ارشيف من :أخبار لبنانية
مصلحة "إسرائيل" من انفصال جنوب السودان
عدنان ابو عامر(*)
بينما يترقب السودانيون والعرب والعالم بأسره ذلك اليوم الذي يعلن فيه قيام دولة جديدة في خاصرة السودان الجنوبية، وكل منهم تنتابه مشاعر ترقب وحذر وفقاً لتوجهاته السياسية وأصوله القومية وولاءاته الفكرية والأيدولوجية، تبدو إسرائيل من بعيد تغمرها سعادة لا توصف وهي تشهد ميلاد دولة أعدت لها العدة والدعم منذ سنوات بعيدة.
الدور الاستخباري
يبدو من السطحية بمكان الحديث عن دور إسرائيلي في جنوب السودان -سياسياً كان أو اقتصادياً- دون قراءة فاحصة للأداء الأمني والعمل الاستخباري لأجهزة المخابرات الإسرائيلية في ذلك البلد العربي.
مع العلم أن هذا التدخل الإسرائيلي لم يأت عفوياً، أو حباً في سواد عيون الجنوبيين، بل إن الإستراتيجية التي قامت عليها إسرائيل منذ نشأتها الأولى تحددت بموجب ما ذكره مؤسسها ديفد بن غوريون حين قال "نحن شعب صغير, وإمكانياتنا ومواردنا محدودة, ولا بد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية, من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها، خاصة العلاقات القائمة بين الجماعات العرقية والأقليات الطائفية, بحيث نسهم في تعظيمها, لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها".
وقد أطلق على هذه الإستراتيجية "شد الأطراف"، وتم تجاوزها في سنوات لاحقة ليطلق عليها شعار "البتر وليس الشد", بحيث تبدو التوجهات الإسرائيلية ماضية في تلبية طموحات الجماعات العرقية في الانفصال, وتشكيل الكيانات المستقلة عن الدول العربية.
وإن كان لا بد من تأصيل تاريخي غير مغرق في التفاصيل، فإن الاتصالات الإسرائيلية مع الجنوبيين بدأت من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا، بحيث لعبت شركاتها "كواجهة" استخدمت لتلك الاتصالات، ووقع الاختيار على الدينكا أقوى قبائل المنطقة لتكون الباب الذي تتسلل منه إسرائيل إلى الجنوب، وتتغلغل في شرايينه، حيث مرت العلاقات الإسرائيلية الجنوبية بعدة مراحل تاريخية أهمها:
1- تقديم المساعدات الإنسانية كالأدوية والمواد الغذائية والأطباء والدعم الإغاثي.
2- استثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم، وتعميق هوة الصراع مع الشماليين.
3- تدفق صفقات الأسلحة الإسرائيلية على جنوب السودان، واتساع نطاق تدريب المليشيات الجنوبية في أوغندا وإثيوبيا وكينيا.
4- استئناف دعم التمرد المسلح، وتزويد الحركات الانفصالية الجنوبية بأسلحة متقدمة، وتدريب العشرات من طياريها على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، وتوفير صور عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية.
5- إيفاد بعض الخبراء الإسرائيليين لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين، ومشاركة بعضهم في العمليات التي أدت إلى احتلال بعض مدن الجنوب السوداني.
وبالتالي، فقد بدا طبيعياً ألا تخفي الحركة الشعبية في جنوب السودان حجم وطبيعة العلاقات الأمنية والعسكرية التي تربطها بإسرائيل، فقد استقبلت مؤخراً حزمة جديدة من الأسلحة شملت صواريخ ومضادات طائرات وعربات مدرعة وصواريخ أرض-جو، وأعلنت أن طيارين من عناصرها يتدربون تحت إشراف إسرائيلي، في إطار الإستراتيجية التي تتبناها تل أبيب بدعم التوجه الانفصالي لها.
غير أن الملاحظة الأكثر أهمية في ما سبق، أن جملة من قام بهذه الاتصالات والتدريب من طرف إسرائيل هم رجال الموساد والاستخبارات العسكرية، بمعنى أن الدعم السياسي الذي حصل عليه الجنوبيون كان بالأساس استخبارياً أمنياً، وهي حقيقة لا بد من معرفتها لإدراك المرامي الإسرائيلية من تحقيق الانفصال!
