ارشيف من :أخبار لبنانية
أهمية "حرب المعلومات" لكسب أي حرب عسكرية ميدانية
دراسة مترجمة(*)
كتب هذه المقالة فيليب أم تايلور، الأستاذ في مادة الاتصالات الدولية في جامعة "ليدز" بالمملكة المتحدة، حيث شدد فيها على ضرورة الإهتمام في "حرب المعلومات" أي الحرب العسكرية الالكترونية، معتبراً إياها ركيزة أساسية لكسب أي حرب عسكرية ميدانية. وقد استشهد تايلور بعدة أمثلة تبيّن نجاح المنظمات التي يعتبرها "إرهابية" في مواجهة أمريكا و"إسرائيل" في حروبها في المنطقة والعالم، وتحويل الإنتصار الأمريكي والصهيوني إلى هزيمة أمام الرأي العام العالمي. وذكر تايلور أن "الفلسطينيون كانوا من بين أوائل من أظهر كيفية تدويل القضايا المحلية عبر وسيلة إعلامية جديدة فيما يسمى "الانتفاضة الإلكترونية" التي أضحت مضاعِف القوى الأنجع في ترسانتي فتح وحماس". وشدّد على أنه "يجري خوض الحرب الحقيقية الآن في هذا المسرح الافتراضي...إننا في عصر إصدار الوب 2.0 الذي أصبح التفاعل مع المعلومات، وليس التلقي السلبي لها فقط، هو السائد: إنه حيّز يستحيل فيه، إذا أردنا استعمال المصطلحات العسكرية مرة أخرى، تولي القيادة والسيطرة أو تحقيق هيمنة كاملة الطيف".
أخفق أساطين حرب المعلومات الإسرائيليون من المستخدَمين الحكوميين ومن قطاع الإعلام الذي يتلاعبون به في فهم حرب الإعلام العالمية. وإساءتهم التعامل مع الأزمات في كل من لبنان وغزّة فضلاً عن حادثة الأسطول الأخيرة جعلت إسرائيل تظهر مثل الساذج على المسرح العالمي للحروب والصراعات. كما أن إسرائيل لم تفهم الفارق بين كيفية رؤيتها لنفسها وكيفية تصوّر الآخرين لأفعالها، أو أنه يبدو إذا كانت تفهمه فإنها لا تبالي إن كان المتفرّجون مستائين من أدائها على المسرح الشرق أوسطي. وهناك العديد من المراقبين الغربيين المذهولين من أفعال دولة ديمقراطية يمكن المجادلة بأنها صاحبة أفضل قضية في العالم وصاحبة أسوأ دعاية لا سيما على الصعيدين الإقليمي والعالمي. ربما تكون إسرائيل شديدة الانشغال بالرأي العام المحلي، لغايات سياسية محلية، وهو عامل يمكن الاعتماد عليه في الحقيقة لروحه الوطنية بما أن الدولة اليهودية محاطة بعدد كبير من الدول المعادية.
لكنّ إسرائيل ليست الوحيدة التي تفشل في استيعاب القوى التي أعادة صياغة طبيعة الصراعات المسلحة في مجتمعنا المعلوماتي العالمي في القرن الحادي والعشرين، والذي لا يقلّ فيها لتصوّر أهمية عن الحقيقية، إذا لم يفقها أهمية. ذاعت عبارة "حرب المعلومات" في نهاية الثمانينيات عندما اقتربت الحرب الباردة من نهايتها. ولا ريب أن بعض المحللين وصف حرب الخليج الأولى سنة 1991 بأنها "حرب المعلومات الأولى". وقد دخلت هذه العبارة قاموس الإعلام الشعبي منذ ذلك الحين، في حين أُصدرت مجلات أكاديمية وعُقدت مؤتمرات دولية وحتى أُسست معاهد فكرية لتحليلها. إنها شيء يُستخدم بديلاً عن عبارة "الحرب الإعلامية" أحياناً، لكن بما أنها أصبحت عقيدة عسكرية أيضاً، فإن علاقة حرب المعلومات بالوسط الإعلامي، أو بالشؤون العسكرية العامة، يمكن أن تسبب بعض الخلط في القاموس العسكري الذي يستخدم عبارة "عمليات المعلومات" الأشمل بدلاً منها.
