ارشيف من :أخبار لبنانية

الموساد في عهد باردو

الموساد في عهد باردو
صالح النعامي(*)
لم يكن القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتعيين تامير باردو رئيسا لجهاز الموساد مفاجئًا في ظل الظروف الموضوعية التي أحاطت بالتنافس الذي كان محتدمًا على المنصب بين عدد من جنرالات الجيش ورجال الاستخبارات.
فقد كان باردو الوحيد من بين المتنافسين الذي نشأ داخل الموساد وتدرج في تبوّؤ المناصب القيادية فيه ابتداءً من عمله ضابطًا صغيرًا في شعبة العمليات في "الموساد"، حتى أصبح قائدًا لوحدة "نبيعوت" المسؤولة عن عمليات التسلل إلى أرض "العدو"، ثم مسؤولاً عن التطوير التكنولوجي، ومرورًا بتعيينه رئيسًا لشعبة العمليات، وانتهاءً بتبوّؤ منصب نائب رئيس الجهاز.
لم يكن بوسع نتنياهو تعيين شخص آخر غير باردو في ظل تهديد عدد من قادة الشعب داخل الموساد بالاستقالة في حال تعيين جنرال متقاعد من الجيش على رأسه، وهو ما كان سيؤثر سلبًا على أداء الجهاز في هذه الفترة التي يعتبرها صناع القرار في الكيان الصهيوني حساسة بشكل خاص وتحتاج إلى حالة جهوزية عالية في هذا الجهاز.
رؤساء الشعب داخل الجهاز الذين عارضوا تعيين جنرال من خارج الجهاز برروا ذلك بالقول إن رئيسا جديدا للجهاز من الخارج يحتاج إلى عدة سنين لكي يتعلم طرق وأنماط عمل الجهاز، وهذا ما سيدخل الجهاز في حالة جمود.
في الوقت نفسه فإن هناك في إسرائيل من يرى أنه إلى جانب الاعتبارات الموضوعية الآنفة الذكر، هناك اعتبارات شخصية لم يتمكن نتنياهو من التحرر منها، فباردو قبل انضمامه للموساد كان ضابط الاتصال في وحدة "سييرت متكال"، وهي أهم وحدة نخبة في الجيش الإسرائيلي وكان يقودها يوني شقيق نتنياهو الذي قاد عملية "عنتيبي" عام 1976 التي تم فيها تحرير رهائن إسرائيليين كانوا على متن طائرة اختطفها مقاومون فلسطينيون، وكان أهم الانطباعات التي تولدت عن العملية هي الجهود الكبيرة التي بذلها باردو من أجل إنقاذ حياة يوني، وهو ما جعل علاقاته وثيقة جدًّا بعائلة نتنياهو.
إرث دغان
إحدى التحديات الكبيرة التي تواجه باردو في منصبه الجديد هي مواصلة ما يعتبر في إسرائيل "النجاحات" التي حققها الموساد في عهد سلفه مئير دغان في المنصب.
ففي إسرائيل يشيرون بشكل خاص إلى حقيقة أن دغان هو الذي أعاد للموساد هيبته وحسن من صورته أمام الرأي العام الإسرائيلي الداخلي وأمام صناع القرار الصهاينة من خلال إحداث طفرة في القدرات العملياتية للجهاز عبر استئناف تنفيذ عمليات التصفية ضد قادة المقاومة الفلسطينية وحزب الله، التي وصلت الذروة في اغتيال عماد مغنية مسؤول الجهاز العسكري لحزب الله، علاوة على أن الموساد هو المسؤول عن توفير المعلومات الاستخبارية التي سمحت لسلاح الطيران الإسرائيلي بقصف منشأة بحثية بشمال شرق سوريا، ادعت إسرائيل أنها منشأة نووية.
في الوقت نفسه فإن الكثيرين في إسرائيل ينسبون إلى دغان "النجاحات" في التشويش على تطوير البرنامج النووي الإيراني من خلال النجاح في تجنيد عملاء إيرانيين قاموا بتزويد الدولة الإيرانية بوسائل تقنية فاسدة أسهمت في عدم تطوير البرنامج النووي، وقد قامت السلطات الإيرانية بالفعل بإعدام أحد هؤلاء العملاء.
كما تنسب للموساد المسؤولية عن تعطيل أجهزة الحاسوب المرتبطة بأجهزة الطرد المركزي المسؤولة عن عمليات تخصيب اليورانيوم بواسطة فيروسات، علاوة على المسؤولية عن تنفيذ تفجيرات غامضة في أرجاء مختلفة من إيران وعمليات تصفية طالت علماء إيرانيين على علاقة بمشروع طهران النووي.
وينسب لدغان نجاحه في إرساء مبادئ عمل جديدة داخل الموساد وقيامه بعملية إصلاح وإعادة هيكلة شاملة، إلى جانب توسعه في توظيف التقنيات المتقدمة في عمليات الجهاز.
