ارشيف من :أخبار لبنانية

أشكال النضال والتجربة الفلسطينية

أشكال النضال والتجربة الفلسطينية
منير شفيق
يخطئ كل من لا يقرأ الصراع في فلسطين باعتباره حالة فريدة مقارنة بمختلف الصراعات التي خاضتها حركات التحرّر الوطني، وذلك بالرغم من أن كل صراع خاضته حركة تحرّر وطني كانت له خصوصيته وفرادته. ولكن في الموضوع الفلسطيني ثمّة خصوصية وفرادة لا مثيل لهما مقارنة بنوع العدو الذي يواجهه الشعب الفلسطيني، وبمشروعه المختلف جوهرياً عن مشاريع السيطرة الاستعمارية والإمبريالية وحتى الاستيطانية التي عرفتها شعوب المستعمرات كافة. فهو أقرب إلى أن يُدرَج ضمن الحالات التي واجهتها الشعوب الأصلية في الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا، وإن لم يواجه الإبادة الجسدية التي واجهتها تلك الشعوب.
فوجه التشابه هنا يتمثل في إحلال مجموعات المستوطنين مكان الشعب الأصلي. ومع ذلك لا تدخل فلسطين ضمن إطار تلك الحالات ليس لسبب انتفاء حالة الاجتثاث بالإبادة فحسب، وإنما أيضاً بسبب استحالة حسم الصراع في مصلحة الكيان الصهيوني حسماً نهائياً كما حدث في الأمريكتين وأستراليا ونيوزيلندا.
إن عملية إحلال مجموعات المستوطنين وتحويلهم إلى شعب مكان الشعب الفلسطيني في وطنه تمت من خلال السيطرة الإستعمارية-الإمبريالية على ميزان القوى العالمي وبتأييد الدول الإمبريالية ودعمها. بل رعايتها وتبنيها لمشروع إقامة دولة الكيان الصهيوني. وقد كان الاستعمار البريطاني في البداية والده ورأس حربته وحاميه ومؤمّن وصوله إلى فلسطين وانزراعه فيها ومن ثم تمكينه عسكرياً ليتفوّق على شعب فلسطين بعد تجريده من السلاح وقطع تواصله مع أمته العربية والإسلامية من خلال التجزئة والهيمنة على دولها.
ثم انتقلت الرعاية والحماية والمساعدة العسكرية والمالية إلى الإمبريالية الأميركية التي ما زالت تتزعم دولاً إمبريالية ودولاً أخرى لدعمه من جهة، ووضع ما أمكن من الدول العربية والإسلامية تحت هيمنتها، واستخدام من أمكن منها ضدّ مقاومة الشعب الفلسطيني والتنازل عن الحق الفلسطيني والعربي في فلسطين.
هنا يصبح أمامنا سمتان أساسيتان تمثلان خصوصية الوضع الفلسطيني وفرادته:
الأول: إن طبيعة الصراع تتمثل بإحلال "شعب" مكان شعب آخر من خلال اقتلاع الثاني من وطنه وتهجيره بالقوّة وتحت وطأة المجازر والإرهاب ومختلف أشكال الضغوط. وقد حدث ذلك عبر حرب 1948 وفرض خطوط هدنة تحمي إقامة الكيان الصهيوني: جيشاً ومجتمعاً ودولة، وتفرض التفوّق العسكري له على الجيوش العربية مجتمعة. فمشروع هذا الإحلال راح يتمّ على مراحل تحكمها تطورّات موازين القوى وما ينشأ من ظروف ومعطيات ومعادلات فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالماً ثالثياً ودولياً. ولكن هذا التعرّج ظلّ ضمن إطار الهدف الأساسي.
الثاني: إن العدو الذي واجهه الشعب الفلسطيني، وما زال يواجهه، تمثلّ بجبهة دولية عريضة متحدّة ضدّه على غير ما كانت تواجهه شعوب المستعمرات في صراعها ضدّ عدّو استعماري واحد. وقد كانت أحياناً تتلقى دعماً مباشراً أو غير مباشر من منافسيه الإستعماريين الآخرين، ما جعل المواجهة التي يخوضها الشعب الفلسطيني أكبر بكثير من أيّة مواجهة عرفتها حركة تحرّر وطني، ولهذا لا مبالغة إذا قيل إن الشعب الفلسطيني لم يقاتل الاستعمار البريطاني وحده في مرحلة الانتداب، ولم يقاتل الجيش الصهيوني وحده في حرب 1948، وإنما كانت هنالك كتلة عالمية من الدول الكبرى تقف ضدّه، ولا سيما بعد قيام دولة الكيان الصهيوني. فالهند حاربت بريطانيا وحدها، والجزائر حاربت فرنسا وحدها، وفيتنام حاربت أمريكا وحدها، وجنوب أفريقيا حارب مستوطنين عنصريين كانت وراءهم دولة واحدة أو أكثر من الدرجة الثانية في موازين القوى. بل أمكنه في مرحلة لاحقة كسب غالبية الدول الكبرى لتفكيك النظام العنصري.
