بغداد ـ عادل الجبوري
كان الخميس الماضي، الحادي عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري حافلا بحراك سياسي كبير في المشهد العراقي، كسر الجمود السياسي وحلحل أزمة تشكيل الحكومة التي ألقت بظلالها الثقيلة طيلة الشهور الثمانية الماضية.
منذ الساعة الحادية عشرة صباحا وحتى الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، كانت النقاشات والاجتماعات والحوارات متواصلة على مستويات متعددة بين الفرقاء السياسيين تحت قبة مجلس النواب العراقي وعلى مرأى ومسمع من العراقيين وغير العراقيين، وخلف الكواليس والأبواب المغلقة بعيداً عن الانظار.
وعلى اساس ما تمخضت عنه اجتماعات اربيل وبغداد بين قادة الكتل السياسية، اختير النائب عن القائمة العراقية ورئيس "تجمع وطنيون" أسامة النجيفي رئيسا للبرلمان بعد أن حصل على 227 صوتا من مجموع 325، وكل من النائب عن التيار الصدري قصي السهيل نائبا أول، وعارف طيفور نائبا ثانيا، وتم انتخاب جلال الطالباني رئيسا للجمهورية لولاية ثانية، ونال 195 صوتا في جولة الإعادة الثانية بعد انسحاب منافسه القاضي حسين الموسوي. وقد كلف الطالباني بعد انتخابه وتأديته اليمين الدستورية مرشح الكتلة النيابية الأكبر "التحالف الوطني"، وهو رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي بتشكيل الحكومة الجديدة خلال ثلاثين يوما من تاريخ التكليف بحسب الدستور العراقي.
وهذا يعني ان معادلات توزيع المناصب العليا للدولة العراقية لم تتغير، اذ احتفظ الشيعة بمنصب رئاسة الحكومة، والاكراد بمنصب رئاسة الجمهورية، والعرب السنة بمنصب رئاسة البرلمان.
واذا كان هناك تغييرات يمكن ان تطرأ على المعادلات الكلية، فإنها لن تخرج عن اطار حجم استحقاق كل مكون على ضوء الاستحقاق الانتخابي والتوافق السياسي القائم الذي رسخته اجتماعات اربيل وبغداد.
ولعل هناك صيغة متفقا عليها ومقرة ومعمولا بها منذ تشكيل الحكومة الانتقالية الاولى برئاسة اياد علاوي في عام 2004، تقوم على تحديد كل منصب بعدد من النقاط، وكل مقعدين ونصف من مقاعد البرلمان تحسب بنقطة واحدة. فمنصب رئيس الوزراء يحتاج الى عشر نقاط، اي الى خمسة وعشرين مقعدا برلمانيا، ومنصب رئيس الجمهورية وكذلك رئيس البرلمان يتطلبان خمس نقاط أي مايعادل اثني عشر مقعدا ونصف لكل منهما، ونفس الشيء بالنسبة للوزارات السيادية المتمثلة بالخارجية والداخلية والدفاع والنفط والمالية، في حين تحتاج الوزارات الخدمية المتمثلة بالصحة والبلديات والاسكان والتعليم العالي والتربية والنقل والاتصالات والمهجرين والموارد المائية والرياضة والشباب الى ثلاث نقاط لكل منها، أي ما يعادل سبعة مقاعد ونصف، في حين تتطلب وزارات الدولة نقطة واحدة لكل منها.
ووفق السياقات المعمول بها تقدم كل كتلة سياسية وعلى ضوء استحقاقها الحكومي ثلاثة أسماء لكل وزارة ليتسنى لرئيس الوزراء المكلف ان يختار واحدا من بينها.ولعله من الواضح جدا ان لقاءات اربيل وبغداد لم تفلح في اذابة الجليد بين بعض الفرقاء السياسيين، ولم تفلح كذلك في بناء الثقة الحقيقية بينهم، وهذا ما ظهر جليا عند انطلاق جلسة مجلس النواب، اذ لم يمر وقت طويل حتى انسحب العدد الأكبر من اعضاء القائمة العراقية وفي مقدمتهم رئيسها اياد علاوي، بعد ان طالب أعضاء من القائمة باقرار ما تضمنته وثيقة الاتفاق المبرمة بين كل من رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني ورئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي ورئيس القائمة العراقية اياد علاوي، والمتمثل بإسقاط اجراءات المساءلة والعدالة بحق ثلاثة من قياديي القائمة، وهم صالح المطلك وظافر العاني وراسم العوداي، وتحديد صيغة وصلاحيات وادوار المجلس الوطني للسياسات العليا الذي أوكلت رئاسته وفق التوافقات إلى إياد علاوي.
الكشف عن تلك الوثيقة اضافة الى وثيقة اخرى موقعة من قبل المالكي تقضي بالغاء اجراءات الاجتثاث عن العضو الآخر في القائمة جمال الكربولي، اثار ارتباكا وامتعاضا لدى اعضاء "ائتلاف دولة القانون" وفي مقدمتهم المالكي، وأثار ايضا لغطا وجدالا بين داع الى عدم الذهاب الى انتخاب رئيس الجمهورية قبل حسم ما جاء في اتفاق البارزاني ـ المالكي ـ علاوي، وبين مستند الى الدستور ومحتج به، بأن مثل هذه القضايا لا بد ان تكون مدرجة مسبقاً على جدول اعمال المجلس، فضلا عن ان البت فيها يتطلب اجراءات وسياقات قانونية تحتاج الى بعض الوقت، ومن غير المنطقي تعطيل العملية السياسية بعد ان تحركت عجلتها بشق الانفس.
