عقيل الشيخ حسين
عندما عمد الأميركيون إلى فك الارتباط بين الدولار والذهب، عام 1971، رد مسؤول أميركي كبير على الاستياء الذي أبداه الأوروبيون بقوله: "تلك مشكلتكم وليست مشكلتنا". لكن هذا الإجراء لم يلبث أن تمخض عن مشاكل أجبرت الأميركيين على توسيع دائرة المسؤولية عن القرار الاقتصادي لتشتمل على الدول الصناعية السبع أو الثماني، ثم على توسيعها مرة ثانية لتشتمل، ضمن إطار مجموعة العشرين، على عدد من البلدان التي توصف بالناهضة. وفي ظل الأزمة المالية التي تفجرت ابتداءً من العام 2007 في الولايات المتحدة لتنتقل بعدها إلى بقية بلدان العالم، تعلقت آمال البلدان الأكثر اكتواءً بالأزمة بالعثور على الحلول في إطار تلك المجموعة التي كثفت لقاءاتها منذ ذلك التاريخ، من دون أن تتمكن من تجاوز بعض المعالجات الهامشية.
ولم يكن مصير قمة العشرين التي انعقدت مؤخراً في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، بأفضل من سابقاتها. فقد انعقدت في ظل التوتر الذي أعقب القرار الأميركي الأخير بضخ 600 مليار دولار في السوق الأميركية، على أمل أن يفضي ذلك إلى تسريع عجلة الاستهلاك، على طريق الخروج من الركود الحالي، وهو الإجراء الذي انتقده حلفاء الولايات المتحدة لأنه اتخذ للرد على هواجس أميركية داخلية لا تأخذ بعين الاعتبار تداعياته السلبية على مستوى بقية بلدان العالم.
بكلام آخر، جاء هذا الإجراء ليدفع بالاقتصاد العالمي نحو المزيد من عدم التوازن، في وقت كان من المفترض فيه أن تشكل قمة سيول خطوة هامة على طريق العودة إلى التوازن. فالحال أن البلدان العشرين التي يعيش فيها أكثر من ثلثي سكان الكوكب هي المعنية بهذه العودة لأنها تمتلك أكثر من 90 بالمئة من القوة الاقتصادية العالمية، في حين يتم تقاسم الـ عشرة بالمئة المتبقية بين 180 بلداً بلا فاعلية في هذا المجال. لكن جميع هذه البلدان لا تعاني من مشكلة اللاتوازن بالدرجة نفسها. فهو ملحوظ بشكل بارز في حالتي الصين التي تمتلك فائضاً تجارياً في حدود 2500 مليار دولار، والولايات المتحدة التي تعاني من عجز بالحدود نفسها، إضافة إلى عجز أكبر على مستوى الديون الداخلية والخارجية.
وبالنظر إلى طغيان هذه المشكلة على غيرها من المشاكل، تقلص دور معظم المشاركين في القمة التي تحولت بذلك من قمة العشرين إلى قمة "الاثنين" (الولايات المتحدة والصين)، لأن التفاهم بينهما هو المدخل الإجباري لبقية التفاهمات. غير أن التفاهم كان الغائب الأكبر. وقد عبر عن ذلك رئيس صندوق النقد الدولي، دومينيك ستراوس كان، بقوله إن كلاً من الطرفين يطلب من الآخر بذل جهود ليس مستعداً لبذلها هو نفسه.
جميع أعضاء القمة مستاؤون بالطبع من قرار الضخ الأميركي وتداعياته السلبية على مستوى انخفاض قيمة الدولار، ويعتبرون ذلك إجراءً يهدف إلى دعم الصادرات الأميركية على أمل إنعاش سوق العمالة والتخفيف من حدة البطالة.
لكنهم أكثر استياءً إزاء الموقف الصيني. فهم ينضمون في ذلك إلى الصف الأميركي عبر مطالبة الصين بخفض قيمة اليوآن للحد من قدراتها التنافسية في السوق الخارجية، ولتمكين الصادرات الأميركية والأوروبية من الدخول بسهولة إلى أسواقها الداخلية.
وإذا كانت الصين قد وعدت خيراً في هذا المجال، فإنها تطالب بإعطائها فسحة من الوقت وتحاول استمالة البلدان الناهضة من خلال التشديد على أن الضغط عليها في هذا المجال من شأنه أن يلحق ضرراً بنموها وأن يغرقها في مشاكل لا حصر لها.
وفي ظل إصرار الطرفين الأميركي والصيني كل على موقفه، في وقت بات فيه على الأوروبيين خصوصاً أن يتحملوا تبعات هذا التشدد، إضافة إلى تبعات تصاعد الأزمة في بلدانهم، انفضت قمة سيول من دون التوصل إلى اتفاقات ملزمة أو وفق جداول محددة، تاركة الحل للمستقبل.
ومن هنا، سيستمر اللاتوازن في التفاقم اللهم إلا إذا ما رضخت الصين للتهديدات الأميركية وتراجعت عن موقفها قبل كانون الثاني / يناير القادم، موعد الزيارة التي سيقوم بها الرئيس هو جينتاو إلى واشنطن.
وحتى لو أبدت الصين بعض الليونة مراعاة لتشابك علاقاتها التجارية وللكم الهائل من سندات الخزينة الأميركية التي تمتلكها، فإن ذلك لا يبدو كافياً للعودة إلى التوازن المطلوب بين الاقتصادين الصيني الناهض والأميركي المتعثر.
وبالطبع فإن ثماره لن تنال بقية البلدان العشرين، وخصوصاً لن تنال البقية المتبقية من بلدان العالم المغلوبة على أمرها. لذا، وأكثر من أي وقت مضى، ينبغي للعجز عن إيجاد الحلول أن يكون دافعاً نحو تفكير أكثر جذرية من مجرد السعي إلى ترميم نظام حضاري لم يعد صالحاً للترميم. فحرب العملات في تصاعد ونتيجتها الحتمية هي العودة إلى الحمائية والانغلاق، وما يفتحه ذلك من آفاق واسعة أمام تنامي النزعات القومية المفتوحة على المزيد والمزيد من النزاعات.