ارشيف من :آراء وتحليلات

العالم العربي... بين الإنفصال "الأصغر" والإنفصال الأكبر" !

العالم العربي... بين الإنفصال "الأصغر" والإنفصال الأكبر" !
عقيل الشيخ حسين
عرب التوكل على أميركا والأسرة الدولية والاكتفاء بفتات الحلول، ينامون منذ سنوات على حلم الأمل بحل الدولتين في فلسطين. وها هم يستفيقون اليوم على حل الدولتين ولكن في السودان: دولة استهدفتها مشاريع الزعزعة الغربية منذ ما قبل قيامها كدولة "مستقلة" أي منسلخة عن محيطها التاريخي، ودولة يصرح مسؤولوها المستقبليون، بين تصريحات استفزازية أخرى، بعدم وجود مشكلة لهم مع "إسرائيل".

دولتان في السودان، وكل المؤشرات تذهب باتجاه إمكانية كونهما فاتحة لانسلاخ دول أخرى في دارفور أو غيرها من نواحي القارة السودانية، في وقت تشرئب فيه مشاريع الانفصالات والكونفدراليات في أكثر من بلد في مشرق العالم العربي ومغربه، ضمن إطار عملية التفكيك التي ينفذها الغرب بسهولة يتدارك معها "تقصيره" يوم اكتفى، في اتفاقيات سايكس ـ بيكو، بخلق عشرات الدويلات العربية، في حين كان يسمح له النوم العربي بدفع عملية التفكيك نحو خلق المئات والألوف من هذه الكيانات.

ما يؤكد هذا الميل إلى التشاؤم في التشخيص هو الصمت العربي الرسمي إزاء ما يجري في السودان وغير السودان، وهو الصمت الذي ينم، في ما يتجاوز حدود الحياد، عن تواطؤ مكشوف لا يسع الحكام غير سلوك سبيله وهم الذين يستمدون عناصر البقاء في الحكم من جهوزيتهم التامة لمسايرة الاستراتيجيات الغربية والإسرائيلية.

منهم من يزعم، في ظل تحول مناطق حكمهم إلى مجرد أراض حاضنة للقواعد العسكرية الأميركية، ولأوكار الأنشطة الصهيونية العلنية والسرية، وبعد أن سقطت جميع أوراق التين التي تخفي عورة تحولهم إلى وكلاء في خدمة الراعي الأميركي الصهيوني، أن وجود هذه القواعد شبيه بوجود شركات التأمين وغيرها من الشركات الأجنبية التي تعمل بتقنييها وخبراتها، لقاء أجور معلومة، في خدمة رفعة وارتقاء ما يسمونه بأوطانهم ومجالس تعاونهم.

رفعة وارتقاء يتجسدان في استخدام قسم من خسيس الأموال التي يجنونها من الذهب الأسود الذي تعود ملكيته الشرعية إلى كامل الأمة، وإلى المعوزين خارج الأمة، في تشييد الصروح النفاجية الباهرة والخالية إلا من معاني الإحساس العميق بالدونية، أو في أنواع الملاهي الرياضية والفنية، أو في البذخ الأبله، تحت أسماء الكرم اليعربي والسخاء الأعرابي في مواخير المشرقين والمغربين، وسط سلاسل من الفضائح التي يندى لها جبين من يحتفظ ولو بذرة من بقايا القيم العربية المرشحة لدخول القواميس تحت أسماء القيم البائدة.

وقسم آخر لإبرام صفقات التسلح الأسطورية (منها ما هو حقيقي ومنها ما هو وهمي وستار للسرقة الموصوفة)، لا بهدف استخدام السلاح في الدفاع عن قضايا الأمة، بل بهدف استخدامه في ضرب هذه القضايا.

وكنز القسم المتبقي، وهو أكبر الأقسام، ليكون غرضاً للانتهاب من قبل مقاولي البورصات الغربية، أو ليستخدم بالأريحية المعروفة في الإسهام بإنقاذ بلدان الغرب من أزماتها المالية.

والأنكى في كل ذلك هو الاستهتار المطلق الذي يصل إلى حد الاحتقار لآماني وتطلعات الشعوب العربية في وقت تعاني فيه هذه الشعوب المبتلاة بهموم المعيشة المتراكمة من العجز عن فرز قيادات أو تنظيمات أو معارضات من العيار اللازم لحمل تلك التطلعات والأماني ووضعها في مواضعها اللائقة. حيث إن أكثر هذه القيادات والمعارضات تعصف بها رياح التدجين والإغراءات من قبل السلطات، إن نجت من هراوة القمع الدموي وغير الدموي.

وإذا كانت الشعوب قد بدأت بالخروج على الحكام بالأشكال العفوية التي تشهدهما اليوم كل من الساحتين التونسية والجزائرية، فإن ما يحز في النفس، بعد التوترات التي فجرتها في بعض الساحات الشعبية أهواء المباريات الرياضية، وبعد أن تحول الزمن الشعبي العربي إلى قربان يسفك دمه على مذبح الرديء من المسلسلات التلفزيونية وشبكات اللهو العنكبوتية، هو كون الصاعق المفجر لهذه الانتفاضات هو الشأن المرتبط بالمعيشة والاستهلاك، في وقت ينبغي فيه للشعوب أن تكون أكثر تحسساً للشأن الفلسطيني وغيره من الشؤون السياسية، العربية والإسلامية، المشابهة، وأكثر جهوزية لاحتضان القضايا الكبرى.

انفصال مفتوح على انفصالات في السودان، وغليان انفصالي في بلدان عربية أخرى. وفحيح لفتن دينية وطائفية وعرقية. وكل ذلك يجاهر المسؤولون الصهاينة بأنه من فعل أصابعهم وتعبير عن نجاح استراتيجيتهم وفعاليتها في انتهاك السيادات العربية، وفي الارتقاء بعمليات التفكيك باتجاه التذويب.

وكل ذلك يشكل موضوعاً لاهتمام ما لا يحصى من مبعوثين غربيين لا يكلون ولا يملون من التجوال على عواصم العرب لمراقبة وتوجيه السلوكات عن كثب، وأيضا لما لا يحصى من جولات يقوم بها المسؤولون العرب على عواصم الغرب بهدف التزود بالإرشادات والاطمئنان الى ثبات المواقع والاستمرار في أداء الخدمات.

واللافت، حتى في حال عدم انبثاق الحراك الشعبي المطلوب لتصحيح مسار التاريخ العربي، أن كل ما يجري يظل قعقعة بلا طحين. فجنوب السودان لن يتجاوز حبوره بالانفصال حدود الابتهاج بحدث مرشح لأن يدخله ـ بدلاً من النعيم الموعود ـ في أتون جديد من الصراعات، وجون كيري لن يعوضه جنوب السودان أو غيره من الإثارات الهامشية المماثلة عن خسائره المركزية الفادحة في أفغانستان والعراق وبقية الجبهات.

وإذا كان من الصحيح أن انفصال بلد أو مقاطعة عن انتمائه العربي أمر مفجع، فإن الفجيعة فيه تظل من النوع " الأصغر" بالقياس إلى النوع الأكبر من الفجيعة المتمثلة بانفصال معظم حكام العرب عن الانتماء لعروبتهم بالمعنى الحقيقي للعروبة.
2011-01-10