ارشيف من :أكاديميا

وإذا بليتم ...فاستتروا بالحياد

وإذا بليتم ...فاستتروا بالحياد

حسين حمية** كاتب مستقل

يستغرب (أي يرفض) فريق 14 آذار دعوة السيد حسن نصرالله له، بأن يقف على الحياد في الخلاف الناشب بين المحكمة الدولية والقوى الدولية التي تستخدمها من جهة وحزب الله من جهة أخرى، مع الإشارة إلى أن الدعوة المذكورة هي محصلة منطقية لإدعاءات هذا الفريق، وتجعله أكثر انسجاما مع خطابه الذي يزعم فيه بأن المحكمة مستقلة ومحصنة ضد الاختراقات ولا يعرف شيئا عن تحقيقاتها ولم يتدخل بأعمالها احتراما منه لنزاهتها وثقته بها.

أضف إلى هذا، تفتح دعوة السيد نافذة واسعة أمام هذا الفريق للفرار بجلده من لعبة دولية قذرة أكبر منه بكثير، ولا طاقة له على احتمالها أو الإحاطة بكامل أبعادها ومراميها، كما أنه ليس على مستوى تنفيذ الاشتراطات المطلوبة منه وغير قادر على تحصيل البدل السياسي المطلوب لقاء ما يؤديه من أدوار ووظائف لا تحجز له مقعدا على طاولة المساومات والتسويات.

كما تشكل الدعوة نفسها، فرصة لهذا الفريق لينفض يديه من مهمة كأداء هي تبييض صفحة المحكمة الدولية وتطهيرها من روائح الفضائح والفساد التي تعبق بتحقيقاتها وإجراءاتها وسائر قراراتها، ولن يتسسب نكوصه عن هذه المهمة بأي حرج له تجاه مشغليه الدوليين، لا سيما أن هؤلاء باتوا على القناعة بأن ثوب العدالة الدولية الذي حاكوه لمحكمتهم قد تفتق بانكشاف شهود الزور وتقارير ديتليف ميليس وصفقات غيرهارد ليمان، ولا ترتقه فصاحة التصريحات الصادرة عن فريق الرئيس سعد الحريري وحلفائه.

وإذا كان فريق 14 آذار لا يشاء أن يجعل من دعوة السيد مناسبة له لمراجعة خطورة تورطه في لعبة المحكمة الدولية، حري به، أن يتخذها مبررا لينعطف بسياساته عن نقطة التقاطع مع العدو الإسرائيلي في استخدام هذه اللعبة. فالمحكمة الدولية بعد انكشافها، وضبطها بالجرم المشهود في تلفيق التهم وبيع التحقيق الدولي وتعرية اللبنانيين بجعل خصوصياتهم في متناول أجهزة استخبارية عالمية معادية ومغرضة، لم تعد "مشروعيتها" تغتذي من حملها لواء العدالة الدولية أو من استعداد بعض اللبنانيين للدفاع عنها، إنما من تحولها إلى أمر واقع بات يحميه علنا العدو الإسرائيلي (كما حدث في تهديداته الأخيرة للمعارضة من اتخاذها خطوات معينة بعد صدور القرار الظني) وبتواطؤ من مجلس الأمن الدولي.

ولا يحجب تقاطع أو ملاقاة فريق 14 آذار للعدو في استخدام المحكمة، هو التذرع بعدم قدرة لبنان على مواجهة ما يسمونه المجتمع الدولي (الاسم الملطف لداعمي "إسرائيل" الدوليين)، لأن مواجهته التي يلوح بها، تقوم على أمرين: الأول هو التهديد بإطلاق يد الإسرائيلي في لبنان، والثاني ما يوفره الفريق اللبناني من تغطية سياسية وإعلامية تظهر أي عدوان إسرائيلي على أنه في مهمة أممية لتنفيذ القانون الدولي وحماية العدالة الدولية.

