ارشيف من :آراء وتحليلات
العبور التركي إلى الجوار الإيراني والعربي: ركائز اقتصادية متينة لعلاقات سياسية قوية
عبد الحسين شبيب
يعتبر الاقتصاد أبرز النطاقات الحيوية لترجمة سياسة "شرق در" التركية الجديدة، لا بل هو الركيزة الأهم باعتبار أن مقولة المال كمصدر للسلطة والنفوذ هي قاعدة عالمية كما هي قاعدة يطبقها الأفراد في حياتهم اليومية. وفي السياسة يقع الاقتصاد اليوم في قلب السياسة، لا بل إن حروبا بذاتها تشن لغايات اقتصادية محض، وليس ما كشف مؤخراً عن عمليات التنقيب الأميركية عن ثروة المعادن في أفغانستان، التي أدارتها مباشرة وزارة الحرب ( البنتاغون) بعد غزو هذا البلد، والتي تشمل معادن متنوعة وبأرقام مالية خيالية، بينت السبب الحقيقي وراء الغزو وليس البحث عن منفذي هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.
الشخص المعني مباشرة بإدارة تحولات تركيا الخارجية هو نفسه وزير الخارجية احمد داوود اوغلو الذي يعتنق مقولة "توفير الاستقرار عبر الازدهار الاقتصادي" باعتبارها أحد الأسس الأهم في العلاقات الدولية، خصوصا مع اقتصاد تركي يحتل المرتبة 16 عالمياً، ووصل دخل الفرد التركي إلى مستوى غير مسبوق قياساً للمنطقة التي تنتمي إليها تركيا.
هناك فرص كبيرة لتركيا في النفاذ إلى عالمها القديم وفض القطيعة معه بعد أربعمئة عام من العلاقات المثقلة بالمظالم. فتركيا التي تعود إلى إسلامها تدريجيا عبر حزب العدالة والتنمية تلاقي ظاهرة الصحوة الإسلامية في المنطقة كمحفز على تنمية الشق الاقتصادي المشفوع بعلامات مرتفعة لمواقفها السياسية، مع منشطات إضافية.
فإذا لاحظنا مثلا أنه في ظل دعوات المقاطعة التي كانت تصدر في بعض الدول العربية والإسلامية لمنتجات الشركات والدول التي تدعم "إسرائيل" أو تعزز الهيمنة الاميركية والغربية أو احتجاجا على الإساءات الغربية المتكررة للإسلام ورموزه الروحية، كان هناك من يطرح سؤالا عن البدائل وعدم القدرة عن الاستغناء عن الغرب وصناعاته. لكن في ظل وجود بديل تركي لعدد كبير من الصناعات الأساسية وبمواصفات أوروبية، يعرف الجميع أن أنقرة تتقيد بها كشرط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي (في بريطانيا من اصل أربع ثلاجات تباع هناك ثلاجة صناعة تركية)، هذه البدائل بقدر ما تعطي فرصة للبضائع التركية على النفاذ إلى العالم الإسلامي (العربي ضمناً) تجعل من دعوات المقاطعة لأي سلعة غربية لاحقا ذات قيمة ومصدر قلق لأصحاب الشركات نفسها التي تنافسها شركات تركية، فكيف إذا كانت مترافقة مع موقف سياسي مؤيد ومتضامن مع مواقف الداعين للمقاطعة احتجاجا على الإرهاب الإسرائيلي والعدوانية الاميركية وغيرها من القضايا التي بدأت أنقرة تتخذ منها موقفا واضحا منحازا إلى قضايا المنطقة.
نقطة أخرى مهمة هي أن الظاهرة الإسلامية في تركيا أنتجت حكما متطلبات هذا السلوك من ألبسة وغيرها، وقد وجدت هذه مباشرة طريقها إلى أسواق إسلامية أخرى، في لبنان وسوريا والأردن والعراق وفلسطين وغيرها، ممن تشهد أيضا نموا في الصحوة الإسلامية تزيد الطلب على هذه المنتجات التي تجمع ما بين الجودة العالية والأناقة كصناعة النسيج والألبسة الشرعية الإسلامية. فضلا عن أن المنتجات الغذائية التي تصنع في بلد إسلامي هو تركيا وصناعة الجلود وما يتصل باهتمام المنتمين إلى الحركات الإسلامية بالقواعد الشرعية الإسلامية لجهة حلية هذه الأطعمة وهذه الجلود، تجعل للبديل التركي الأولوية على المنتجات التي مصدرها دول غربية.
