ارشيف من :أخبار لبنانية

دراسة: بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين

دراسة: بعض الفصول في دليل الاستملاك الصهيوني للقدس وفلسطين

إعداد: أنطوان شلحت
توطئة:
إن أول ملاحظة تتبادر إلى الذهن، لدى مقاربة موضوع النظرة اليهودية إلى القدس وإلى فلسطين عمومًا، والتي جاءت كي تخدم غاية استملاكهما صهيونيًا، وذلك من خلال القراءة في مجموعة من المصادر الإسرائيلية المعاصرة- وهذه الورقة تستند بصورة رئيسة إلى مثل هذه القراءة- هي الملاحظة التالية: في الوقت الذي تبدي هذه المصادر، في معظمها، "حرصًا كبيرًا" على إبراز الرابطة اليهودية التاريخية، الدينية والقومية، بمدينة القدس وفلسطين فإنها "تحرص" في موازاة ذلك، وربما بصورة أكبر، على التقليل من أهمية وقيمة الرابطة الإسلامية- العربية التاريخية، الدينية والقومية، بالمدينة والبلد.
 
وقبل الدخول في التفصيلات المطلوبة، لا بُدّ من الإشارة إلى ما يلي:
أولاً- إن هذا "الحرص" يعكس مسعى مؤدلجًا بالفكر الصهيوني، ومحاولة لتبرير الممارسات الميدانية، التي جرى تطبيقها لترسيخ أقدام هذا الفكر؛
 
ثانيًا- إن مقاربة الفكر الصهيوني إزاء عروبة القدس وفلسطين وإزاء تاريخهما الإسلامي تأسست ولا تزال على مبدأ ثابت، هو تجاهل الرواية التاريخية العربية والفلسطينية. وعندما أشدّد على تجاهل، فعن وعي كامل بالفارق الكبير والجوهري بين دلالات هذا المصطلح وبين الدلالات، التي ينطوي عليها مصطلح آخر لتوصيف هذه المقاربة، عادة ما يتم استعماله من طرف الباحثين الإسرائيليين بمن فيهم معظم الباحثين النقديين، وهو مصطلح الجهل. ففي إطار هذه المصطلح الأخير جرى تحرير محاولات كثيرة لاختزال المقاربة الصهيونية العامة إزاء فلسطين والقدس بالقول إنها نجمت عن مجرّد جهل الحركة الصهيونية واقع وجود شعب عربي في فلسطين، وخصوصًا عندما قررت أن تقيم "وطنًا قوميًا لليهود" فيه؛
 
ثالثًا- إن تجاهل عروبة القدس وفلسطين، من طرف الحركة الصهيونية، استند أكثر من أي شيء آخر إلى تجاهل ماضيهما الإسلامي. وفي هذا ما يفسّر عمليات الهدم والتدمير الواسعة، التي قامت بها القوات الصهيونية في العام 1948 وما بعدها بحق المساجد والمواقع الدينية والأثرية الإسلامية على نحو خاص، وذلك سعيًا وراء إخفاء المعالم التي من شأنها أن تفضح هذا التجاهل أو تحجّمه.
 
دلالات تدمير المساجد
 
لقد عمل دافيد بن غوريون، وهو القائد الأقوى نفوذًا في الحركة الصهيونية منذ أربعينيات القرن العشرين الفائت، وأول رئيس للحكومة الإسرائيلية، في العام 1948 وبعده، بصورة منهجية، على محو كل ما كان قائمًا في فلسطين من شواهد عربية، وأساسًا عمل على محو الماضي الإسلامـي.
 
في تموز 2007 ظهر تحقيق صحافي في جريدة هآرتس الإسرائيلية [1] أشير في سياقه إلى أن قيادة الجيش الإسرائيلي اتبعت "سياسة مقصودة كانت تهدف إلى تدمير المساجد"، وذلك في نطاق سياسة محو القرى والبلدات العربية، التي بقيت فارغة في إثر نكبة العام 1948 وما رافقها من عمليات تطهير عرقية. وبناء على ذلك فإنه من بين مائة وستين مسجدًا كانت قائمة في القرى الفلسطينية، التي شملها اتفاق الهدنة وبقيت تحت سيطرة إسرائيل، لم يظل سوى أقل من أربعين مسجدًا، وفقًا لادعاء هذا التقرير، علمًا بأن الأرقام الحقيقية للمساجد التي تمّ تدميرها أكبر كثيرًا.
غير أن الأمر الأهم من هذه الأرقام، على أهميتها الفائقة، بالنسبة لما نحاول سبر غوره، هو أن ذلك كله ترافق مع انعدام أي توثيق إسرائيلي لعمليات التدمير الواسعة هذه، اللهم باستثناء توثيق يتيم لعملية تفجير طاولت "مشهد النبيّ حسين" في مدينة المجدل، التي تقع بالقرب من مدينة إسرائيلية تسمى "أشكلون" في الوقت الحالي، وهي عملية جرى تنفيذها في تموز 1950. ويؤكد هذا التوثيق الإسرائيليّ أن تفجير "المشهد المقدّس" كان عبارة عن عمل مقصود، وجزءًا من عملية أوسع في تلك المنطقة على وجه التحديد، شملت تدمير مسجدين آخرين على الأقل، واحد في يبنا والآخر في اسدود. كما يتبين أن المسؤول المباشر عن عمليات التدمير هذه هو موشيه دايان، الذي كان يشغل منصب قائد الجبهة العسكرية الإسرائيلية الجنوبية في ذلك الوقت.
 