وهذا المجتمع الدولي لم يعد يخيف أحدا، لا في إفريقيا (لوران غباغبو مثالا) ولا في أميركا الجنوبية ولا في آسيا، وهو غارق حتى أذنيه في وحول أفغانستان، ومنهمك بتدبير خطط نهب جديدة لثروات الأمم المستضعفة لتصحيح أوضاعه المالية الآخذة بالتفاقم، وهو نفسه الذي كان قد حارب في عدوان تموز 2006 وهزم، وهو الذي خذل من حرّضهم على الاعتداء على سلاح المقاومة في 5 أيار 2008، وهو من مرّغت أنفه في التراب في الحرب الجورجية وراح يتوسل إلى الرئيس فلاديمير بوتين للعفو عن دميته ميخائيل ساكاشفيلي، وهو من يلوذ بالصين لاحتواء كيم جونغ إيل في كوريا الشمالية، وهو من تراجع عن عزل سورية وتدميرها، وهو من بدأ ينزل من أعلى شجرة الشروط التي حاول فرضها على طهران تمهيدا للتسليم بحق إيران في حيازة التكنولوجيا النووية.

لم تكن دعوة السيد إلى تحييد فريق 14 آذار نفسه في المواجهة مع المحكمة الدولية، ليتخلى هذا الفريق عن دماء ضحاياه التي أريقت من أجل تعظيم لعبة الأمم وتمكينها من الإمساك برقبة لبنان والتلاعب مصيره، فالحريص على الدم كما المتهم زورا وظلما هو معني بذات القدر (إذا لم يكن أكثر)، بملاحقة أعمال التحقيق بعدما تكشفت الانحرافات الظاهرة به من تزوير وفساد واختراقات وانحياز، وهذه الأمور مدعاة له لإجراء مراجعة شاملة لمواقفه من هذه المحكمة، والتي اتخذها تحت ضغط أحداث وحملات إعلامية استدرجته إلى المطالبة بها وتأييدها.

وأبعد من هذا، ما يطلبه السيد في دعوته لفريق 14 آذار، ليس الحياد الإيجابي الذي يوجب عليه القيام ببعض المبادرات والمساعي، إنما الحياد السلبي، فهذا الفريق ليس ملزما بحماية شهود الزور، أو أن يضطر إلى تعطيل مؤسسات الدولة والإضرار بمصالح الناس لتحقيق هذه الحماية، كما أن حرصه على الدم لا يفرض عليه تشجيع المحكمة على ارتكاب المزيد من الفضائح المشينة والمخجلة التي لا تليق بأدوات العدالة، وإذا أراد السكوت عن مثل هذه القبائح، لا يكون بتهوينه من ارتكابات المحكمة الموثقة والمثبتة بالأدلة الصلبة والدامغة.

حتى الهوتو والتوتسي لم يسلموا بسهولة (كما يتصور البعض) ما دار بينهم للمحكمة الدولية الخاصة بمذابحهم، والوقت الذي استغرقوه في مناقشة نظامها وولايتها يطول بكثير عن الوقت الذي أنفقه فؤاد السنيورة لأجل المحكمة الخاصة بالرئيس رفيق الحريري، فالتوتسي يأخذون عليها أنها لم تشمل المذابح التي دبرها الفرنسيون، وكلاهما شكك مرار بإجراءاتها ومحاكماتها، كما أن الحكومة الكمبودية طلبت وعلى مسمع من بان كي مون من المحكمة الخاصة ببلدها وقف المحاكمات لما تشكله من خطر على الاستقرار.

بأي حال، استجابة الفريق الآخر لدعوة السيد أو رفضها لن تغير من المصير الذي ينتظر الأهداف التي يتوخاها أعداء المقاومة من وجود المحكمة الدولية، وهي ستذهب أدراج الرياح، لكن عليها يتوقف الحرص على الدم، بين حفظه وإهداره.

2010-12-21