أما في فلسطين فهنالك الكيان الصهيوني نفسه المدجّج بالسلاح، وهنالك معه بصورة عضوية الحركات الصهيونية العالمية التي أصبحت متنفذّة داخل متخذي القرارات وواضعي الإستراتيجيات في الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وهذه الدول تعهّدت، وتتعهّد بحماية دولة الكيان الصهيوني ودعمها وتمكينها لتنفيذ عملية الاحتلال والاقتلاع اللذين تمّا، أو المُرشحيْن للإتمام إن أمكن.
يجب أن يُضاف هنا أن التواطؤ الإمبريالي العالمي مع الكيان الصهيوني لعب، أو يلعب، دوراً حاسماً، في شلّ الدول العربية والإسلامية والعالم ثالثية ومنعها من دعم الشعب الفلسطيني، كما في تعبئة الرأي العام العالمي في مصلحة الكيان الصهيوني.
وبهذا يكون ميزان القوى في هذا الصراع مختلاً كما لم يحدث لميزان قوى واجهه شعب وحركة تحرّره الوطني في العالم.
من هنا يجب أن يبدأ الفهم لطبيعة الصراع في فلسطين ولطبيعة العدو الصهيوني وللقوى العالمية الداعمة له كما للشلل المقابل في الوضعيْن الفلسطيني والعربي بسبب التجزئة القطرية والهيمنة الإمبريالية عليها عموماً.
هذه المعادلة المعقدة والصعبة جدا، وإن كانت في نهاية المطاف قابلة للتفكيك والتغيير (ولهذا حديث آخر) هي التي تُفسّر لماذا استطاع المشروع الصهيوني أن يُقيم كيانه ودولته؟ ولماذا لم يزل ماضياً في عملية التوسّع والتهويد في الضفة الغربية؟ ولماذا أخذ يشترط الاعتراف بيهودية الدولة مقابل التنازل عن فتات تقوم عليه دويلة للفلسطينيين؟
على أن هذه المعادلة المعقدة والصعبة جدا التي تتسّم بها القضية الفلسطينية، وقد نشأت عنها خصوصيتها وفرادتها الاستثنائيتين هي التي تفسّر قيام سلطتين إحداهما في رام الله تعمل بالتعاون مع الكيان الصهيوني ضدّ المقاومة مع المضيّ في المفاوضات، وثانيهما في قطاع غزة: قاعدة مسلحة محرّرة تحت الحصار من كل الجهات مع خوض حرب 2008 /2009 أفشلت الهجوم. وبهذا جرّب الانقسام الحاد بين ضفة وقطاع ومن خلال الإستراتيجيتيْن.
وثمة تجربة للفلسطينيين الذين بقوا تحت إطار دولة الكيان الصهيوني حيث عانوا من الأحكام العرفية والعنصرية وألوان الضغوط لتهجيرهم وصمدوا وشنوا ألواناً من أشكال النضال للحفاظ على وجودهم في وطنهم.
وجرّبت من جهة أخرى المقاومة في الأردن ما بين 1968-1970 ثم في جنوبي لبنان من 1971-1982 وقد خاضت حربيْن كبيرتيْن 1978 و1982 ثم جرّبت الانتفاضة الأولى 1978-1993 فيما (م.ت.ف) في المنفى التونسي. ثم كانت هنالك تجربة المقاومة الوطنية ثم المقاومة الإسلامية في لبنان التي أسفرت عن تحرير الجنوب عام 2000 ثم حرب 2006 وإنزال الهزيمة بالجيش الصهيوني.
وبكلمة، في عملية الصراع مع المشروع الصهيوني منذ البداية حتى اليوم تنقلت التجربة الفلسطينية بين مختلف الأشكال الرئيسية للكفاح المسلح من حرب العصابات في خريف 1936-1938 إلى حرب القشرة، أو الواجهة إلى المقاومة من الخارج إلى الداخل 1965-1982 ومن الداخل مع الخارج 1985-2006، ثم حروب حقيقية تتسّم بالمواجهة والاشتباك كما جرّب العمل ضمن قواعد محرّرة يتخللها ألوان الاستعداد العسكري بما في ذلك تعزيز السلاح وتطويره وحفر الأنفاق والاستعداد لمواجهة جيش العدو (جنوبي لبنان وقطاع غزة حالياً).
كما جرْبت كل أشكال الممانعة الشعبية السياسية والمقاطعة الإقتصادية والنضال ضدّ الإمبريالية ولا سيما ضدّ أمريكا وانحيازها للكيان الصهيوني 1948-1967 وبعدها بل في كل المراحل. فكيف يمكن تقويم نتائج استراتيجيات المقاومة والممانعة والمقاطعة والانتفاضة الشعبية والحروب؟
الذين شنّوا الهجوم على تجارب المقاومة المسلحة المختلفة وتجارب الممانعة السياسية الشعبية المختلفة اعتبروها بلا فائدة لأنها لم تستطع منع قيام دولة الكيان الصهيوني، ونتائج حرب 1967. بل ذهبوا إلى تحميلها مسؤولية الحروب والفظائع والجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني. وهذان نقدان في غير محلهما: فالأول اعتبر أن المقاومة المسلحة فاشلة لأنها لم تمنع قيام دولة الكيان الصهيوني. وهو أمر لم يكن ممكناً، في حينه، تحت كل الظروف والأحوال ضمن معطيات معادلة موازين القوى وطبيعة الكيان الصهيوني وسياسات الدول الكبرى والضعف العربي الناجم عن التجزئة والهيمنة. فالمقاومة لم يكن أمامها سوى منع الانهيار والحدّ من تقدّم المشروع، وإبقاء مواجهته قائمة لئلا يبتلع كل شيء، وبأسهل السبل وأسرع الآجال.