هذه الأسباب تعزز من خلفية التوجه التركي نحو سوق عربية وإسلامية واعدة وكبيرة لا سيما أنها تتصف بالاستهلاك وتغزوها البضائع الأجنبية، وبالتالي يشكل المجال الاقتصادي الرافد الأبرز الذي يتغذى من سيل المواقف التركية المبتعدة عن إسرائيل والمقتربة من فلسطين، وهما عنوان الصراع السياسي والعسكري والأمني الاقتصادي في الشرق الأوسط.
وبمقدار ما كانت "إسرائيل" سعيدة في السابق لتوفير تركيا غطاء لها طيلة نصف القرن الماضي، فإنها الآن تتوجس خيفة من التحولات التركية ومن سياسة اليد الممدودة التي تلاقيها أنقرة من الدول العربية والإسلامية المجاورة لها. على سبيل المثال تنظر الدولة العبرية بقلق إلى تخطيط إيران لبناء تحالف استراتيجي اقتصادي مع تركيا أعدت له وزارة الخارجية الإيرانية ورقة عمل نشرتها مؤخرا صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية نقلا عن تقرير نشرته صحيفة «لا ستمبا» الإيطالية.
وبحسب الصحيفة الإيطالية، فإن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي يرى أن هناك تسعة مجالات تمثّل آفاقاً للتعاون مع تركيا، أهمها قطاع الطاقة. وتتمحور الخطة حول إقامة تكتل إيراني تركي يقوم على إيجاد رواق بري بينهما يُستخدَم في تصدير النفط والغاز الطبيعي الإيرانيين عبر تركيا إلى البلدان الأوروبية. وإذا اعتمد هذا الرواق البري فسيكون ممكناً بناء محطات لتكرير النفط بحيث تتحرر إيران من استيراد البنزين، كما أنه سيتيح للجمهورية الإسلامية استخدام ميناء «تربزون» التركي على البحر الأسود كبديل عن دبي كمركز أساسي للاستيراد والتصدير.
وبحسب الصحيفة الإيطالية فان الخطة الإيرانية تقود لإشراك تركيا في التعاون القائم بين إيران وسوريا، وهو تعاون مرشح مستقبلاً لأن يضم كلاً من لبنان والعراق بما يقود إلى «خلق خريطة جديدة للشرق الأوسط تقود إيران فيها حلفاً إقليمياً قادراً على مقاومة الحلف الخصم الذي تدعمه الولايات المتحدة». ومن الواضح أن التنسيق التركي الإيراني فيما يتعلق بتركيبة المشهد السياسي العراق حالياً، ومنح حصة لتركيا في الصيغة الجديدة يعد عاملا مساعدا في الدفع نحو الرؤية الإيرانية للتعاون الاستراتيجي مع تركيا، التي ترى في جارها العراقي بوابة دخول الى قضايا المنطقة يعززه الدفع الاقتصادي التركي العراقي الذي يستمد قوته من روافد عدة، أبرزها الرخاء الاقتصادي الذي تشهده كردستان العراق، الشريك التجاري البري الأول لتركيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الملف النفطي، المتمثل بخط نفط جيهان كركوك أو غيره، الذي يوفّر لتركيا موارد دخل إضافية، أو بالنسبة إلى التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة، الذي تجاوز تسعة مليارات دولار في 2010 (كان 3.5 مليارات في 2007).