ما بعد الانفصال
لا شك أن ما تقدم من استعراض تاريخي لاتساع دور إسرائيل في جنوب السودان، يمهد الطريق بسلاسة لمتابعة "تشوقها" إلى اليوم التالي لمرحلة الانفصال لإعلان سياساتها وتوجهاتها بصورة مكشوفة.
فبينما جهر مبعوث جنوب السودان في واشنطن علناً بحتمية العلاقة مع إسرائيل، جرى الحديث سراً عن توثيق العلاقة مع تل أبيب، وحصلت لقاءات بعيداً عن الإعلام بين مسؤولين من وزارة الاستثمار في حكومة جنوب السودان ونظرائهم الإسرائيليين، بهدف الاتفاق على فتح مطار جوبا أمام طيران شركة "العال" الإسرائيلية.
كما أن مجموعة "شالوم المتحدة" التي افتتحت شركة صيرفة في جوبا، توسّعت أنشطتها وتولت إقامة فندق خمسة نجوم في عاصمة الجنوب، خاصة أن من يوصفون "بالجالية" الإسرائيلية فيها تسيطر على قطاع الفنادق الذي يُعدّ من أكثر القطاعات ربحية في جنوب السودان.
هنا لابد من الإشارة إلى معطى في غاية الأهمية، ويتمثل في أن الإستراتيجية الإسرائيلية في جنوب السودان، لاسيما في مرحلة ما بعد الانفصال، لا تتعلق فقط بمصالح اقتصادية ضيقة رغم توفر الموارد الطبيعية في هذه المنطقة، وإنما يتعلق بالمصالح السياسية والأمنية الكبرى لإسرائيل، لاسيما في مواجهة احتمال عودة مصر إلى الاضطلاع بدورها العربي الفعلي.
ولعل ما يشير إلى "اللهفة" الإسرائيلية لانفصال الجنوب في الاستفتاء المرتقب، الشواهد التالية:
1- تزايد التصريحات الإسرائيلية والجنوبية في آن معاً، حول جذور تلك العلاقات وطموحاتهما بتطويرها إلى مجالات أبعد وأوسع وأشمل، للدرجة التي دفعت بعض الإسرائيليين إلى القول إن الساسة الجنوبيين لم يعودوا يخجلون من المجاهرة بالعلاقات الوطيدة مع تل أبيب، وباللجوء إليها لنصرتهم ضد الدولة السودانية الأم، والإعلان أن إسرائيل عدو للفلسطينيين فقط وليس للجنوبيين!
2- فتح مكاتب تمثيل للجنوبيين في تل أبيب، وتوثيق العلاقات التجارية والاقتصادية معهم.
3- تنظيم رحلات جوية إثيوبية منتظمة تربط "جوبا" في السودان بكل من أديس أبابا وتل أبيب.
4- استقبال إسرائيل لخمسة آلاف عنصر لتدريبهم عسكرياً، للتعامل مع مرحلة ما بعد الانفصال.
5- إقامة جسر جوي لنقل السلاح من إسرائيل إلى أفريقيا الوسطى، ومنها تحمل براً إلى جوباً.
ولعل ما توج هذه الجهود الإسرائيلية، ما كشف عنه النقاب من بدء وصول حشود كبيرة من الخبراء الإسرائيليين في مختلف المجالات إلى جوبا عاصمة الجنوب، استعداداً للسيطرة على الدولة الناشئة، حيث يتخصص هؤلاء الذين قدر عددهم بألف خبير في الزراعة والتعدين والاقتصاد والفنون والسياحة والإدارة.
غاية إسرائيل من الانفصال.. مصر نموذجاً
تعتقد إسرائيل أن مراميها السياسية والإستراتيجية في تشجيعها لانفصال جنوب السودان، تتجاوز كثيراً هذه البقعة الجغرافية لتصل إلى عواصم عربية مجاورة ترى أنه لا بد من بقائها تحت المجهر الإسرائيلي، تخوفاً من أي تغير قد يطرأ على أوضاعها الداخلية، مما قد يحدث منعطفاً كبيراً ليس في صالحها.