في واقع الأمر، فإن هذا التوثيق شكّل انحرافًا عن النهج الإسرائيلي العام، الذي اتبع في ذلك الوقت وفقًا لتعليمات صارمة صادرة من قيادة الجيش الإسرائيلي. وقد نجم (التوثيق) عن عملية تبادل رسائل بين رئيس "دائرة الآثار الإسرائيلية"، وهي أول صيغة لما يسمى حاليًا بـ "سلطة الآثار الإسرائيلية"، ويدعى شموئيل يافين، الذي يصفه التحقيق الصحافي بأنه "رجل علم" أكثر من كونه "نصيرًا لحقوق العرب"، وبين قيادة الجيش الإسرائيلي بشأن مصير الموقع المذكور. وكانت إحدى هذه الرسائل متعلقة بما حدث في المجدل على وجه التحديد، وتضمنت احتجاجًا إداريًا على تفجير الموقع المقدّس، وأرسلت إلى رئيس دائرة المهمات الخاصة في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وأرسلت نسخ عنها إلى رئيس هيئة الأركان العامة حينذاك، يغئال يادين، وإلى عدد من كبار القادة العسكريين الإسرائيليين.
 
ويظهر من المراجعة التي أجراها كاتب التحقيق في أرشيف الجيش الإسرائيلي أن يادين، الذي غدا لاحقاً كبير علماء الآثار فيإسرائيل، لم يتأثر من الرسالة قطّ. كما أن داياننفسه لم يتأثر بها. ففي رسالته الجوابية التي بعث بها إلى ديوان رئيس هيئة الأركان العامة، في العاشر منآب 1950 كما يبدو (لأن التاريخ غير واضح)، وتحت عنوان "هدم مكان مقدس"، كتب دايان ما يلي: "1ـإنني أطلب الردّ على هذه الرسالة شفوياً لرئيس هيئة الأركان العامة.التفجير تمّ على يديلواء الساحل وبناء على أوامري". والكلمات في النقطة الثانية مشطوبة بخط، لكن رسالةأخرى أرسلت بتاريخ 30 آب من العام نفسه تبدّد أي شكّ في هذا الشأن، فقد ردّ دايان فيها على رسالة تتعلق بـ "المسّ بالآثار فيمنطقة أشكلون" بالقول: "لقد توجه رئيس هيئة الأركان العامة في هذا الخصوص إليّ، وأبلغته شروحي.. إن العملية تمتوفقًا لأوامر مني".
 
ومع أن قضية تدمير المساجد لا تشغل حيزًا خاصًا في الكتاب الذي أعده راز كليتـر، وهو عالم آثار إسرائيلي عمل في سلطة الآثار على مدار عشرين عامًا متواصلة، بعنوان "هل هو ماض فقط؟ تكوّن علم الآثار الإسرائيلي"، والذي صدر في بريطانيا العام 2006 [2]، إلا إنجوهر تاريخ علم الآثار الإسرائيلي يظهر في كتابه على أنه تاريخ متصل من التدمير:تدمير من الأساس لمدن وقرى، تدمير لثقافة كاملة، تدمير لحاضرها وماضيها. ويتبين من الشهادات المقتبسة في الكتاب أن هذاالتدمير قد تم، في جزء بسيط جداً منه، في خضم المعارك العسكرية، غير أن الجزء الأكبر منه تم في وقتلاحق، أي عقب انتهاء المعارك العسكرية، وحتى بعد توقيع اتفاقيات الهدنة في العام 1949، وذلك لأن بقايا الماضي العربي كانت "مصدر إزعاج" إزاء المشهد الجديد، وتعيد التذكير بالواقع الحقيقي الذي كان الجميع يحاول طمسه.
 