وأسهم كل ما تقدم في تعزيز مكانة الموساد مقابل الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية الأخرى، وهي جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، وشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان".
أولويات باردو
على الرغم من "النجاحات" المنسوبة لدغان، فإنه يؤخذ عليه الاستلاب المبالغ فيه للجانب العملياتي، وتحديدًا في مجال تنفيذ عمليات التصفية والاغتيال، مع العلم بأن المهمة الرئيسة للموساد هي جمع المعلومات الاستخبارية بهدف تمكين صناع القرار الصهاينة من اتخاذ قرارات حاسمة بناءً على معطيات دقيقة، وليس تنفيذ عمليات تصفية.
ويقول منتقدو دغان إن تحمسه لتنفيذ عمليات التصفية يتناقض مع حقيقة أن المبنى التنظيمي للموساد يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الجهاز يخصص موارد محدودة نسبيًّا لتنفيذ عمليات التصفية، فوحدة "كيدون" التابعة لشعبة العمليات والمسؤولة عن تنفيذ عمليات التصفية هي وحدة صغيرة نسبيًّا، ولا يمكن مقارنتها مع الوحدات المسؤولة عن التصفية في الجيش والأجهزة الاستخبارية الأخرى، مثل وحدات "سييرت متكال"، ووحدة المستعربين "دوفيديفان"، و"يمام" وغيرها.
لكن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية تصفية القيادي في حركة "حماس" محمود المبحوح في دبي في فبراير/شباط من العام الجاري. فعلى الرغم من نجاح عملية التصفية، فإنها أحدثت أضرارا سياسية كبيرة لإسرائيل وأسهمت في تدهور علاقاتها مع الكثير من الدول، والأهم من كل ذلك أنها كشفت عن مواطن خلل عملياتي كبيرة لا تتناسب مطلقا مع السمعة والصيت الذي اكتسبه الموساد، عندما تبين بالدليل القاطع أن الموساد استخدم جوازات سفر لإسرائيليين لا علاقة لهم بالموساد، وهو ما أثار نقمة كبيرة داخل الكثير من الأوساط الإسرائيلية.
وسيكون على رأس أولويات باردو استخلاص العبر المطلوبة من تصفية المبحوح، بالإضافة إلى إعادة تقييم مكانة عمليات التصفية ضمن المهام التي يقوم بها الجهاز. وهذا لا يعني أن الموساد تحت قيادة باردو لن ينفذ عمليات تصفية، فحين كان أحد عناصر شعبة العمليات في الموساد وحين كان قائدا للشعبة، شارك باردو شخصيا في تنفيذ عدد كبير من عمليات التصفية، لكن كل المؤشرات تؤكد أن باردو سيعمل على تقنين التوجه لتنفيذ عمليات التصفية بحيث لا تؤدي إلى تدهور علاقات إسرائيل مع دول العالم، ولا سيما الدول الصديقة، وفي الوقت نفسه على أن تنسجم هذه العمليات مع سلم أولويات الموساد كما حددته له الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
الملف الإيراني
منذ عام 2006 قامت الحكومة الإسرائيلية بتكليف الموساد بالمسؤولية المطلقة عن إحباط البرنامج النووي الإيراني، لذا فإنه سيكون على رأس أولويات باردو مواصلة "النجاحات" التي حققها دغان في هذا المجال، ولعله من قبيل المصادفة ذات المغزى أنه قبل إعلان نتنياهو بست ساعات عن تعيين باردو تم اغتيال عالم نووي إيراني وجرح آخر بجروح بالغة في تفجيرين غامضين في طهران، وهو ما اعتبر الكثير من المعلقين الصهاينة أنه يمثل تذكيرًا لباردو بأن عليه السعي لـ"إنجازات" في هذا الجانب.
لكن مهمة رئيس الموساد لا تقتصر على الجانب الاستخباري والعملياتي فقط، فالتقديرات والتوصيات التي يقدمها للحكومة بشأن الملف الإيراني ينظر إليها باحترام كبير، ويكتسب هذا الأمر أهمية كبيرة في ظل الجدل الذي يحتدم في إسرائيل بين الفينة والأخرى بشأن نمط السلوك الإسرائيلي تجاه البرنامج النووي الإيراني، حيث إن هناك من يطالب بالاكتفاء بعمليات الإحباط السرية التي يتولاها الموساد، وهناك من يطالب بضرورة القيام بعمل عسكري كبير لتدمير المنشآت النووية الإيرانية.
وقد عرف عن دغان أنه من دعاة التركيز على العمل الاستخباري السري في هذا المجال، أما باردو فيقول المقربون منه إنه يحمل موقفًا أكثر تطرفًا من دغان في هذا الجانب ولا يستبعد القيام بعمل عسكري، لكن لا أحد يعرف ما سيكون عليه رأي باردو عندما يتولى المنصب.