كما أن هناك مجالا حيوياً آخر يتعلق بالقوقاز وتحديداً نطاق أرمينيا، أذربيجان وجورجيا، التي تتشارك فيها أنقرة وطهران وموسكو النفوذ، بحيث تتوسع دائرة التعاون مع أطراف ذات شأن عالمي كما هي روسيا اليوم، أو مع الصين لما توفره من ظهير دولي، وهو ما عبرت "إسرائيل" رسميا من خشيتها منه عندما تحدثت صحيفة « هآرتس»، مؤخراً عن وجود قلق لدى كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" إزاء مسار تبلور حلف عسكري جديد، بين كل من إيران وتركيا والصين، انعكس عبر مناورات جوية مشتركة شاركت فيها طائرات تركية وصينية، بعدما كان سلاح الجو الإسرائيلي الشريك الأساسي لنظيره التركي في المناورات الجوية الدولية التي توقفت في أعقاب الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2008.
وبحسب «هآرتس» فان مصدر القلق الإسرائيلي من هذه التدريبات يرتبط بالمسار الذي سلكته الطائرات الصينية عبر أجواء باكستان وإيران وصولاً إلى تركيا.
وبموازة القلق مما يسميه الإسرائيليون التعاون العسكري الصناعي الصيني الإيراني والصيني التركي فان هناك تعاونا ثلاثيا يتعلق بمشاركة تركيا والصين في مشروع مدّ أنابيب نفط من إيران.
أما سوريا المنخرطة في تعاون استراتيجي مع إيران ومحور واحد في المقاومة فإنها باتت اليوم تشكل بوابة تركيا إلى العالم العربي، ومنها تطل على لبنان الذي بات يحتل موقعا مهماً لدى صناع السياسة التركية ترجموه بادوار عدة، مثل المشاركة الفاعلة للأتراك في قوات «اليونيفيل» بعد عدوان تموز الإسرائيلي عام 2006، بالإضافة إلى دور أنقرة في ولادة اتفاق الدوحة في أيار 2008، وما يحكى اليوم عن مساهمة وزير الخارجية داوود أوغلو في البحث عن حلّ لأزمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لكن نقطة الارتكاز المقبلة ستكون ولادة «منطقة التجارة الحرّة» التي ستضم كلاً من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، التي توصف بأنها «النسخة الشرق أوسطية للاتحاد الأوروبي».
الاتفاق يفترض توقيعه في اسطنبول، في كانون الثاني المقبل على مستوى رؤساء حكومات كل من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، وسيؤدي تدريجيا إلى إقامة منطقة ذات تعاون وثيق ومفتوح على صعد تنقّل الأفراد والطاقة والتجارة والسياحة والمواصلات. وقد أُسِّس مجلس تعاون بين هذه الدول الأربع، وسيجتمع وزراء هذه القطاعات مرتين في العام الواحد، ويفترض أن ينعقد اللقاء الوزاري الأول هذا الشهر (تشرين الثاني 2010).
أما الشق السياسي للمشروع، فهو محصور بوزراء خارجية هذه الدول الذين سيلتقون في دمشق في كانون الأول المقبل، تحضيراً لقمة رؤساء الحكومة بعد شهر من ذلك التاريخ، ليصبح لديهم اجتماعان سنويان ثابتان على الأقل.
طبعا هذا المشروع يسبقه إجراءات تمهيدية تتعلق بتوقيع اتفاقيات ثنائية بين أنقرة وكل من دمشق وعمان وبيروت، وفيما تتقدم الأمور مع العاصمتين العربيتين الآنفتي الذكر، فان العقود بين أنقرة وبيروت لا تزال غير موقَّعة (تم توقيع اتفاقية لإلغاء تأشيرة الدخول بين لبنان وتركيا وبوشر العمل بها)، في ظل ملاحظات لعدد من الهيئات الاقتصادية اللبنانية، منها جمعيّة الصناعيين اللبنانيين، التي تعتبر أنّ توقيع اتفاق تجارة حرّة مع تركيا سيؤدّي إلى «تضرّر صناعات عديدة، وخاصّة تلك التي تستهلك الطاقة المكثّفة في إنتاجها»، ما يستدعي التروّي في اتخاذ القرارات المتعلّقة بهذا الموضوع. على أن الجمعية اقترحت حلولا للتعويض عن تلك «الأضرار المحتومة»، مثل إعفاء الصادرات اللبنانيّة من ضريبة الدخل وتأمين رأسمال تشغيلي ميسّر للصناعات التصديريّة وإيجاد صندوق خاص لدعم الطاقة المكثّفة».
