ارشيف من :آراء وتحليلات

ديموقراطيات ديكتاتورية وعنصرية وفاشية!

ديموقراطيات ديكتاتورية وعنصرية وفاشية!
عقيل الشيخ حسين

الحق بالإضراب عن العمل هو من الحقوق المعترف بها في البلدان الديموقراطية. لكن هذا الحق الذي اكتسبه العمال في تلك البلدان، وهي بلدان الغرب على وجه العموم، لم يكتسب نتيجة لأريحية النظم الحاكمة وطبقة أرباب العمل، بل نتيجة لقدرة العمال على ممارسة الضغط يوم كانوا موجودين في مختلف قطاعات الإنتاج، ومنظمين في تجمعات نقابية قادرة على توحيد قرارهم، وخصوصاً لأن النظم الحاكمة وأرباب العمل كانوا مجبرين على القيام ببعض التنازلات لمصلحة العمال في وقت كان فيه النظام الشيوعي يشكل قطب جذب بالغ التأثير على الطبقة العاملة في بلدان الغرب الرأسمالي.


لكن ضمور الطبقات العاملة نتيجة للأتمتة المتصاعدة ولتراجع الأنظمة الشيوعية ثم انهيارها سمح للأنظمة الحاكمة في الغرب بالالتفاف على الكثير من الحقوق التي اكتسبها العمال في السابق، ومنها الحق بالإضراب. وقد رأينا مؤخراً كيف تمكنت حكومة الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، من الانتصار على حركة الاحتجاج الواسعة على الإجراءات التقشفية التي اتخذت للرد على الأزمة المالية. وتحققت انتصارات مشابهة من قبل الحكومات على التحركات المطلبية التي جرت في بلدان كاليونان وإيطاليا وبريطانيا وإيرلندا ورومانيا.

لكن ما حدث في نهاية الأسبوع في إسبانيا شكل انعطافة حادة، إن على مستوى الطريقة العنيفة، بل الإرهابية، التي استخدمت في كسر إضراب موظفي المراقبة في المطارات الإسبانبة الذين أضربوا احتجاجاً على خصخصة 49 بالمئة من شركة الملاحة الجوية الإسبانية، وما يطرحه ذلك من أخطار التسريح من الوظائف، ورفعوا مطالب تتعلق بتحسين أجورهم وظروف عملهم، وإن على مستوى انعدام قدرة الموظفين على الدفاع عن مصالحهم.

ونظراً لمشروعية الإضراب من الناحية القانونية، كان من عادة الأنظمة وأرباب العمل، ألا تلجأ إلى قمع التحركات العمالية بشكل مباشر، وأن تستعيض عن ذلك بعناصر يتم دسها لتخريب تلك التحركات أو لافتعال صدامات تخرج التحرك عن طوره المطلبي لتدخله في المجال الأمني، وهو الأمر الذي كان يسمح للسلطات بالتدخل بعد ذلك بحجة حفظ النظام العام. أما العناصر المدسوسة فكانت تعرف باسم كاسري الإضرابات.

والتطور الذي حدث في إسبانيا تميز، في ظل ثقة الحكومة الإشتراكية بنفسها واستخفافها بقدرات موظفي مراقبة حركة الطائرات، بعدم اللجوء إلى كاسري الإضرابات بل بتكليف الجيش بهذه المهمة، في سابقة لم يسبقها غير الرئيس الأميركي رونالد ريغان عندما أقدم في الثمانينات على طرد جميع عمال المطارات المضربين في الولايات المتحدة واستبدلهم بآخرين، من دون أن ينتطح عنزان رداً على هذا الإجراء.

فقد أعلنت حالة الطوارئ في إسبانيا لمدة خمسة عشر يوماً، وكلف الجيش بإدارة عمليات المراقبة بدلاً من الموظفين المضربين، مع تهديدات بملاحقتهم وسجنهم في حال استمرارهم في الإضراب.

وكانت النتيجة أن نسي الموظفون مطالبهم وعادوا إلى مزاولة أعمالهم المعتادة، من دون أن ينتطح فيهم أو من أجلهم عنزان. وبالتأكيد كما في حالة غيرهم من العمال والموظفين الأوروبيين الذين تراجعوا بمطالبهم أمام تصلب الحكومات، وخرجوا بدرس مفاده أن عليهم ألا يعودوا إلى مثلها في المستقبل.

وقد وصفت بعض الصحف إعلان حالة الطوارئ في إسبانيا بأنه أول عمل من هذا النوع يتم اللجوء إليه منذ وفاة "الديكتاتور" فرنكو، عام 1975، ما يعني بشكل أو بآخر أن هذا الإجراء الذي تم اتخاذه في بلد ديموقراطي يحكمه الاشتراكيون هو إجراء ديكتاتوري.

نحن إذاً، في إسبانيا، أمام ديموقراطية تكشف بشكل سافر عن وجهها الديكتاتوري. وقد تردد كلام كثير مؤخراً في فرنسا عن تحول ديموقراطيتها في ظل ساركوزي نحو التطرف اليميني والعنصرية. أي بكلام آخر نحو شيمة هامة من الشيم التي انفلقت عنها النظم الديموقراطية الأوروبية: الفاشية.

وديموقراطية تكشف، بشكل سافر عن وجهها العنصري والفاشي. في وقت تشن فيه بلدان الغرب حروب إبادة فعلية على أكثر من بلد في العالم بدعوى تحريرها من الديكتاتورية والتعصب وإدخالها في رحاب الديموقراطية والحرية...

على كل حال، ليس المقصود هنا الكشف عن كذب تلك الدعاوى التي كشفت عن نفسها بنفسها في الأباطيل التي ركبت ثم انفضحت من أجل تبرير غزو العراق، أو في تلك التي يتواصل تركيبها هنا وهناك من أجل إثارة الفتن في وقت بدأ الغزاة يفقدون فيه قدرتهم على مباشرة الغزو بأنفسهم.

المقصود هو أن تلك الديموقراطيات الديكتاتورية والعنصرية والفاشية قد دخلت في نفق الأزمات المظلم. الانسداد الاقتصادي أوقع جميع الخزائن السيادية في بلدان الغرب في العجز الترليوني. والتقشف هو السبيل الوحيد الذي يطرح نفسه كمخرج من تلك الأزمات. والتقشف يعنى تراجع الأوضاع الاجتماعية... وانفتاح الأبواب أمام ألف شكل وشكل من أشكال الخراب الداخلي.

2010-12-07