ارشيف من :آراء وتحليلات

فضيحة فساد كبرى تهز فرنسا... وساركوزي في مرمى الشظايا

فضيحة فساد كبرى تهز فرنسا... وساركوزي في مرمى الشظايا
عقيل الشيخ حسين

أهون السبل عندما يحدث تفجير ارهابي في مكان ما، أميركا أو أوروبا أو أفريقيا أو الشرق الأوسط، هو توجيه أصابع الاتهام إلى الجماعات الإسلامية المتطرفة، لدرجة أن سوق الاغتيالات والتصفيات على اختلاف أنواعها المالية والسياسية والعسكرية باتت بالغة الإزدهار حتى في البلدان الراسخة في الديموقراطية.

إذ ما الذي قد يمنع جهة ما، شخصاً أو دولة، من الإقدام على اقتراف أي جريمة في الظلام من أجل إمرار مشروع ما، ما دام أن بإمكانها أن تضمن سلفاً عدم انكشاف أمرها لأن المتهم معروف وجاهز للبوس التهمة، وجهوزيته تمنح صك البراءة للمنفذين الحقيقيين للعمل الإرهابي.

من هنا، توجهت أصابع الاتهام إلى المتطرفين الإسلاميين عندما حدث تفجير إرهابي في مدينة كراتشي الباكستانية، في 8 أيار / مايو 2002، سقط فيه 14 قتيلاً منهم 11 فرنسياً من موظفي دائرة حكومية فرنسية هي " إدارة المنشآت البحرية". لكن الأنظار لم تلبث أن تحولت عن المتطرفين الإسلاميين بعد أن فاحت في الأجواء رائحة تداخلات بين عملية التفجير والسياسة الداخلية الفرنسية.

أصل الموضوع يعود إلى العام 1992، وهو متعلق بصفقة غواصات كانت وزارة الدفاع الفرنسية تسعى إلى إقناع باكستان بشرائها من فرنسا لا من ألمانيا. وبما أن المال معروف بشدة قدرته على الإقناع، قامت إدارة المنشآت البحرية بتكليف شركة متخصصة بتصدير المعدات العسكرية الفرنسية بدفع رشى إلى مسؤولين باكستيين، على أن تتقاضى الشركة المذكورة عمولة دسمة.

وبعد عامين، تم إدخال شركة أخرى على خط دفع العمولات ببادرة من مدير مكتب وزير الدفاع الفرنسي حينئذ، فرنسوا ليوتار. وبالطبع لقاء عمولات إضافية تحصل عليها الشركة الجديدة. والجدير بالذكر أن دفع العمولات في مثل هذه الصفقات كان أمراً مشروعاً في فرنسا. لكن الرئيس السابق، جاك شيراك، عزم، منذ وصوله إلى الإليزيه، عام 1995، على إنهاء العمل بهذا العرف. فكلف وزير دفاعه، شارل ميون، بوضع لائحة بالعقود المشبوهة.


وهكذا، تم وضع هواتف العديد من كبار المسؤولين المقربين من فرنسوا ليوتار تحت المراقبة. وبالنتيجة قرر شيراك وقف دفع العمولات، بهدف بث الروح الأخلاقية في جسم السياسة الفرنسية. لكن الدفع تواصل حتى العام 2001. وبعد ذلك بعام وقع التفجير القاتل. ويعتقد محامي أسر الموظفين الفرنسيين الذين قتلوا في التفجير، بأن التفجير قد نفذ تحديداً كرد على وقف دفع العمولات. لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، فقد اعترف شارل ميون مؤخراً بأن قسماً من أموال العمولات المدفوعة للشركات المكلفة بدفعها إلى مسؤولين باكستانيين... كان يعود إلى فرنسا. وفي هذا المجال، كانت صحيفة ليبراسيون قد أكدت قبل أشهر، أن مبلغ 10 ملايين فرنك قد حولت إلى حساب إدوار بالادور الذي كان ينافس شيراك على الرئاسة في انتخابات نيسان / أبريل 1995، وأن القضاة يشتبهون بأن هذه الملايين على علاقة بالعمولات العائدة إلى فرنسا.

وقد برز الاعتقاد في التحقيقات الجارية حالياً حول الموضوع أن جاك شيراك ورئيس وزرائه دومينيك دو فيليبان هما من عمل على وقف دفع العمولات. وعليه، قررت أسر الضحايا رفع دعوى ضدهما بتهمة القتل غير المتعمد... على أساس أن وقف دفع العمولات هو ما أدى إلى القتل.
ولا تنتهي القصة عند هذا الحد. فالرئيس الحالي، نيكولا ساركوزي، كان وزيراً للمالية في حكومة بالادور عند توقيع صفقة الغواصات مع الباكستانيين. وبموجب تحقيق أجري في لوكسمبورغ، يقال بأن ساركوزي كان وراء إنشاء شركة وهمية تم من خلالها إمرار العمولات الذاهبة إلى باكستان وتلك العائدة إلى فرنسا.

وقد توقفت الصحف الفرنسية عند تصريح أدلى به ساركوزي قبل اشهر وقال فيه بأن قضية كراتشي هي مجرد خرافة. لكن تصريحات دوفيليبان الأخيرة التي أكدت قصة العمولات أخرجته عن صمته ليقول كلاماً حول عدم المبالغة في الجدل الدائر احتراماً لمشاعر أسر الضحايا مع وعد بوضع ما بحوزته من وثائق في تصرف العدالة. إلا أنه لم يقل ما يكفي لإرضاء تلك الأسر التي تصر على أن السلطات الفرنسية قد عملت جهدها، وبطرق غير مشروعة، من أجل خنق التحقيق في هذا الملف.

ابنة أحد الضحايا، ماغالي درووي، نشرت مؤخراً كتاباً حول الموضوع، ورداً على سؤال حول رأيها بتصريحات ساركوزي الأخيرة، أجابت بأن ما قاله شبيه بالاعتراف، إضافة إلى اعترافه بوجود وثائق "محتجزة" لم توضع بعد بتصرف العدالة. وتضيف ماغالي "ليست المسألة هنا بسهولة إجراء تعديل وزاري (إشارة إلى التعديل الذي أجراه ساركوزي مؤخراً)، فالقرار ليس بيده لأننا نحن من سيطالب بوضع الوثائق بتصرف العدالة في أقرب وقت ممكن.

التحقيقات تتسارع، وفرنسا تهتز تحت وطأة فضيحة تطال رؤوساً كبيرة بين خلفاء الجنرال ديغول. بمن فيهم، وربما في مقدمتهم رئيس الجمهورية الفرنسية، نيكولا ساركوزي الذي وجه شتائم مقذعة إلى الصحافيين الذين تجرأوا، على هامش قمة الأطلسي في لشبونة، على مساءلته حول قضية كراتشي.

2010-11-24