لطالما كان استخدام المعلومات في الحرب مكوّناً حيوياً في الاستراتيجيا العسكرية. والفريق الذي يملك أفضل المعلومات العسكرية عن قدرات خصمه وأحجام فِرقه، ومعداتها، ومواقع انتشارها، إلى جانب فهم لطبيعة أرضه ونفسيته وحوافزه وحتى أحوال الطقس التي يرجّح أن تؤثر في حصيلة المعارك، يملك أقوى الحظوظ للانتصار في المعارك، بدءاً بالإسكندر العظيم وانتهاءً بالقادة العسكريين في العراق وفي أفغانستان اليوم. وقد تعاظمت الأهمية العسكرية لحرب المعلومات لأن الصراعات الحديثة تحوّلت من خوض حروب تقليدية إلى استراتيجيات مكافحة التمرد الأمر الذي يستدعي اهتماماً زائداً بما يسمى "القلوب والعقول".
تسدّد إسرائيلُ الضربات لأعدائها في ميدان القتال، لكنها تخسر المعركة الأهم في ميدان العلاقات العامة أمام ناشطين أذكى منها مثل حزب الله.
يُنظَر إلى عمليات المعلومات في العقيدة العسكرية على أنها صندوق أدوات يحتوي على عمليات تتم عبر شبكات الحواسيب، والحرب الإلكترونية، والأمن العملاني، والعمليات النفسية، والخداع. ترتبط عمليات الشبكات الحاسوبية بالدفاع عن النظم العسكرية المعتمدة على الحواسيب، أي ضمان المعلومات، فضلاً عن مهاجمة نظم الأعداء. وغالباً ما يُستدَلّ بمحاولة الناتو تدمير أجهزة البثّ الخاصة براديو وتلفزيون صربيا أثناء حرب كوسوفا في سمة 1999 كمثال على واحدة من عمليات الشبكات الحاسوبية، لكنها كانت حرباً إعلامية في الواقع. فمحاولة شلّ قدرات القيادة والسيطرة لدى الصرب أدعى بأن تكون مثالاً على الحرب الإلكترونية.
(كما يخطر ببالنا في هذا السياق دودة ستوكْسْنِت التي هاجمت نظم السيطرة في مفاعل بوشهر النووي في إيران). ومن ناحية أخرى، أول ما يخطر ببال أغلب الناس عندما يتحدثون عن حرب المعلومات توليفةٌ من الحرب الإلكترونية وعمليات الشبكات الحاسوبية، كما في الهجمات الإلكترونية المدمّرة التي استهدفت الخدمات المالية والحاسوبية الأخرى في إستونيا في سنة 2008 ويُشتبَه في أن محاربين معلوماتيين روس قاموا بها رداً على إزاحة نصب تذكاري للجنود السوفيات الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية.
في ما كانت العقيدة العسكرية لحرب المعلومات تتبلور طوال عقد التسعينيات، ساد هوس بالتكنولوجيا الجديدة التي كانت تشعل ثورة في الشؤون العسكرية، من الكاميرات إلى مقدمات الصواريخ الذكية التي تحلّق بواسطة خدمات محدد المواقع العالمي بالتنسيق مع الأقمار الصناعية، وصولاً إلى السيطرة على منافذ الإنترنت والبريد الإلكتروني والشبكات الهاتفية الخليوية. ثم بدأت الجيوش بالحديث عن "الحرب غير المتكافئة" التي يستطيع فيها خصم ضعيف عسكرياً إلحاق ضرر جسيم من خلال تكنولوجيات معتمدة على الحاسوب باستخدام الفيروسات والديدان وأحصنة طروادة "والقنابل المعلوماتية" الأخرى في الحرب الإلكترونية أو حرب القرصنة. وفي هذا المجال، أكثر الحروب إثارة للفزع هي "بيرل هاربور إلكترونية" وليس هجمات 11 أيلول، وهي هجمات ربما تم تنسيقها جزئياً باستخدام الإنترنت، لكن نفّذها أشخاص قاموا بتوجيه طائرات قديمة نحو مركز التجارة العالمي والبنتاغون.