وقد كتب موظف إسرائيلي رفيع المستوى، اسمه أ. دوتان، وهو من دائرة الإعلام في وزارة الخارجية الإسرائيلية، في آب 1957، في سياق رسالة مقتبسة في كتاب كليتر بأن "خرائب القرى القريبة والأحياء العربية، أوكتل المباني المهجورة منذ العام 1948، تثير مشاعر صعبة وتتسبب بضرر سياسيكبير. وخلال الأعوام التسعة الأخيرة تم إخلاء الكثير من هذه الخرائب... غير أن ما تبقى منها برز بشكل أوضح مغايرًا للمشهد الجديد. ولذا يجدر بنا إخلاء هذه الخرائب التي لا يمكن إصلاحها والتي تفتقر إلى أي قيمة أركيولوجية". ونوّه دوتان بأن الرسالة كتبت "بحسب أوامر وزيرة الخارجية"، والتي كانت في ذلك الوقت غولدا مئير.
 
ويكشف كليتر في كتابه حقائق أخرى تتعلق برئيس "دائرة الآثار الإسرائيلية"، شموئيل يافين، وبرجال وحدة الآثار، فحواها أنهم حاولوا مرة تلو مرة إيقاف عمليات التدمير هذه. غير أن هذه المحاولات لم تكن بصورة دائمة، كما أنها لم تُبذل لا بشكل مثابر، ولا لأسباب أخلاقية أو لأسباب أخرى تحيل إلى منطلق احترام بني البشر (العرب) الذين عاشوا طوال مئات الأعوام في هذه القرى أو الأحياء، وإنما كانت اعتبارات أصحابها بمنزلة اعتبارات علمية محض، وكليتر مقتنع بأن هذه المقاربة كانت نابعة مما يسميه "خلفياتهم المهنية". وهو يقول في هذا الصدد إن "يافين لم يكن أكبر عالم آثار في العالم، غير أنه كان يتحلى باستقامة شخصية، والتي بحسب معاييره التي اكتسبها من بريطانيا تُعتبر الميزة الأهم. بيد أن هذا الميراث المهني لم يتوافق مع النزعة القومية المتطرفة الإسرائيلية في الخمسينيات،لأن بن غوريون أراد محو كل ما كان قائمًا، وخصوصًا أراد محو الماضي الإسلامي".وفي نظر بنغوريون، فإن كل ما كان موجودًا قبل "تجديد" أو "بعث" الاستيطان اليهودي هو أرض قاحلة، وهذا هو ما عناه عندما قال في مؤتمر خُصص لأبحاث أرض إسرائيل عقد في العام 1950 إن "محتلين أجانب قد جعلوا من بلدنا صحراء"!. ومن هنا يمكن فهم الفشل الذي مني به يافين ورجال من أمثاله في محاولة المحافظة على شيء، ولو يسير، من هذا الماضي. ويمكن بوضوح تكوين الانطباع من كتاب كليتر هذا بأن التدمير لم يكن عرضيًا، وأنالذي نفذه كان يعي مغزاه الحقيقي. فالبرنامج الفكري لهذا التدمير كان مفصلاً في رسالة وزارةالخارجية في آب 1957 بناء على طلب غولدا مئير، والمذكورة آنفًا. فبعد أن طلب المسؤول في هذه الوزارة، أ.دوتان ذاته، من المدير العام لوزارة العمل "إخلاء الخرائب"، قام بتصنيفها إلى "أربعةأنواع" من "الخرائب" وفق التبريرات التالية:
 
"أولاً يجب التخلص من الخرائب وسط المستوطنات اليهودية، في المراكز المهمة أو على طرق المواصلات المركزية؛ المعالجة السريعة لخرائب القرى التي بقي سكانها في البلد...؛ المناطق التي تجري فيها عمليات تطوير كما هي الحال على طول خط سكة الحديدمن القدس إلى بار- غيورا، فلدينا انطباع محبط بأن أرض الثقافة تتنفس؛ كذلك يجبالانتباه إلى الخرائب في مناطق السياحة الواضحة... وبناء عليه فإن المطلوب هو أن تتولى وزارة العمل أمر إخلاء الدمار... ويجدر الأخذ بالحسبان أن التعاون مع جهات غير حكومية يتطلب إبداءالحذر، لأنه من الناحية السياسية يفضل إتمام ذلك من دون أن يقف أحد على أهميتهالسياسية".
 
ويقول كليتر إنه فوجئ باكتشاف حجم التدمير، ولكن بقدر معين فإنه يتفهم رغبة القائمين على التدمير. ومع ذلك، فإنه يعترف أن كتابه هو أيضًا "كتاب عن الخسارة، عما كان يمكن أن يكون هنا ولم يعدموجودًا. إنه خسارة لعلم آثار بدأ مع تقاليد علمية ولم يستمر فيها، خسارة معلوماتتاريخية هائلة، خسارة مشهد القرى". ويضيف: "أنا لا أعتقد أن مشهد القرى ذاك يعود لنا، بل هويعود إلى أناس أقاموا هنا، ومع ذلك ثمة توق إلى المشهد الضائع هذا. ليس في إمكاننا استعادته، ولكن على الأقل يجدر بنا أن نقر بالحقيقة وأن لا نكذب على أنفسنا" [3].
 