معضلة استقرار دول الاعتدال
وفي إسرائيل يرون أن هناك تحديا كبيرا يقف أمام رئيس الموساد ويتعلق بمتابعة ومراقبة التطورات عن كثب في الدول العربية المحسوبة على محور الاعتدال التي تخشى المحافل الصهيونية تداعيات عدم استقرارها، وعلى رأسها مصر.
فالموساد مكلف بتزويد صناع القرار في تل أبيب بصورة دقيقة عن مستقبل نظام الحكم، ولا سيما في ظل ما يعتبر في تل أبيب "مؤشرات" على قصر الوقت المتبقي لمبارك في الحكم.
ويشغل الاهتمام بمستقبل الحكم في مصر اهتمام صناع القرار الصهاينة لأن البيئة الإستراتيجية لإسرائيل ستتغير رأسًا على عقب في حال حل نظام آخر غير النظام الحالي في القاهرة. فقد وصف وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر الرئيس حسني مبارك بأنه "كنز لإسرائيل"، وفي حال تبني أي نظام جديد في مصر سياسة أخرى في مواجهة إسرائيل فإن هذا سيترك تأثيرًا عميقًا جدًّا على أولويات إسرائيل، وسيجبر صناع القرار في تل أبيب على إعادة بلورة الأولويات من جديد، ومعها رسم سياسة جديدة لسلم الأفضليات العام للكيان.
في مواجهة حركات الجهاد العالمي
ويعتبر "الموساد" الجهاز الاستخباري الإسرائيلي الذي ينفرد بمعالجة ملف حركات الجهاد العالمي وتهديداتها للكيان الصهيوني، ومهمته الرئيسة في هذا الجانب تتمثل في توفير معلومات حول نوايا الحركات الجهادية وإحباط مخططاتها للمسّ بإسرائيل.
وعلى الرغم من أن عدد العمليات التي نفذتها هذه الحركات ضد أهداف إسرائيلية محدود جدًّا، فإن إسرائيل قلقة جدا من مستقبل الأوضاع في أفغانستان وباكستان والعراق، حيث تخشى تل أبيب من إمكانية نجاح حركة "طالبان" في النهاية في إجبار القوات الأميركية على الانسحاب من أفغانستان مع كل ما يعنيه ذلك من منح طفرة هائلة للعمل الجهادي وتحويل هذا البلد إلى نقطة انطلاق لتنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية ويهودية.
ولا خلاف في أن إحدى المعضلات التي تواجه رئيس الموساد هي استقرار نظام الحكم في باكستان، حيث لا يخفي الصهاينة خوفهم من إمكانية أن يحرص البعض في باكستان على تزويد أفراد الحركات الجهادية بـ"القنابل القذرة" التي يضم تركيبها مواد مشعة، ولا يستبعد البعض في إسرائيل حصول هذه الحركات على سلاح نووي تكتيكي، تبين أن باكستان تسعى لإنتاجه.
إعادة تقييم آليات تجنيد العملاء
وهناك معضلة أخرى تواجه باردو، وتتمثل في الضربة القاصمة التي تم توجيهها لشبكات التجسس التي زرعها الموساد في لبنان، حيث تهاوت هذه الشبكات الواحدة تلو الأخرى، وهو ما مثل ضربة قوية ومدوية لسمعة الموساد، مع العلم بأن بعض هذه الخلايا قد تم تجنيدها من قبل وحدة تجنيد العملاء في "أمان" المعروفة بوحدة "504".
ويقول منتقدو دغان إن أحد الأسباب التي أسهمت في الكشف عن هذه الخلايا هو قيام دغان بتعديل آليات تجنيد العملاء، حيث إنه حتى ترؤس دغان للجهاز كان يتم الحرص على اتباع عمليات التجنيد الطويلة التي تتم بالتدرج، أما دغان فقد قام بتغيير الطريقة وأمر باتباع طرق التجنيد السريع المتبعة في جهاز "الشاباك"، وذلك بناء على نصيحة رئيس "الشاباك" الحالي يوفال ديسكين عندما كان يعمل مستشارًا لدغان بعيد توليه المنصب، وهناك من يقول إن بعض قادة الشعب في الموساد اعترضوا على التغييرات التي أدخلها، بل منهم من قدم استقالته بسبب ذلك.
إن الهالة التي ينظر بها الكثيرون إلى جهاز الموساد نتاج الطابع المهني المؤسسي في إسرائيل، حيث يتم تخصيص الموارد اللازمة لتنفيذ الأهداف التي يقررها المستوى السياسي، علاوة على أن الموساد يعمل ويتحرك في فضاء يخلو من أي فعل عربي مقابل، فأجهزة المخابرات لدينا مخصصة لقمع الشعوب وكسر إرادتها وليس مواجهة الأعداء وإحباط مخططاتهم.
(*) المصدر/ موقع الجزيرة
2011-01-10