فمن هذه الزاوية: الحدّ من سرعة تقدّم المشروع وعرقلته في هذه المرحلة أو تلك، ولهذا الحدّ أو ذاك، كما إبقاء شعلة المقاومة متّقدّة، وتسليمها من جيل إلى جيل يمثل بحدّ ذاته إنجازاً مهماً إذا ما نوقش الوضع في إطار النسبية: بل يستأهل كل ما قدّم من تضحيات.
هذا الكلام ينطبق على المراحل السابقة جميعاً ولكن المقاومة ولا سيما بعد عام 2000 سواء في لبنان أم في فلسطين راحت تحقق إنجازات تتجاوز الحدّ من التدهور والانهيار إلى الدخول في مرحلة شبه التوازن الإستراتيجي، كما أثبتت حربا 2006 في لبنان وحرب 2008/ 2009 في قطاع غزة. فعلى مستوى الموقفيْن يمكن الحديث عن تحرير أرض وعن تشكّل قواعد محرّرة أو شبه محرّرة حتى لو كان القطاع محاصراً.
فالعدّو لم يعد يستطيع دخوله إلاّ من خلال الحرب والقتال من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت.
وهذا ما يسمح بالقول إن استراتيجية المقاومة والممانعة كان بإمكانها، مع حشد عربي وإسلامي وعالمي لدعمها وعزل الكيان الصهيوني، أن تفرض انسحاباً وتفكيكاً للمستوطنات من الضفة الغربية، بلا قيد أو شرط، كما حدث في جنوبي لبنان وقطاع غزة. ولكن الذي أفسد ذلك جاء من استراتيجية العملية السياسية والتفاوض والرهان على الرعاية الأمريكية فلسطينياً وعربياً. وهو الذي أدّى إلى تحوّل الضفة الغربية من خلال سلطة رام الله والتعاون الأمني مع الاحتلال إلى قاعدة مُضادة للمقاومة ومُتعاونة مع الاحتلال وأسيرة مالياً للدول المانحة.
إن الحالة القائمة في الضفة الغربية إذا لم تُكسَر بإلغاء الاتفاق الأمني وإبطاله وإسقاط استراتيجية المفاوضات سوف تعرّض القضية للتصفية. فقد وصلت إلى حدّ التفاوض حول دويلة ثمنها تبادل الأراضي في الضفة الغربية وقبول ما قام من استيطان والتنازل عن الأراضي المحتلة والمغتصبة عام 1948، وعن حق العودة، كما الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني دولة يهودية بما يمسّ أصل الحق في فلسطين، وإنهاء المطالبة بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في فلسطين: (تصريحات عباس) وعبد ربه (حول الاعتراف بيهودية الدولة)، وسلام فياض (حول القبول بالرواية التوراتية).
إن الوصول إلى هذا المستوى عبر مسيرة التنازلات والانخراط في عملية التسوية لا يترك مجالاً للشك في أن أشكال النضال في المقاومة والانتفاضة والممانعة والمقاطعة والمستمسكة بالثوابت المحدّدة في ميثاقيْ م.ت.ف 1964 و1968 هي وحدها ما يمكن أن يُطلَق عليه صفة أشكال النضال المـُجدية والفعّالة. أما ما عدا ذلك من أشكال إدارة الصراع من تنازلات عن ثوابت وحقوق والقبول بقرارات الأمم المتحدة وشروط عملية التسوية والمفاوضات فليست من أشكال النضال في شيء. فهي لم تُنقِذ شيئاً وإنما فرّطت حتى أصبحت أمام القبول بأزعومة "الحق اليهودي" التاريخي في فلسطين، والتخلي عن الحق الفلسطيني والعربي والإسلامي المؤكد في فلسطين كل فلسطين.
ومن ثم يكون من قبيل التزوير اعتبار المفاوضات وعملية التسوية في الوضع الفلسطيني يُطابِق ما حدث في تجارب أخرى مارستها حركات تحرّر وطني ومقاومة. وذلك باعتبار التفاوض من أشكال النضال فيما هو طريق إفساد النضال وتصفية القضية والحقوق الأساسية. وهذا حكم لم يعد مستنداً إلى خصوصية القضية الفلسطينية وطبيعة العدو وطبيعة الصراع فحسب، وإنما أيضاً أكدته التجربة الواقعية-العملية ذات القول الفصل أو الحكم الفيصل.
المصدر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات/ نقلا عن "السبيل" عمان
2011-01-28