وربما تبدو مصر ـ الدولة والدور والتاريخ وليس النظام بالضرورة ـ الأكثر استهدافاً من ذلك، لاسيما إذا كان المدخل الأكثر خطورة لإسرائيل يتمثل في مياه نهر النيل، فليس من شك أن أهمية النيل بالنسبة لمصر تصل إلى مرحلة أن يكون شريانها الحيوي الذي إذا انقطع، فقد فصل الأوكسجين عنها، وإذا كانت كينيا وإثيوبيا وأوغندا تشكل دول المنبع، فإن السودان هي دولة الممر الرئيسية، وهنا يأتي العبث الإسرائيلي.
فإذا كانت الحكومات السودانية المتتالية منذ الاستقلال وحتى اليوم، تحاشت -لأسباب كثيرة- المس بمياه النيل، والحصة السودانية المفترضة من مياهه التي تذهب طوعاً إلى مصر، فإن الوضع سيكون مختلفاً في دولة جنوب السودان، حيث لا يربطها ما يربط أهل شمال السودان مع مصر، وفضلاً عن ذلك فإن قرارها السياسي يبدو من مرحلة ما قبل الانفصال صادراً في تل أبيب وواشنطن وبروكسل.
وهكذا، لم يكن مستغرباً أن تركز إسرائيل على النيل في السنوات الأخيرة لضمان الإمساك بأقوى ورقة للضغط على مصر، وفي هذا السياق جاء تركيز جولة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قبل أشهر عدة على ثلاث دول تعد من أهم بلدان المنابع لنهر النيل، وأكثرها رفضاً لاتفاقات المياه المعقودة مع دولتي المصب: السودان ومصر.
وقد اتضح فعلاً أن ليبرمان -وهو أول مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى يزور أفريقيا منذ نحو عشرين عاماً- توصل إلى عقد اتفاق مع حكومة كينيا على مشروعات ذات صلة بإدارة المياه، ومن المؤكد أنه حقق شيئاً من ذلك القبيل مع إثيوبيا التي بدأ بها زيارته، وفعل ذلك في أوغندا.
في سياق متصل، فإن ما قد يوصف "بالنجاح" الذي أحرزته الحركة الانفصالية في جنوب السودان، ينبغي أن لا ينسي حقيقة خطيرة مؤلمة تتمثل في كونها أداة "إسرائيلية" لتحقيق هدف إستراتيجي بعيد المدى يتمثل في "إضعاف" مصر و"تهديدها من الخلف"!
وإلى جانب الضغط على القاهرة، فإن تركيز إسرائيل على الخرطوم هو جزء من إستراتيجيتها إزاء البحر الأحمر الذي اعتبرته منذ البداية منفذاً حيوياً للغاية، حرصت على أن تبقيه حراً أمام سفنها، وخشيت أن يصبح بحيرة عربية يمكن استخدامها في حصارها، تكراراً لما حدث في حربي 1967 و1973 عندما أغلق العرب مضايق تيران وباب المندب على التوالي.
كما سعت إسرائيل لإقامة عدة قواعد عسكرية موجهة ضد الدول العربية عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، إضافة إلى القواعد الجوية في إثيوبيا وكينيا، والوجود الجوي في غينيا، وإقامة قواعد جوية في تشاد، على الأخص في المنطقة المجاورة لحدود السودان، حيث تبين لاحقاً أن مهمة تلك القواعد تمثلت في مراقبة الحدود الليبية والسودانية، إضافة إلى إمكانية استخدامها ضد مصر لضرب أهداف منتخبة في مؤخرة الجبهة المصرية.
أخيراً.. فإن مصالح إسرائيل في المفهوم الإستراتيجي باتت تتمثل في إقامة دولة جنوب السودان، والأرجح أنها لن تكون إلا شوكة أخرى في خاصرة دولة عربية، لاسيما أن حقيقة انفصال الجنوب يجد مساندة قوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولايات المتحدة للحدّ من المد العربي والإسلامي داخل القارة الأفريقية، مما يعني أن القادم بعد الانفصال سيكون لصالح إسرائيل بصورة أكثر خطراً وأبعد أثراً، لدرجة أن دولة الجنوب ستتحول إلى "قاعدة عسكرية" إسرائيلية في نهاية المطاف.
