ارشيف من :ترجمات ودراسات

المحارق البشرية... لكي لا تكون الحل!

المحارق البشرية... لكي لا تكون الحل!
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل        ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما!
"شاعر عربي قديم"
هذا الجائع الذي أمضى ثلاثة أيام من دون أن يتبلغ بلقمة من طعام، عصب على بطنه حجراً وشده شداً محكماً عسى أن يعينه ذلك على تحمل أوجاع الجوع، ريثما يحظى بضب أو جرادة أو عشبة يتبلغ بها قبل أن يجد في البيداء المقفرة مضرباً من مضارب العرب فيه شبيه لحاتم الطائي أو للكثيرين غيره من كرام العرب، فيحلب له وينحر فيسقيه ويطعمه.
كان هذا شائعا في زمن قديم لا يتردد الناس في وصفه في أيامنا، بأنه زمن التخلف وشظف العيش، بالمقارنة مع زمن التقدم والرفاه ورغد العيش الذي نعيشه في القرن الحادي والعشرين، أو هكذا هو بالنسبة لقلة قليلة ممن يضعون يدهم على الكثرة الكثيرة من الموارد.
أما الكثرة الكثيرة من العرب في عصور التقدم هذه، فحالها أسوأ بكثير من حال ذلك الأعرابي الجائع في صحراء مترامية الأطراف والبشر فيها نادرو الوجود كالكبريت الأحمر: ما الذي يفعله الجائعون في تونس أو الجزائر أو صنعاء أو بيروت أو نواكشوط، في هذه المدن المكتظة بالبشر عندما تعتصرهم آلام الجوع؟
ما الذي يفعلونه، في تونس أو الجزائر أو صنعاء أو بيروت أو نواكشوط، بعد أن يصلوا إلى لحظة يمنعهم فيها الحياء من الاستمرار في طلب المساعدة من الأخ والصديق والقريب والبعيد؟
وبعد أن يكونوا قد سئموا من البحث عن عمل بات الحصول عليه شبه مستحيل لمن لا حظوة له عند هذا أو ذاك من ذوي الشأن الذين يستثمرون في "الثقافة المالية"، ذلك الغشاء الرقيق الذي تتستر به السرقة الموصوفة والنهب المنهجي لأقوات الناس.
ما الذي يفعلونه بعد أن يكونوا من أولئك الحريصين على عدم سلوك سبيل الجريمة، قتلاً أو سرقة أو غصباً أو احتيالاً أو نصباً أو بيعاً للأعضاء والدم والشرف وماء الوجه في الأسواق التي باتت تروج فيها مثل هذه السلع.
منهم، وهذا أمر غير نادر الحدوث، من يصاب بالانهيار تحت ثقل أسعار المازوت الضروري للتدفئة، والأدوات والأقساط المدرسية الضرورية لدفع تكاليف العلم (المجاني)، وتحت ثقل أسعار الخبز والماء، دون الحديث عن اللحوم والأجبان والخضار والفواكه والحلويات... فيطلق النار على زوجته وأولاده ونفسه ليريح ويستريح.
ويمر ذلك وكأن شيئاً لم يكن بالنسبة للحكام وغير الحكام من المصابين بضعف الشهية لكثرة ما يخضمون، وبانعدام الإحساس لشدة ما يتماهون بهذه الآلات الأوتوماتيكية التي يستخدمونها في عد ما يسرقونه من الأوراق المالية التي -لكثرتها- تستعصي على العد اليدوي.
ولأنه يمر وكأن شيئاً لم يكن، لا يتبقى للجائع غير وسيلة أخيرة: يحرق نفسه في شارع عام، أو أمام أحد البرلمانات وغيره من المراكز الحكومية... لعله يوقظ بذلك ضمير الحكام وغير الحكام... لعلهم يسارعون إلى فعل ما من شأنه أن يضع حداً لكل هذا البؤس.
من تونس التي تفجرت ثورتها بعد إقدام عدد من الشبان على إحراق أنفسهم فراراً من البطالة، انتقلت الظاهرة حتى الآن إلى الجزائر، ثم إلى مصر وموريتانيا. ويبدو أننا لن نعدم في الأيام القادمة أخباراً عن تجليات لهذه الظاهرة في بلدان أخرى.
من الضروري القول بأن وسيلة النضال هذه، وإن نجحت في تفجير ثورة هنا أو هناك، ليست وسيلة النضال الأفضل، لأن قتل النفس، الانتحار، ليس لائقاً بالإنسان أياً كان السبب. ففي جميع البلدان المذكورة يتظاهر الناس احتجاجاً ويطالبون برحيل الحكام. وهم يفعلون ذلك، حتى الآن، في بلدان كاليمن والأردن. ولن نعدم في الأيام القادمة امتداداً للظاهرة إلى بلدان أخرى، مع تصاعد في وتائر الاحتجاج.
وقد لا نعدم، بعدما يتبين أن لجوء الناس إلى إحراق أنفسهم قد فقد جدواه بسبب موت الإحساس عند الحكام المعنيين، يوماً يأتي ليستحدث الناس فيه وسيلة نضال أخرى لا يرتد فيها الغضب على الذات، بل يتجه نحو فاقدي الإحساس من المسؤولين عن وصول الأوضاع إلى هذا الحد من التدهور.
وقد نكون على وشك ظهور ظاهرة جديدة، في هذا الوقت الذي تفوح فيه رائحة الشواء البشري في طول العالم العربي الجائع وعرضه: عندما يحتل اللهيب واجهة المسرح لا يبقى أمام المظلومين الذين يحرقون أنفسهم احتجاجاً ويأساً غير خطوة للانتقال إلى إحراق ظالميهم!
يعج التاريخ بثورات كللها المحكومون المظلومون بقتل ظالميهم من الحكام، شنقاً أو سحلاً أو خنقاً أو شدخاً للرؤوس وسملاً للعيون وبقراً للبطون وتقطيعاً للأوصال. ويبدو الآن أن انتقال المحكومين المظلومين إلى إحراق ظالميهم من الحكام مرشح ليصبح سمة العصر العربي.
ليجد المسؤولون عن وصول الأوضاع إلى هذا الحد من التدهور أنفسهم في حال يحسدون عليها زين العابدين بن علي عندما تمكن -إلى حين- من الفرار، قبل أن تضع الجموع يدها عليه، وأن ترمي به في ألسنة اللهيب.
كثير من اللهيب المستعر يتلمظ الآن لالتهام الكثيرين من التماسيح والبراكيل الذين لن يفيدهم غلظ جلودهم في اتقاء لسع زفيره... اللهم إلا إذا راجعوا أنفسهم، واعتذروا إلى شعوبهم، وأعادوا إليها ما سرقوه منها بعلو كعبهم في " الثقافة المالية"، وأقلعوا عما هم فيه من تشاطر هو عين الغفلة عن إنسانيتهم.
وعين الغفلة عن الخطر الرهيب المحدق بهم والذي جنوه بأيديهم على أنفسهم.
2011-01-21