ارشيف من :آراء وتحليلات
تقارير ويكيليكس.. الضجة الأميركية المفتعلة
المرة الاولى كانت في النصف الثاني من شهر اب/اغسطس الماضي، اذ نشر ما يقارب مائة ألف وثيقة تتعلق بأفغانستان، والجرائم المرتكبة فيها سواء من قبل الجيش الأميركي أو حركة طالبان أو الحكومة الأفغانية أو الشركات الامنية. والمرة الثانية أواخر شهر تشرين الاول/اكتوبر الماضي، حيث نشر الموقع اربعمائة الف وثيقة ـ تقريرـ كان القسم الأكبر منها يتحدث عن الحكومة العراقية بصورة سيئة، والقسم المتبقي يتحدث عن الحكومة الامريكية والقوات الاميركية العاملة في العراق، وقد احدث نشر تلك الوثائق ضجة كبيرة، أكثر من الضجة التي أحدثها نشر الوثائق حول افغانستان، ولا سيما أن توقيت نشرها كان على ما يبدو محسوبا بدقة، اذ جاء في خضم الأزمة السياسية الخانقة في العراق، حول تشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء، وقد قرأها البعض في حينه بأنها واحدة من محاولات واشنطن لقطع الطريق أمام المالكي بعد أن وضع يده بيد التيار الصدري، وفشلت هي في ايجاد صيغة لتقاسم السلطة بينه وبين زعيم القائمة العراقية إياد علاوي.
وفي المرة الثالثة كانت القضية أكثر وقعا وأشد إرباكا واضطرابا لأن خلط الأوراق تجاوز افغانستان والعراق ليمتد الى اطراف وشخصيات
سياسية عربية ودولية بعضها صديقة لواشنطن وبعضها حليفة، وبعضها الآخر خصم لها، وهذه المرة لم تكن الوثائق والتقارير ذات صبغة
عسكرية، بل ذات صبغة سياسية ـ دبلوماسية، وهي على ما يبدو تعود لوزارة الخارجية الاميركية بالدرجة الأساس.
الشأن العراقي كان حاضرا بقوة في حزمة الوثائق الجديدة لويكيليكس، التي غطت فترة زمنية طويلة امتدت لعقدين من الزمن، أي منذ غزو نظام صدام لدولة الكويت صيف عام 1990 وحتى أشهر قلائل سابقة. وعلى الرغم من ان مختلف الاطراف السياسية العراقية، لا سيما التي
ورد ذكرها في الوثائق، حاولت التقليل من أهميتها وتأثيرها ومصداقيتها، الا ان نوعا من الحرج والارباك طغى على المشهد العام في البلاد،
ولم يكن بأي حال من الاحوال يمكن التغطية عليه. وخصوصا ما تعلق منها بوزارة الخارجية العراقية ووزيرها هوشيار زيباري، وما تعلق بزعيم القائمة العراقية اياد علاوي.
وبصرف النظر عن الكثير من التفاصيل والجزئيات التي تكررت وأشبعت بحثا وتحليلا ونقاشا لدى مختلف الاوساط والمنابر السياسية والاعلامية، فإن هناك ملاحظات واشارات مقتضبة لا بد من التوقف عندها واثارتها، منها:
ـ ان مسألة تسريب ونشر وبث وثائق ومعلومات سرية عبر اشخاص او مؤسسات ليس بالأمر الجديد الذي لا سابقة له، وذلك غير مرتبط بثورة المعلومات والاتصالات وسهولة وسرعة تبادل وترويج القضايا السرية. فهناك صحافيون وكتّاب اشتهروا من خلال نشر الوثائق والمعلومات السرية التي كانوا يحصلون عليها من مصادر وقنوات مهمة وحساسة مثل الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، والكاتب الاميركي بوب ود وورد وآخرين غيرهم، فضلا عما يرد في مذكرات الكثير من الزعماء والسياسيين، اضافة الى أنه في كثير من الدول بينها بريطانيا والولايات المتحدة هناك قوانين تتيح الاعلان عن الوثائق السرية الرسمية بعد فترة زمنية محددة حتى يستفيد منها الباحثون والمعنيون، واكثر من ذلك فإن بعض ـ او كثيرا من ـ القنوات الفضائية العربية والأجنية نراها تبث بين الفينة والاخرى برامج سياسية ووثائقية تتضمن معلومات خطيرة للغاية، يقف المرء متحيراً في كيفية حصول هذه القناة أو تلك على مثل هذه المعلومات.
ـ وفي ما يتعلق بموقع ويكيلكيس فإن السؤال المهم هنا والذي يطرح نفسه بقوة هو، هل هذا الموقع من القوة بحيث انه يتمكن من الحصول على كم هائل من الوثائق الخطيرة التي قالت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون عنها في وقت سابق بأنها تهدد الامن القومي للولايات المتحدة، ويقوم بنشرها لا بصورة مفاجئة وإنما يسبق ذلك اعلان واشارة قبل وقت غير قليل من دون ان يواجه بأية اجراءات سريعة وحازمة! ويمكن ان نعيد طرح السؤال بصيغة أخرى هي .. هل موقع ويكيليكس الالكتروني أكثر قوة من الولايات المتحدة بحيث يبادر الى تهديد الامن القومي الاميركي دون ان تتخذ بحقه أية اجراءات؟.
اذا سلمنا بذلك، فهذا يعني ان الدولة التي تدعي أنها القوى العظمى الاولى في العالم، هي عبارة عن نمر من ورق، وفي حال قلنا ان الامر ليس
بهذه الصورة، فهذا يعني ان كل تلك الضجة ليست سوى سيناريو مفبرك ومرتب بدقة من حيث التوقيت والاخراج والتسويق، و"ويكيليكس" ليس سوى واجهة وغطاء، وهو بتعبير اوضح ضحك على الذقون!.
بأي حال من الاحوال لا يمكن التسليم بظاهر الامور وبحسن نية وببساطة، ونفترض ان الاسترالي المطلوب للقضاء السويدي جوليان اسانج (39 عاما)، شخص ذو قدرات هائلة، ويمتلك من الشجاعة ما يمكنه من عدم الاكتراث بدول وقوى كبرى، وبالتالي تصبح القضية كما لو اننا نشاهد فيلما خياليا من انتاج هوليود ليس إلا.