(*) المصدر: موقع الجزيرة
بينما يترقب السودانيون والعرب والعالم بأسره ذلك اليوم الذي يعلن فيه قيام دولة جديدة في خاصرة السودان الجنوبية، وكل منهم تنتابه مشاعر ترقب وحذر وفقاً لتوجهاته السياسية وأصوله القومية وولاءاته الفكرية والأيدولوجية، تبدو إسرائيل من بعيد تغمرها سعادة لا توصف وهي تشهد ميلاد دولة أعدت لها العدة والدعم منذ سنوات بعيدة.
الدور الاستخباري
يبدو من السطحية بمكان الحديث عن دور إسرائيلي في جنوب السودان -سياسياً كان أو اقتصادياً- دون قراءة فاحصة للأداء الأمني والعمل الاستخباري لأجهزة المخابرات الإسرائيلية في ذلك البلد العربي.
مع العلم أن هذا التدخل الإسرائيلي لم يأت عفوياً، أو حباً في سواد عيون الجنوبيين، بل إن الإستراتيجية التي قامت عليها إسرائيل منذ نشأتها الأولى تحددت بموجب ما ذكره مؤسسها ديفد بن غوريون حين قال "نحن شعب صغير, وإمكانياتنا ومواردنا محدودة, ولا بد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية, من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها، خاصة العلاقات القائمة بين الجماعات العرقية والأقليات الطائفية, بحيث نسهم في تعظيمها, لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها".
وقد أطلق على هذه الإستراتيجية "شد الأطراف"، وتم تجاوزها في سنوات لاحقة ليطلق عليها شعار "البتر وليس الشد", بحيث تبدو التوجهات الإسرائيلية ماضية في تلبية طموحات الجماعات العرقية في الانفصال, وتشكيل الكيانات المستقلة عن الدول العربية.
وإن كان لا بد من تأصيل تاريخي غير مغرق في التفاصيل، فإن الاتصالات الإسرائيلية مع الجنوبيين بدأت من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا، بحيث لعبت شركاتها "كواجهة" استخدمت لتلك الاتصالات، ووقع الاختيار على الدينكا أقوى قبائل المنطقة لتكون الباب الذي تتسلل منه إسرائيل إلى الجنوب، وتتغلغل في شرايينه، حيث مرت العلاقات الإسرائيلية الجنوبية بعدة مراحل تاريخية أهمها:
1- تقديم المساعدات الإنسانية كالأدوية والمواد الغذائية والأطباء والدعم الإغاثي.
2- استثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم، وتعميق هوة الصراع مع الشماليين.
3- تدفق صفقات الأسلحة الإسرائيلية على جنوب السودان، واتساع نطاق تدريب المليشيات الجنوبية في أوغندا وإثيوبيا وكينيا.
4- استئناف دعم التمرد المسلح، وتزويد الحركات الانفصالية الجنوبية بأسلحة متقدمة، وتدريب العشرات من طياريها على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، وتوفير صور عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية.
5- إيفاد بعض الخبراء الإسرائيليين لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين، ومشاركة بعضهم في العمليات التي أدت إلى احتلال بعض مدن الجنوب السوداني.
وبالتالي، فقد بدا طبيعياً ألا تخفي الحركة الشعبية في جنوب السودان حجم وطبيعة العلاقات الأمنية والعسكرية التي تربطها بإسرائيل، فقد استقبلت مؤخراً حزمة جديدة من الأسلحة شملت صواريخ ومضادات طائرات وعربات مدرعة وصواريخ أرض-جو، وأعلنت أن طيارين من عناصرها يتدربون تحت إشراف إسرائيلي، في إطار الإستراتيجية التي تتبناها تل أبيب بدعم التوجه الانفصالي لها.
غير أن الملاحظة الأكثر أهمية في ما سبق، أن جملة من قام بهذه الاتصالات والتدريب من طرف إسرائيل هم رجال الموساد والاستخبارات العسكرية، بمعنى أن الدعم السياسي الذي حصل عليه الجنوبيون كان بالأساس استخبارياً أمنياً، وهي حقيقة لا بد من معرفتها لإدراك المرامي الإسرائيلية من تحقيق الانفصال!