انسحاب القائمة العراقية وان لم يعطل اجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف مرشح الكتلة الاكبر بتشكيل الحكومة، الا انه اطلق اشارات واضحة على عمق ازمة الثقة، وبقاء الهوة واسعة بين الخصمين الرئيسيين، المالكي وعلاوي، بحيث ان القول بأن الازمة لم تحل، ولكنها تحلحلت بمقدار معين كان لا بد منه لتجنب الخيارات السيئة هو الاقرب الى الواقع.
وسواء تحققت تلك الحلحلة بفعل شعور وادراك الفرقاء السياسيين بأهمية التوصل الى توافقات واتفاقات تسوية وحلول وسط لتقاسم السلطة، او بفعل ضغوط خارجية اقليمية ودولية، فانه لا خلاف على حقيقة ان الازمة العراقية خرجت من عنق الزجاجة وتجاوزت المنعطفات الخطيرة، ولم تعد هناك خشية مما قد تتبناه القائمة العراقية صاحبة الواحد والتسعين مقعدا من خيارات، لأن الاطراف التي كانت رافضة للمالكي او متحفظة عليه مثل الاكراد والمجلس الاعلى الاسلامي العراقي وحزب الفضيلة الذي كان يراهن علاوي على تشكيل تحالف معها مقابل تحالف المالكي، انتهت جميعها الى تأييد ودعم الأخير انطلاقا من حسابات سياسية مختلفة.
و"العراقية" ذاتها باتت تدرك ان قطار تشكيل الحكومة الجديد برئاسة المالكي انطلق ولم يعد ممكنا ايقافه، وهي امام خيارين اما ركوبه والحصول على حصتها في الحكومة وفق الاستحقاق الانتخابي، او التخلف والبقاء في المعارضة الذي يمكن ان يدخلها في متاهات لا تفضي الى اية نتائج ايجابية، ناهيك عن أن مختلف القوى السياسية لا سيما الاكراد والمجلس الاعلى والتيار الصدري وتحالف الوسط يحرصون على مشاركة "القائمة العراقية" لضمان عدم عودة مشاهد العنف والارهاب الطائفي كما كان عليه الامر في عامي 2005 و2006 من جانب، ومن جانب اخر فإن وجود "العراقية" في الحكومة يساعد في احداث توازنات ضرورية لا بد منها، من شأنها قطع الطريق على أية محاولات لائتلاف "دولة القانون" بزعامة المالكي للاستئثار والهيمنة على مفاصل صناعة القرار.
بيان القائمة العراقية الذي أصدرته في خضم التشنج الذي رافق عقد جلسة البرلمان، اشار الى مطالبها الاساسية والمتمثلة باسقاط اجراءات المساءلة عن قيادييها المشار اليهم انفا، وتشريع قانون خاص للمجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية بما يجعله مفصلا حيويا ومهما في صنع القرار، واعادة النظر بمجمل عمل هيئة المساءلة والعدالة، وتشكيل لجنة وطنية لمراجعة ملفات السجناء والمعتقلين واطلاق سراح المحتجزين منه بصورة غير قانونية.
وما تريده من وراء اظهار التشدد في مواقفها هو تكريس مبدأ تقاسم السلطة وصنع القرار بين رئيس الوزراء المالكي ورئيس القائمة علاوي، وعدم الاكتفاء بالوجود في الحكومة وبمفاصلها المهمة فقط، فبحسب المؤشرات الاولية ستحصل العراقية اضافة الى رئاسة البرلمان ورئاسة المجلسالوطني للسياسات الاستراتيجية على منصب نائب رئيس الجمهورية ووزارتين سياديتين هما على الارجح الخارجية التي ربما يتولاها صالح المطلكوالدفاع، لتكون اثنتان من الوزارات السيادية الاخرى للتحالف الوطني، وهما الداخلية والنفط، ولتؤول وزارة المالية التي يتولاها حاليا القيادي في المجلس الاعلى باقر جبر الزبيدي الى التحالف الكردستاني. اضافة الى ذلك من المفترض ان تحصل العراقية على ثلاث وزارات خدمية ومثلها وزارات دولة.
وبما ان الحلحلة قد تحققت ولكن حلا حقيقيا لم يتحقق، فهذا يعني ان مهمة المالكي لتشكيل الحكومة لن تكون باليسيرة وعملية ارضاء الجميع والتوفيق بين الارادات المتقاطعة قد تتطلب وقتا يزيد على المهلة المحددة لمرشح رئاسة الوزراء لتشكيل حكومته وعرضها على مجلس النواب، ومن غير المستبعد ان يتعرض الدستور الى خرق اخر، لكن المهم ـ او الاهم ـ ان خارطة طريق تشكيل الحكومة بدأت تتبلور أكثر فأكثر.