عقب انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، اضطرت الحكومة الأميركية إلى تقليص برامجها المعلوماتية الدولية والذي بلغ ذروته بإغلاق وكالة المعلومات الأميركية سنة 1999، مما أحدث فراغاً كان الأعداء تواقين وقادرين على ملئه بنوع جديد من الحرب غير المتكافئة. واستطاع الإرهابيون، لا سيما في مناطق مثل الشرق الأوسط، تدويل أنفسهم بسرعة وبكلفة متدنية للغاية بتوظيف بالإمكانات العالمية لشبكة الوب العالمية. وكان الفلسطينيون من بين أوائل من أظهر كيفية تدويل القضايا المحلية عبر وسيلة إعلامية جديدة فيما يسمى "الانتفاضة الإلكترونية" التي أضحت مضاعِف القوى الأنجع في ترسانتي فتح وحماس. كما أن جماعات مثل القاعدة، التي يعتقد على نطاق واسع أنها تكافح من أجل العودة إلى قيم القرون الوسطى، استخدمت التكنولوجيات الإعلامية الجديدة في تنسيق الهجمات العنيفة التي خططت لها وكذلك في بثّ رسائلها وتجنيد المتطوعين من المجتمع الإسلامي بأسره، أو الأمّة الإسلامية.
أظهرت هجمات 11/9 أيضاً قدرة الإرهابيين على الابتكار عندما استخدموا وسيلة قديمة في شنّ حربهم الجديدة. وتعمّد التنفيذ في وقت الذروة، عندما يسيّر العديد من المحطات التلفزيونية طوافاتها في أجواء المدن، ساعد على ضمان عرض الهجمات في نقل مباشر (في زمن فوري) على شاشات التلفزيون، وكان ذلك نجاحاً عظيماً. كم يبلغ عدد الأشخاص الذين وصفوا مشاهدتهم لتلك المشاهدة المرعبة على "لايف تي في" في ذلك اليوم كما لو كانوا يشاهدون فيلماً سينمائياً؟ من وجهة نظر الإرهابيين، كان ذلك المقصود تماماً، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أهمية ما يسمى بطولة الشهداء في الفكر الإسلامي. كما فهم الإرهابيون أيضاً أن أعمال العنف التي يقومون بها يُستبعد نجاحها في تحقيق نصر عسكري، بما أنهم ينشطون على مسرح صُمم لبثّ الخوف في نفوس خصومهم وغرس الكبرياء في نفوس مناصريهم. أي أن الجمهور هم هدفهم الرئيسي وليس ضحايا أعمالهم العنيفة، مع أن الأرجح أن يكون الجمهور المستهدف الفئات المتفرقة التي ستعبر عن هلعها واشمئزازها على الأرجح.
لذلك، جاء الإعلان عن "حرب عالمية على الإرهاب"، استُخدمت فيها أسلحة حركية أساساً، مثل المدافع والقنابل والطائرات التي تحلّق بدون طيار، في مصلحة الإرهابيين. ربما تنفّر أعمالُ العنف أحكم الناس، وهذا ما أثمر عنه بالضبط شنُّ حرب حركية في أفغانستان أولاً ثم في العراق، ثم في أفغانستان مرّة أخرى، لا سيما في أوساط الأمّة الإسلامية. فقد وصلت العدائية للأميركيين، حتى في البلدان غير الإسلامية، إلى مستويات غير مسبوقة مع استمرار الحرب على الإرهاب مدة تزيد على ضعف المدة التي استغرقتها الحرب العالمية الثانية. وأضحت الإنترنت ساحة القتال الرئيسية في حملات دعائية معادية للأميركيين ومعادية للغرب تتحدث عن حرب صليبية جديدة على الإسلام، وعن صراع حضارات وعن مكيدة صهيونية مسيحية لإخضاع المسلمين أينما وُجدوا.