ما بعد الانفصال
لا شك أن ما تقدم من استعراض تاريخي لاتساع دور إسرائيل في جنوب السودان، يمهد الطريق بسلاسة لمتابعة "تشوقها" إلى اليوم التالي لمرحلة الانفصال لإعلان سياساتها وتوجهاتها بصورة مكشوفة.
فبينما جهر مبعوث جنوب السودان في واشنطن علناً بحتمية العلاقة مع إسرائيل، جرى الحديث سراً عن توثيق العلاقة مع تل أبيب، وحصلت لقاءات بعيداً عن الإعلام بين مسؤولين من وزارة الاستثمار في حكومة جنوب السودان ونظرائهم الإسرائيليين، بهدف الاتفاق على فتح مطار جوبا أمام طيران شركة "العال" الإسرائيلية.
كما أن مجموعة "شالوم المتحدة" التي افتتحت شركة صيرفة في جوبا، توسّعت أنشطتها وتولت إقامة فندق خمسة نجوم في عاصمة الجنوب، خاصة أن من يوصفون "بالجالية" الإسرائيلية فيها تسيطر على قطاع الفنادق الذي يُعدّ من أكثر القطاعات ربحية في جنوب السودان.
هنا لابد من الإشارة إلى معطى في غاية الأهمية، ويتمثل في أن الإستراتيجية الإسرائيلية في جنوب السودان، لاسيما في مرحلة ما بعد الانفصال، لا تتعلق فقط بمصالح اقتصادية ضيقة رغم توفر الموارد الطبيعية في هذه المنطقة، وإنما يتعلق بالمصالح السياسية والأمنية الكبرى لإسرائيل، لاسيما في مواجهة احتمال عودة مصر إلى الاضطلاع بدورها العربي الفعلي.
ولعل ما يشير إلى "اللهفة" الإسرائيلية لانفصال الجنوب في الاستفتاء المرتقب، الشواهد التالية:
1- تزايد التصريحات الإسرائيلية والجنوبية في آن معاً، حول جذور تلك العلاقات وطموحاتهما بتطويرها إلى مجالات أبعد وأوسع وأشمل، للدرجة التي دفعت بعض الإسرائيليين إلى القول إن الساسة الجنوبيين لم يعودوا يخجلون من المجاهرة بالعلاقات الوطيدة مع تل أبيب، وباللجوء إليها لنصرتهم ضد الدولة السودانية الأم، والإعلان أن إسرائيل عدو للفلسطينيين فقط وليس للجنوبيين!
2- فتح مكاتب تمثيل للجنوبيين في تل أبيب، وتوثيق العلاقات التجارية والاقتصادية معهم.
3- تنظيم رحلات جوية إثيوبية منتظمة تربط "جوبا" في السودان بكل من أديس أبابا وتل أبيب.
4- استقبال إسرائيل لخمسة آلاف عنصر لتدريبهم عسكرياً، للتعامل مع مرحلة ما بعد الانفصال.
5- إقامة جسر جوي لنقل السلاح من إسرائيل إلى أفريقيا الوسطى، ومنها تحمل براً إلى جوباً.
ولعل ما توج هذه الجهود الإسرائيلية، ما كشف عنه النقاب من بدء وصول حشود كبيرة من الخبراء الإسرائيليين في مختلف المجالات إلى جوبا عاصمة الجنوب، استعداداً للسيطرة على الدولة الناشئة، حيث يتخصص هؤلاء الذين قدر عددهم بألف خبير في الزراعة والتعدين والاقتصاد والفنون والسياحة والإدارة.
غاية إسرائيل من الانفصال.. مصر نموذجاً
تعتقد إسرائيل أن مراميها السياسية والإستراتيجية في تشجيعها لانفصال جنوب السودان، تتجاوز كثيراً هذه البقعة الجغرافية لتصل إلى عواصم عربية مجاورة ترى أنه لا بد من بقائها تحت المجهر الإسرائيلي، تخوفاً من أي تغير قد يطرأ على أوضاعها الداخلية، مما قد يحدث منعطفاً كبيراً ليس في صالحها.
