطينية لن يضمن نهاية السيطرة الإسرائيلية وبالتالي يرون إقامة دولة قابلة للحياة أمر ممكن، فقط عندما يكون جزء من اتفاقية شاملة يتم فيها حسم القضايا الجوهرية مثل القدس واللاجئين؛
• يقاوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس معارضة من قبل كل من «حماس» وزملائه في حركة «فتح»، لذلك يجب عليه أن يأخذ في الاعتبار مجموعة من ردود الفعل التي تأتيه من كافة أنحاء العالم العربي، بينما يشعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقلق من إمكانية تفكك ائتلافه وقاعدته السياسية إذا قدم تنازلات خطيرة في وقت مبكر جداً.
وعلى الرغم من أن كلا الجانبين يعمل في سياق صعب وغير موائم، إلا أن السلام ليس مستحيلاً. ومع ذلك، فبدلاً من تصور سلام مثالي غير واقعي ينبغي على الطرفين قياس التقدم المحرز مقارنة مع الوضع الراهن (الذي يتدهور بسرعة). ويجب أن يُنظر إلى المفاوضات على أنها وسيلة وليست غاية في حد ذاتها. وبدلاً من التساؤل عما سيتطلبه الرجوع إلى مائدة المفاوضات، يجب على جميع الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة، أن تسأل نفسها ما الذي يجب أن يكون هناك [على أرض الواقع] للوصول إلى نتائج مجدية وخلق أفضل فرصة لتحقيق نتيجة ناجحة. ويجب إعادة صياغة مفاهيم المفاوضات باعتبارها واحدة فقط من مجموعة من الأدوات لتحقيق التقدم وخلق مساحة وحوافز للتحسينات على أرض الواقع، بما في ذلك في سياق مشروع بناء الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وفي الحقيقة، هناك خطوات بوسع كلا الطرفين أن يتخذها بعيداً عن مائدة المفاوضات، والتي من شأنها أن تسهم في الوصول إلى حل الدولتين، وهذه الخطوات تستحق الاهتمام. يجب أيضاً بذل المزيد من الجهد من قبل القادة للتحرك بعيداً عن الشعارات المعتادة وأن يُظهروا عرضاً مُقنعاً للقرارات الصعبة المرتبطة بتغيير الوضع الراهن. إن أهمية دمج كل قضية محددة في اتفاقية تحتاج أن توزن مقابل أهمية وتأثير إنجاز الاتفاقية نفسها. وبدلاً من الخوض في "التكاليف" وتسويات السلام واشتراط وجود "وسطاء في الاتفاقية" وتقديم معاهدة [كلها] محاباة تقريباً للطرف الآخر، يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يغيروا من خطابهم لكي يقدموا اتفاقية سلام باعتبارها أفضل وسيلة لدعم المصالح الوطنية لكل منهما. وعلاوة على ذلك وإلى أن يرى القادة ارتباطاً مباشراً بين قدرتهم على تقديم تنازلات من أجل السلام ونجاحهم السياسي الخاص بهم، سوف يظلون نافرون من اتخاذ القرارات الصعبة التي ستثبت لاحقاً أنها ضرورية لإحراز تقدم حقيقي.
إن خلق الظروف للتقدم على المسار الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن فصله عن الكفاح المستمر لحرمان القوى الإقليمية المتطرفة من القدرة على فرض أجندتها. إن المطلوب هو أسلوب مزدوج يدعم السلام ويحد في الوقت نفسه من قدرة ونية وشرعية عناصر مثل إيران و«حزب الله» و«حماس» لتقويض فرص التعايش. وإذا ما فشلت المفاوضات فإن مجموعة واسعة من الاحتمالات البغيضة ستملأ الفراغ على الأرجح. ففي الضفة الغربية هناك إشارات متنامية عن وجود رغبة أكبر [لشن] حملة مقاومة ضد إسرائيل، وهذه الرغبة متجذرة في تعزيز المقاطعة والعزلة ونزع الشرعية الشاملة عن إسرائيل. وفي الوقت نفسه، يرى أعضاء من الجماهير العامة من كلا الطرفين وبصورة متزايدة أن العمل من جانب واحد هو خيار قابل للتطبيق. وعند أخذ كل شئ في نظر الإعتبار، يساهم هذا المناخ في [تعميق] الشعور داخل إسرائيل بأن هناك تحدي لشرعيتها كدولة يهودية وديمقراطية على حد سواء.
إن فكرة إسرائيل كدولة يهودية قد سببت بعض الارتباك في الساحة الدولية. إنها تعني ببساطة الاعتراف بحق الشعب اليهودي في تقرير مصيره جنباً إلى جنب مع الحقوق الفلسطينية المقابلة. وقد كان هذا المبدأ هو قاعدة الدعم الدولي لإنشاء إسرائيل وفكرة التقسيم. وقد تركزت الاعتراضات الفلسطينية والعربية على انعكاساتها على قضية اللاجئين وأيضاً كونها ضرراً محتملاً لحقوق الأقلية العربية التي تعيش في إسرائيل. ويمكن معالجة هذه المخاوف دون الانتقاص من شرعية الاعتراف المتبادل بالمطالب الوطنية الفلسطينية واليهودية. ففي الرؤية الإسرائيلية نجد أن الرفض الفلسطيني للاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي ـ دون المساس بحقوق جميع المواطنين وجماعات الأقلية ـ إنما يكشف عن عدم القدرة الكامنة للتوصل إلى تفاهم مع تقرير المصير اليهودي والممانعة في إنهاء الصراع بصورة صادقة. وفي حين لا يمكن حل هذه القضايا بصورة كاملة إلا في سياق تسوية شاملة إلا أن بإمكان كل طرف عمل الكثير اليوم لإظهار الرغبة في التوصل إلى تفاهم مع حقوق وشرعية الطرف الآخر.
وعلى الرغم من أن ظروف تحقيق تقدم هي بعيدة بالتأكيد من أن توصف كمثالية، إلا أن لدى إسرائيل مسؤولية أمام مواطنيها ـ قبل أي شيء آخر ـ لتقييم وإعادة تشكيل أفعالها بصورة مستمرة وذلك للتحرك بصورة أقرب إلى هدف العيش في سلام وأمان مع جميع جيرانها.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى