ارشيف من :خاص

عندما تهرب تل أبيب من مواجهة "الكورنيت": كذب وتحوير في الحقائق

عندما تهرب تل أبيب من مواجهة "الكورنيت": كذب وتحوير في الحقائق
ذهول يخيم على إعلام العدو ومعلقون يندبون الواقع المستجد وآخرون.. يهددون!
حسان إبراهيم
شكل إطلاق صاروخ "كورنيت" فلسطيني من قطاع غزة، واصابة دبابة إسرائيلية جرائه كانت قد توغلت إلى داخل القطاع، ارباكا اسرائيليا بيّنا.
فبعد صمت امتد اسبوعين، يشير إلى مدى الصدمة التي المت بالاسرائيلي، تحدث رئيس اركان جيش الاحتلال، غابي اشكنازي، عن الحادثة، مشيرا إلى أنها تشكل تطورا جديدا لم تشهده الساحة الفلسطينية سابقا.. وجرّت السبحة في أعقاب اعتراف اشكنازي بـ"الكورنيت"، إذ تحول الحادث إلى حدث إسرائيلي اول، بين معلق يندب الواقع المستجد واخر يتوعد ويهدد، والبقية يتفرجون مذهولين.
قيل الكثير في تداعيات "الكورنيت" وآثاره السلبية على الكيان الإسرائيلي وعلى خيارات القادة الإسرائيليين، إذ انه يقلص من مروحة الخيارات المتاحة امامهم، وتحديدا العسكرية منها، حيال قطاع غزة. لكن ما لم يقال هو التعليق على ما برز في المقاربة الإسرائيلية الأخيرة، والمحاولة اليائسة لاظهار القدرة الإسرائيلية في معرض الضعف، وتحديدا تجاه المستوطنين الإسرائيليين، الذين امتلكتهم الخشية والقلق جراء التطور الميداني الفلسطيني الجديد، وما بات لدى فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، من قدرات لم تكن موجودة لديهم في السابق.
فجأة، وبعد أيام من الندب والبحث في التداعيات السلبية وآثارها، ومحاولة استشراف المستقبل وميزان القدرة لدى الطرفين، والتشديد على أن وجود "الكورنيت" في القطاع، اضافة إلى استخدامه، يعنيان أن المبادرة العسكرية لم تعد امام تل أبيب متيسرة قياسا بالسابق، تحدث عدد من المعلقين الإسرائيليين عن اوجه أخرى، لحرف اهتمام الجمهور الإسرائيلي عن الحدث نفسه، في اعادة واجترار لما جرى الاعتياد على ترداده اسرائيليا، حيال أي فشل أو اخفاق أو انكسار إسرائيلي امام الفلسطينيين... والمقاربة الجديدة بعد الاحباط المعلن، تركزت على اظهار القدرة الإسرائيلية وان الفلسطينيين مردوعون، والتشديد على أهمية ما يسمونه ردع الفصائل المقاومة، والتشديد أيضا على انه ردع ما زال قائما، رغم كل ما يحدث ميدانيا من توتر قد ينبيء بتدهور نحو مواجهة شاملة، هي بالطبع لا مرفوضة اسرائيليا في هذه المرحلة، وتحديدا بعد ظهور صاروخ الكورنيت في القطاع.
 غزة قبل الكورنيت.. ليست كما بعده
وكعينة على المقاربة الجديدة، تحدث المراسل العسكري للقناة الاولى الإسرائيلية، "يؤاف ليمور"، الذي يستقي معلوماته وتقاريره من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها، التي تحدد له ولغيره ما يقوله وما يمتنع عن قوله.. يقول "ليمور" ردا على تداعيات وجود "الكورنيت" في ايدي الفلسطينيين: "الارقام لا تكذب، فالعام الذي سبق عملية الرصاص المسكوب (العدوان الاخير على قطاع غزة)، اطلق من القطاع 4000 صاروخ باتجاه الاراضي الإسرائيلية، لكن هذه العام اطلق فقط 180 صاروخا، وهذا انجاز اساسي للعملية نفسها، ويعني أن إسرائيل نجحت في خلق ردع جوهري مقابل حماس في غزة.. أيضا" يشدد المراسل، على أن "قادة حماس يندمون على اللحظة التي يعتبرونها خطأ استراتيجي من قبلهم، الذي قاد إسرائيل للعمل العسكري ضد القطاع"  نهاية عام 2008.
العينة المشار اليها هنا، هي نفسها يرددها مراسلون ومعلقون عسكريون اسرائيليون، من على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد الإسرائيلية.. وكما يبدو فان تعليمات الرقيب العسكري واضحة: "يجب التركيز على أن حماس مرتدعة جراء جبروت الجيش الإسرائيلي، والتخفيف من الحديث عن الكورنيت وتداعياته".
أنها مقاربة إسرائيلية نموذجية لحالات مشابهة شهدتها ساحة المواجهة سابقا. الا أن الرواية الإسرائيلية، أي رواية الرقيب العسكري، تستغفل الإسرائيليين انفسهم.. فماذا عن الاسئلة الآتية:
متى كانت المقاومة، أي مقاومة، سواء الفلسطينية أو غيرها، تريد أو ترغب في مواجهة كبرى مع المحتل وجها لوجه أو ندا لند. فأصل خيار المقاومة قائم على مواجهة المحتل بوسائل مختلفة عن طرق واساليب الجيوش النظامية، والتاريخ يشهد على أن كل الحروب التي خاضتها فصائل المقاومة، في لبنان أو في فلسطين، أو في أي مكان آخر في العالم، جاءت نتيجة مبادرة ابتدائية من المحتل نفسه.. والحديث الإسرائيلي عن أن حماس أو حزب الله مرتدعان عن التسبب بحرب وبمواجهة شاملة مع الإسرائيلي، ورد ذلك إلى عامل الردع وكنتيجة متأتية من إدراكهم لحروب الماضي وما تركته من نتائج لدى قادة المقاومة، ليس الا إلباس واقع قائم تريده المقاومة وتسعى اليه، بلباس لا يرتبط به.. فالامتناع عن التسبب بحرب واسعة، هي مطلب مقاوم في الدرجة الاولى، ولا يمكن رده لعامل الردع.
لكن ماذا عن قلب اتجاه السؤال الإسرائيلي؟ ما السبب الذي يمنع تل أبيب عن شن عدوان واسع على قطاع غزة؟ كيف لا يمكن أن يرد ذلك إلى عامل الردع، التي تشكله فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الإسرائيليين انفسهم. إذا كان قطاع غزة مردوعا من قبل الإسرائيلي، والاسرائيليون غير مردعين عنه ولا يخشونه، واذا كانت الدافعية والحافزية الإسرائيلية مرتفعة جدا لشن اعتداء واسع، والمصلحة الإسرائيلية واضحة جدا باجتثات حماس والفصائل الفلسطينية الاخرى عن القطاع، فما الذي يحول دون قيام إسرائيل بذلك، طالما أن الفلسطينيين مردوعون.. الجواب لا يبعد ولا يمكن أن يكون الا احد اتجاهين، او كلاهما معا: القدرات الموجودة في القطاع  تردع الإسرائيلي عن القيام بما يريد ويرغب؛ أو أن القدرة الإسرائيلية الفعلية عاجزة عن تحقيق اهداف الاعتداء.
في المقاربة الإسرائيلية الجديدة، عيوب مفضوحة وواضحة، قد تصلح لتعمية جمهور الإسرائيليين، الذين يرغبون بداهة في الابتعاد عن اليأس والقلق والخشية، باتجاه كل ما يقال لهم عن قدرات مزعومة وردع موهوم لدى الطرف الاخر، حتى مع اليقين الداخلي بان ما يقال غير صحيح.. السؤال الموجه إلى المقاربة الإسرائيلية الجديدة هو الآتي: كيف يمكن أن نحكم على واقع سابق، على فرض صحته، باتجاه واقع لاحق مع وجود متغيرات داخل الواقع الجديد؟ وبعبارات أخرى، كيف يمكن أن نتناول الواقع الذي كان قبل "الكورنيت"، على فرض صحته، والقول انه يسري على المرحلة التي تعقب وجوده في ايدي المقاومين؟ كيف يمكن أن نقول أن الفلسطيني مردوع، قياسا بالماضي، مع العلم أن قدرة الإسرائيلي على المناورة الميدانية باتت محدودة قياسا بالماضي ايضا؟
اغفلت المقاربة الإسرائيلية الجديدة حقائق، قد تكون غير واضحة للجمور الإسرائيلي.. إذا كانت حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية مردوعين، فكيف تفسر رواية تل أبيب امتناع الجيش الإسرائيلي عن التوغل إلى القطاع، في أعقاب اطلاق صاروخ "الكورنيت" الاخير على دبابة اجتازت السياج الحدودي إلى ما يسميه الجيش الإسرائيلي بالحزام الامني (300 متر داخل القطاع)، كيف يكون الرادع منكفئا عن القيام بما كان يقوم به، إذ أن التوغل البري كان اجراءا اعتياديا في السابق، بينما هو الآن بات امرا غير ممكن ودونه مخاطر جدية.
الكذب الإسرائيلي نموذج قائم ويجري تفعيله لدى الازمات ولدى حالات الانكسار، باتجاه التعمية عن الانكسار نفسه وعن تداعياته ومحاولة الحد من تأثيره، باتجاه الهاء الجمهور ودفعه نحو اتجاهات تفكير واهتمام أخرى. انه نموذج سلوكي قد يكون انساني، مع الاعتذار من الانسانية لقياس إسرائيل عليها، وعادة يجري اللجوء اليه في الازمات.. واذا كانت هذه المرحلة قد باتت مرحلة الازمات الإسرائيلية بامتياز، نتيجة لرفعة ومكانة وقدرة المقاومين، فلا عجب أن يكون الكذب الإسرائيلي قائما، ومتواصلا.
2010-12-27