يستحيل عدم استنتاج أن الحرب على الإرهاب أخطأت هدفها بناء على حقيقة ما كان يراد من 11 أيلول. وعلى الرغم من أن إدارة أوباما أطلقت على القتال الجاري اسم "الصراع ضدّ التطرّف الذي يؤمن بالعنف"، وهو وصف أفضل من كلمة الحرب، جاء إدراك أن ما يحدث إنما هو حرب أفكار متأخراً جداً في صراع تلعب فيه الكلمات والتصورات دوراً بارزاً وحيث ساحات القتال الرئيسية هي غوغل واليوتيوب والفايسبوك. إن المحاربين المعلوماتيين المدنيين الذين يخوضون هذه الصراعات هم محررو المجلات الإلكترونية، والصحافيون المدنيون، وشهود العيان الرقميون الذين يبثون الصور الملتقَطة في سجن أبو غريب أو في الأعراس الأفغانية لجمهور عالمي.
يجري خوض الحرب الحقيقية الآن في هذا المسرح الافتراضي. فقد باتت المواقع الإلكترونية العائدة للجهاديين تعدّ بالآلاف بعد أن كانت لا تتجاوز العشرات في سنة 2001. إننا في عصر إصدار الوب 2.0 الذي أصبح التفاعل مع المعلومات، وليس التلقي السلبي لها فقط، هو السائد: إنه حيّز يستحيل فيه، إذا أردنا استعمال المصطلحات العسكرية مرة أخرى، تولي القيادة والسيطرة أو تحقيق هيمنة كاملة الطيف. كما أنه حيّز استراتيجي أيضاً تواجه فيه المذاهب العسكرية مثل عمليات المعلومات آفاقاً محدودة فعلاً. لكنّ عمليات المعلومات تتضمن استخدام الخداع العسكري، وعندما لا تتقيد المنظمات الإرهابية بالقواعد نفسها في لعبة الإعلام والتضليل، يقع على المنظمات العسكرية الديمقراطية قسط من المسؤولية عن ذلك. وفي حال تعمّدت الكذب، فسوف يُفتضح أمرها في عصر يتميز بصعوبة الاحتفاظ بالأسرار إلى حد قريب من الاستحالة. وفي حال كذبت فعلا، فإن صدقية أية رسائل تبثها سوف تتضرر على نحو يتعذر إصلاحه. لقد أثبتت عمليات المعلومات جدواها، بدرجات نجاح متفاوتة، في مسارح الحروب الحقيقية مثل العراق وأفغانستان، لكنّ ذلك يصح فقط على مستويي القيادة التكتيكي والعملاني. لكنها في نظر القاعدة الأداة الرئيسية على مستوى الاتصالات الاستراتيجي.
برغم أن الولايات المتحدة وحلفاءها في سياق تطوير قدرات اتصالات استراتيجية الآن لخوض "اشتباك عالمي" (وهذه تسمية معدلة جديدة اقترحتها إدارة أوباما)، لم تتحقق بعد الآمال بعودة إلى استراتيجيات المعلومات غير العسكرية التي وردت في خطاب الرئيس بالقاهرة سنة 2009. وطالما أن الحرب في أفغانستان مستمرّة باندفاعتها الحركية الحالية، يُستبعد تحقيق نجاح في ميدان المعلومات على المدى القصير. وسيواصل العديد من المتفرجين الاعتقاد بأنهم يشاهدون مأساة، وبصرف النظر عن حسن أداء الجهات العسكرية، الحرب ليست مسألة هزلية.
(تمت ترجمة هذا المقال عن الإنكليزية من الموقع اليهودي Tablet)
المصدر: مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية، التقرير المعلوماتي، إصدار خاص، 19/11/2010