إذاً المشهد الاقتصادي التركي العربي الإيراني آخذ بالتبلور ليحقق فوائد لكل أضلاعه، وان كانت أنقرة تطمح بحسب داوود أوغلو إلى التحوّل إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية بما يزيد من جاذبية تركيا للغرب عموماً ولأوروبا خصوصاً، ويضمن لها عضوية «الاتحاد» برأس مرفوع.
الشخص المعني مباشرة بإدارة تحولات تركيا الخارجية هو نفسه وزير الخارجية احمد داوود اوغلو الذي يعتنق مقولة "توفير الاستقرار عبر الازدهار الاقتصادي" باعتبارها أحد الأسس الأهم في العلاقات الدولية، خصوصا مع اقتصاد تركي يحتل المرتبة 16 عالمياً، ووصل دخل الفرد التركي إلى مستوى غير مسبوق قياساً للمنطقة التي تنتمي إليها تركيا.
هناك فرص كبيرة لتركيا في النفاذ إلى عالمها القديم وفض القطيعة معه بعد أربعمئة عام من العلاقات المثقلة بالمظالم. فتركيا التي تعود إلى إسلامها تدريجيا عبر حزب العدالة والتنمية تلاقي ظاهرة الصحوة الإسلامية في المنطقة كمحفز على تنمية الشق الاقتصادي المشفوع بعلامات مرتفعة لمواقفها السياسية، مع منشطات إضافية.
فإذا لاحظنا مثلا أنه في ظل دعوات المقاطعة التي كانت تصدر في بعض الدول العربية والإسلامية لمنتجات الشركات والدول التي تدعم "إسرائيل" أو تعزز الهيمنة الاميركية والغربية أو احتجاجا على الإساءات الغربية المتكررة للإسلام ورموزه الروحية، كان هناك من يطرح سؤالا عن البدائل وعدم القدرة عن الاستغناء عن الغرب وصناعاته. لكن في ظل وجود بديل تركي لعدد كبير من الصناعات الأساسية وبمواصفات أوروبية، يعرف الجميع أن أنقرة تتقيد بها كشرط لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي (في بريطانيا من اصل أربع ثلاجات تباع هناك ثلاجة صناعة تركية)، هذه البدائل بقدر ما تعطي فرصة للبضائع التركية على النفاذ إلى العالم الإسلامي (العربي ضمناً) تجعل من دعوات المقاطعة لأي سلعة غربية لاحقا ذات قيمة ومصدر قلق لأصحاب الشركات نفسها التي تنافسها شركات تركية، فكيف إذا كانت مترافقة مع موقف سياسي مؤيد ومتضامن مع مواقف الداعين للمقاطعة احتجاجا على الإرهاب الإسرائيلي والعدوانية الاميركية وغيرها من القضايا التي بدأت أنقرة تتخذ منها موقفا واضحا منحازا إلى قضايا المنطقة.
نقطة أخرى مهمة هي أن الظاهرة الإسلامية في تركيا أنتجت حكما متطلبات هذا السلوك من ألبسة وغيرها، وقد وجدت هذه مباشرة طريقها إلى أسواق إسلامية أخرى، في لبنان وسوريا والأردن والعراق وفلسطين وغيرها، ممن تشهد أيضا نموا في الصحوة الإسلامية تزيد الطلب على هذه المنتجات التي تجمع ما بين الجودة العالية والأناقة كصناعة النسيج والألبسة الشرعية الإسلامية. فضلا عن أن المنتجات الغذائية التي تصنع في بلد إسلامي هو تركيا وصناعة الجلود وما يتصل باهتمام المنتمين إلى الحركات الإسلامية بالقواعد الشرعية الإسلامية لجهة حلية هذه الأطعمة وهذه الجلود، تجعل للبديل التركي الأولوية على المنتجات التي مصدرها دول غربية.
هذه الأسباب تعزز من خلفية التوجه التركي نحو سوق عربية وإسلامية واعدة وكبيرة لا سيما أنها تتصف بالاستهلاك وتغزوها البضائع الأجنبية، وبالتالي يشكل المجال الاقتصادي الرافد الأبرز الذي يتغذى من سيل المواقف التركية المبتعدة عن إسرائيل والمقتربة من فلسطين، وهما عنوان الصراع السياسي والعسكري والأمني الاقتصادي في الشرق الأوسط.
