ارشيف من :آراء وتحليلات
ساحل العاج: دولة برئيسين!
وقبل ما يزيد قليلاً عن يومين، أعاد التاريخ نفسه في ساحل العاج، على شكل مأساة هزلية بالطبع. فقد ادعى كل من المرشحين المتنافسين، الحسن وترة ولوران غباغبو، الفوز لنفسه، بلا احتكام بالطبع إلى إعادة فرز الأصوات، وفق ما تقتضيه الديموقراطية، بل إلى الشارع المنقسم إلى حد لا يسمح بالحسم لمصلحة هذا أو ذاك، قبل أن يخوض ساحل العاج، فيما يبدو، فترة تطول أو تقصر، من الحرب الأهلية التي لم يخمد لهيبها، في ظل الستاتيكو، طيلة السنوات العشر الماضية.
مع فارق هام جداً: لوران غباغبو الذي تمكن بفضل تأثيرات الرياح الخارجية، الفرنسية تحديداً، من القبض على السلطة، ومن مواصلة القبض عليها، من خلال منع إجراء انتخابات رئاسية من شأنها أن تفضي إلى الإطاحة به، هو من تهب في غير مصلحته الرياح التي كان لها الفضل الكبير في حمله إلى الحكم وفي تمكينه من الاستمرار في الحكم.
فالأميركيون، ومن ورائهم، قسم كبير من المجتمع الدولي والمؤسسات الإفريقية، مجمعون، بعد كل الدعم والمساندة، على ضرورة تنحي غباغبو لمصلحة خصمه.
وفرنسا، المستعمر السابق، والمهيمن سياسياً واقتصاديا، والموجود عسكرياً، خلال الفترة الاستقلالية التي بدأت عام 1960 مع الرئيس فيليكس هوفويت بوانيي، واستمرت مع هنري كونان بيدييه الذي خلف بوانيي عام 1993ـ لتواصل الاستمرار حتى اليوم في ظل روبير غي الذي انقلب على بوانيي عام 1989، ثم في ظل غباغبو الذي انقلب على غي، في العام التالي... فرنسا تلك، لم يكن بوسعها أن تخرج عن شبه الإجماع الدولي... لا لأن ذلك يشكل ضمانة لمصالحها الضخمة في ساحل العاج، بل على الأرجح وفاءً منها في ظل الديغوليين الجدد، لمقتضيات عودتها، خلافاً للديغولية، إلى الحلف الأطلسي والحضن الأميركي.
هل انتهى الصراع الأميركي الفرنسي الشهير داخل إفريقيا؟ يبدو أن الرياح تهب الآن في مصلحة التقاسم، لا بسبب توازن القوى بل بسبب دخول أطراف خارجية على الخط. فالصين باتت لاعباً أساسياً على الساحة الإفريقية. ويبدو أن روسيا أيضاً تطمح إلى احتلال موقع هناك، في سياق مطامحها إلى استعادة موقعها على المسرح الدولي. فروسيا هي التي حالت مباشرة دون تحقق الإجماع في مجلس الأمن على إصدار إعلان مشترك حول الأزمة في ساحل العاج، من الواضح أنه كان سيعكس الرغبة الأميركية في دعم الحسن وترة وخذلان لوران غباغبو.
ولكن هل للتقاسم نصيب على الساحة الداخلية؟ يبدو أن الخوف من الدخول في حرب أهلية من شأنها أن تعيق الاستثمارات الأجنبية في الموارد العاجية (40 بالمئة من الانتاج العالمي في مجال الكاكاو، إضافة إلى مقادير لا يستهان بها من البن والموز والقطن) يدفع باتجاه التقاسم.فمن الآن بدأ يتناهى إلى الأسماع في ساحل العاج المنقسمة بشكل شبه فعلي، عن دولتين، شمالية وجنوبية، كلام عن دولة برئيسين. أحدهما الحسن وترة المدعوم من الغرب، وخصوصاً من قبل الولايات المتحدة، والآخر لوران غباغبو، الذي لا تصعب إعادة بناء الجسور بينه وبين الغرب.
هذا على مستوى التقاسم من فوق. أما على المستوى الشعبي، فإن نصف رئاسة للحسن وترة من شأنها أن ترضي المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان البلاد والمستبعدين عملياً عن مواقع الحكم خلال الفترتين الاستعمارية والاستقلالية، والناقمين تحديداً بسبب إبعاد وترة عن الترشح للرئاسة قبل عشر سنوات.
وإذا ما وجدت منطقة أو حي أو جهة ترفض صفقة التقاسم، فإن المجازر التي اعتاد ساحل العاج على أن يكون مسرحاً لها خلال السنوات الأخيرة تظل كفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها ليستتب الأمر، من الآن وحتى تغير موازين القوى، لمصلحة المنقسمين. ومن ورائهم بالطبع الشركات الأجنبية.
وبانتظار نضوج صفقة التقاسم، يستمر لوران غباغبو في ممارسة صلاحياته الرئاسية من قصره الرئاسي المحصن بقوى الأمن والجيش والمناصرين المسلحين وغير المسلحين. أما الحسن وترة، فقد شرع بممارسة صلاحياته الرئاسية من داخل فندق في أبيدجان يحرسه جنود دوليون ومناصرون مسلحون وغير مسلحين.
لا التقاسم يحل المشكلة لأنه في الداخل والخارج عبارة عن استراحة المحاربين. ولا ينتظر من حرب أهلية أن تحل المشكلة في ظل غياب القوى الرشيدة.
يبقى أن الديموقراطية والانتخابات تأتي، في ساحل العاج وغير ساحل العاج، كل يوم بأعاجيب جديدة. ويبقى أن ساحل العاج (20 مليون نسمة غالبيتهم من المسلمين، وأكثر من نصفهم يعيشون تحت عتبة الفقر)، شأنه شأن الكثير غيره من البلدان ذات الأوضاع المشابهة، سيستمر في التخبط في مشاكله، بانتظار انبثاق القوى الرشيدة.