وربما تبدو مصر ـ الدولة والدور والتاريخ وليس النظام بالضرورة ـ الأكثر استهدافاً من ذلك، لاسيما إذا كان المدخل الأكثر خطورة لإسرائيل يتمثل في مياه نهر النيل، فليس من شك أن أهمية النيل بالنسبة لمصر تصل إلى مرحلة أن يكون شريانها الحيوي الذي إذا انقطع، فقد فصل الأوكسجين عنها، وإذا كانت كينيا وإثيوبيا وأوغندا تشكل دول المنبع، فإن السودان هي دولة الممر الرئيسية، وهنا يأتي العبث الإسرائيلي.
فإذا كانت الحكومات السودانية المتتالية منذ الاستقلال وحتى اليوم، تحاشت -لأسباب كثيرة- المس بمياه النيل، والحصة السودانية المفترضة من مياهه التي تذهب طوعاً إلى مصر، فإن الوضع سيكون مختلفاً في دولة جنوب السودان، حيث لا يربطها ما يربط أهل شمال السودان مع مصر، وفضلاً عن ذلك فإن قرارها السياسي يبدو من مرحلة ما قبل الانفصال صادراً في تل أبيب وواشنطن وبروكسل.
وهكذا، لم يكن مستغرباً أن تركز إسرائيل على النيل في السنوات الأخيرة لضمان الإمساك بأقوى ورقة للضغط على مصر، وفي هذا السياق جاء تركيز جولة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قبل أشهر عدة على ثلاث دول تعد من أهم بلدان المنابع لنهر النيل، وأكثرها رفضاً لاتفاقات المياه المعقودة مع دولتي المصب: السودان ومصر.
وقد اتضح فعلاً أن ليبرمان -وهو أول مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى يزور أفريقيا منذ نحو عشرين عاماً- توصل إلى عقد اتفاق مع حكومة كينيا على مشروعات ذات صلة بإدارة المياه، ومن المؤكد أنه حقق شيئاً من ذلك القبيل مع إثيوبيا التي بدأ بها زيارته، وفعل ذلك في أوغندا.
في سياق متصل، فإن ما قد يوصف "بالنجاح" الذي أحرزته الحركة الانفصالية في جنوب السودان، ينبغي أن لا ينسي حقيقة خطيرة مؤلمة تتمثل في كونها أداة "إسرائيلية" لتحقيق هدف إستراتيجي بعيد المدى يتمثل في "إضعاف" مصر و"تهديدها من الخلف"!
وإلى جانب الضغط على القاهرة، فإن تركيز إسرائيل على الخرطوم هو جزء من إستراتيجيتها إزاء البحر الأحمر الذي اعتبرته منذ البداية منفذاً حيوياً للغاية، حرصت على أن تبقيه حراً أمام سفنها، وخشيت أن يصبح بحيرة عربية يمكن استخدامها في حصارها، تكراراً لما حدث في حربي 1967 و1973 عندما أغلق العرب مضايق تيران وباب المندب على التوالي.
كما سعت إسرائيل لإقامة عدة قواعد عسكرية موجهة ضد الدول العربية عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، إضافة إلى القواعد الجوية في إثيوبيا وكينيا، والوجود الجوي في غينيا، وإقامة قواعد جوية في تشاد، على الأخص في المنطقة المجاورة لحدود السودان، حيث تبين لاحقاً أن مهمة تلك القواعد تمثلت في مراقبة الحدود الليبية والسودانية، إضافة إلى إمكانية استخدامها ضد مصر لضرب أهداف منتخبة في مؤخرة الجبهة المصرية.
أخيراً.. فإن مصالح إسرائيل في المفهوم الإستراتيجي باتت تتمثل في إقامة دولة جنوب السودان، والأرجح أنها لن تكون إلا شوكة أخرى في خاصرة دولة عربية، لاسيما أن حقيقة انفصال الجنوب يجد مساندة قوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولايات المتحدة للحدّ من المد العربي والإسلامي داخل القارة الأفريقية، مما يعني أن القادم بعد الانفصال سيكون لصالح إسرائيل بصورة أكثر خطراً وأبعد أثراً، لدرجة أن دولة الجنوب ستتحول إلى "قاعدة عسكرية" إسرائيلية في نهاية المطاف.
(*) المصدر: موقع الجزيرة