وبمقدار ما كانت "إسرائيل" سعيدة في السابق لتوفير تركيا غطاء لها طيلة نصف القرن الماضي، فإنها الآن تتوجس خيفة من التحولات التركية ومن سياسة اليد الممدودة التي تلاقيها أنقرة من الدول العربية والإسلامية المجاورة لها. على سبيل المثال تنظر الدولة العبرية بقلق إلى تخطيط إيران لبناء تحالف استراتيجي اقتصادي مع تركيا أعدت له وزارة الخارجية الإيرانية ورقة عمل نشرتها مؤخرا صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية نقلا عن تقرير نشرته صحيفة «لا ستمبا» الإيطالية.
وبحسب الصحيفة الإيطالية، فإن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي يرى أن هناك تسعة مجالات تمثّل آفاقاً للتعاون مع تركيا، أهمها قطاع الطاقة. وتتمحور الخطة حول إقامة تكتل إيراني تركي يقوم على إيجاد رواق بري بينهما يُستخدَم في تصدير النفط والغاز الطبيعي الإيرانيين عبر تركيا إلى البلدان الأوروبية. وإذا اعتمد هذا الرواق البري فسيكون ممكناً بناء محطات لتكرير النفط بحيث تتحرر إيران من استيراد البنزين، كما أنه سيتيح للجمهورية الإسلامية استخدام ميناء «تربزون» التركي على البحر الأسود كبديل عن دبي كمركز أساسي للاستيراد والتصدير.
وبحسب الصحيفة الإيطالية فان الخطة الإيرانية تقود لإشراك تركيا في التعاون القائم بين إيران وسوريا، وهو تعاون مرشح مستقبلاً لأن يضم كلاً من لبنان والعراق بما يقود إلى «خلق خريطة جديدة للشرق الأوسط تقود إيران فيها حلفاً إقليمياً قادراً على مقاومة الحلف الخصم الذي تدعمه الولايات المتحدة». ومن الواضح أن التنسيق التركي الإيراني فيما يتعلق بتركيبة المشهد السياسي العراق حالياً، ومنح حصة لتركيا في الصيغة الجديدة يعد عاملا مساعدا في الدفع نحو الرؤية الإيرانية للتعاون الاستراتيجي مع تركيا، التي ترى في جارها العراقي بوابة دخول الى قضايا المنطقة يعززه الدفع الاقتصادي التركي العراقي الذي يستمد قوته من روافد عدة، أبرزها الرخاء الاقتصادي الذي تشهده كردستان العراق، الشريك التجاري البري الأول لتركيا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الملف النفطي، المتمثل بخط نفط جيهان كركوك أو غيره، الذي يوفّر لتركيا موارد دخل إضافية، أو بالنسبة إلى التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة، الذي تجاوز تسعة مليارات دولار في 2010 (كان 3.5 مليارات في 2007).
كما أن هناك مجالا حيوياً آخر يتعلق بالقوقاز وتحديداً نطاق أرمينيا، أذربيجان وجورجيا، التي تتشارك فيها أنقرة وطهران وموسكو النفوذ، بحيث تتوسع دائرة التعاون مع أطراف ذات شأن عالمي كما هي روسيا اليوم، أو مع الصين لما توفره من ظهير دولي، وهو ما عبرت "إسرائيل" رسميا من خشيتها منه عندما تحدثت صحيفة « هآرتس»، مؤخراً عن وجود قلق لدى كل من الولايات المتحدة و"إسرائيل" إزاء مسار تبلور حلف عسكري جديد، بين كل من إيران وتركيا والصين، انعكس عبر مناورات جوية مشتركة شاركت فيها طائرات تركية وصينية، بعدما كان سلاح الجو الإسرائيلي الشريك الأساسي لنظيره التركي في المناورات الجوية الدولية التي توقفت في أعقاب الحرب الأخيرة على قطاع غزة عام 2008.
وبحسب «هآرتس» فان مصدر القلق الإسرائيلي من هذه التدريبات يرتبط بالمسار الذي سلكته الطائرات الصينية عبر أجواء باكستان وإيران وصولاً إلى تركيا.
وبموازة القلق مما يسميه الإسرائيليون التعاون العسكري الصناعي الصيني الإيراني والصيني التركي فان هناك تعاونا ثلاثيا يتعلق بمشاركة تركيا والصين في مشروع مدّ أنابيب نفط من إيران.
أما سوريا المنخرطة في تعاون استراتيجي مع إيران ومحور واحد في المقاومة فإنها باتت اليوم تشكل بوابة تركيا إلى العالم العربي، ومنها تطل على لبنان الذي بات يحتل موقعا مهماً لدى صناع السياسة التركية ترجموه بادوار عدة، مثل المشاركة الفاعلة للأتراك في قوات «اليونيفيل» بعد عدوان تموز الإسرائيلي عام 2006، بالإضافة إلى دور أنقرة في ولادة اتفاق الدوحة في أيار 2008، وما يحكى اليوم عن مساهمة وزير الخارجية داوود أوغلو في البحث عن حلّ لأزمة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لكن نقطة الارتكاز المقبلة ستكون ولادة «منطقة التجارة الحرّة» التي ستضم كلاً من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، التي توصف بأنها «النسخة الشرق أوسطية للاتحاد الأوروبي».
الاتفاق يفترض توقيعه في اسطنبول، في كانون الثاني المقبل على مستوى رؤساء حكومات كل من تركيا ولبنان وسوريا والأردن، وسيؤدي تدريجيا إلى إقامة منطقة ذات تعاون وثيق ومفتوح على صعد تنقّل الأفراد والطاقة والتجارة والسياحة والمواصلات. وقد أُسِّس مجلس تعاون بين هذه الدول الأربع، وسيجتمع وزراء هذه القطاعات مرتين في العام الواحد، ويفترض أن ينعقد اللقاء الوزاري الأول هذا الشهر (تشرين الثاني 2010).
أما الشق السياسي للمشروع، فهو محصور بوزراء خارجية هذه الدول الذين سيلتقون في دمشق في كانون الأول المقبل، تحضيراً لقمة رؤساء الحكومة بعد شهر من ذلك التاريخ، ليصبح لديهم اجتماعان سنويان ثابتان على الأقل.
طبعا هذا المشروع يسبقه إجراءات تمهيدية تتعلق بتوقيع اتفاقيات ثنائية بين أنقرة وكل من دمشق وعمان وبيروت، وفيما تتقدم الأمور مع العاصمتين العربيتين الآنفتي الذكر، فان العقود بين أنقرة وبيروت لا تزال غير موقَّعة (تم توقيع اتفاقية لإلغاء تأشيرة الدخول بين لبنان وتركيا وبوشر العمل بها)، في ظل ملاحظات لعدد من الهيئات الاقتصادية اللبنانية، منها جمعيّة الصناعيين اللبنانيين، التي تعتبر أنّ توقيع اتفاق تجارة حرّة مع تركيا سيؤدّي إلى «تضرّر صناعات عديدة، وخاصّة تلك التي تستهلك الطاقة المكثّفة في إنتاجها»، ما يستدعي التروّي في اتخاذ القرارات المتعلّقة بهذا الموضوع. على أن الجمعية اقترحت حلولا للتعويض عن تلك «الأضرار المحتومة»، مثل إعفاء الصادرات اللبنانيّة من ضريبة الدخل وتأمين رأسمال تشغيلي ميسّر للصناعات التصديريّة وإيجاد صندوق خاص لدعم الطاقة المكثّفة».
إذاً المشهد الاقتصادي التركي العربي الإيراني آخذ بالتبلور ليحقق فوائد لكل أضلاعه، وان كانت أنقرة تطمح بحسب داوود أوغلو إلى التحوّل إلى رقم صعب في المعادلة الإقليمية بما يزيد من جاذبية تركيا للغرب عموماً ولأوروبا خصوصاً، ويضمن لها عضوية «الاتحاد» برأس مرفوع.