دلالة التدمير الثقافي
 
إن تدمير الماضي العربي الإسلامي لفلسطين لم يقتصر على الجانب الماديّ فحسب، وإنما شمل أيضًا الجانب الثقافي (كي تكف الأرض عن تنفس الثقافة، كما لُمّح أعلاه) وذلك في إطار أوسع هو سعي الحركة الصهيونية إلى اغتيال الهوية الفلسطينية، التي هي هوية ثقافية أساسًا.
 
وفي هذا الصدد من الجدير الإشارة إلى أن باحثًا إسرائيليًا يدعى غيش عميت، يتميّز بالتوجه النقدي، قام مؤخرًا بنشر مقالة أعرب فيها عن بعض الهواجس التي انتابته في سياق إعداده بحثًا لنيل شهادة الدكتوراة في قسم الأدب العبري في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، ويتمحور حول عملية النهب المبرمجة لكتب الفلسطينيين ومكتباتهم العامرة في العام 1948 وما تلاه، وحول دلالة "تأثيث" بعض أجنحة "المكتبة القومية الصهيونية" بـ "غنائم" عملية النهب هذه [4].
كتبه في هذا المجال أنه في الأعوام القليلة الفائتة كتبت في إسرائيل دراسات نقدية ليست قليلة عن النتائج الهدّامة، على الأقل بالنسبة لـ "المهزومين"، المترتبة على حرب العام 1948. وهكذا بات كثيرون يعرفون، الآن، مزيدا من المعلومات عن اللاجئين (الفلسطينيين) وعن الكيفية التي منعت إسرائيل بواسطتها، عمدًا وبمنهجية بالغة، عودتهم إلى بيوتهم. كما بات هؤلاء يعرفون أن الصيغة الشعبية- الأخلاقية- البطولية لـ "حرب الاستقلال" (وهو الاسم الرسمي لنكبة 1948 في القاموس الإسرائيلي)، حسبما غدت ثابتة في عمق الروح الصهيونية، هي صيغة مزيفة ومحرّفة في أقل تعديل. بل ويعرفون بعض الأشياء عن نطاق ملكية اللاجئين وعن نهب الأملاك والأراضي والمصانع، وعن مصادرتها وبيعها، بدايةً للجيش الإسرائيلي، ومن ثمّ لكل من يدفع أكثر. مع ذلك فقد بقي الإسرائيليون أميين تقريبًا فيما يتعلق بالكارثة التي ألحقتها تلك الحرب بالثقافة الفلسطينية.
نشر الباحث، في إطار مقالته الأولية هذه، عددًا من الوثائق المتعلقة بنهب الكتب والمكتبات العائدة إلى الفلسطينيين في القدس الغربية.
 
ومن هذه الوثائق رسالة، يؤكد الباحث عدم معرفة هوية كاتبها، أرسلت إلى د. كورت وورمان، مدير "دار الكتب الوطنية الإسرائيلية"، في 26 تموز 1948، بعد ثلاثة أشهر من احتلال حيّ القطمون في القدس، وبعد بضعة أسابيع من تعيين دوف يوسيف حاكمًا عسكريًا لـ "مدينة القدس الغربية".
 
ومما ورد في هذه الرسالة:
"بحسب تقديري فقد تمّ حتى الآن جمع حوالي اثني عشر ألف كتاب، وربما أكثر. قسم كبير من مكتبات الكتاب والمتعلمين العرب موجود الآن في مكان آمن. كما توجد في حيازتنا بضعة أكياس من المخطوطات التي لم تتضح قيمتها بعد. إن غالبية الكتب مصدرها من القطمون، ولكن أيضًا وصلنا إلى حيّ الألمانية والبقعة والمصرارة. لقد وجدنا بضع مكتبات عربية فاخرة في المصرارة. وأخرجنا من المصرارة أيضًا قسمًا من مكتبة المدرسة السويدية. لم تهدأ النفوس بعد في ذلك المحيط، لكن آمل بأن يكون في وسعنا مواصلة العمل هناك في غضون الأيام القريبة القادمة... قبل عدة أيام وضعت الجامعة (المقصود الجامعة العبرية في القدس) تحت تصرّف هذه العملية 2- 3 عمال من مستخدميها. وقد أدى هذا إلى تحسن كبير في العمل الذي اقتصر عدد المشتغلين فيه خلال الفترة الأخيرة على ثلاثة أشخاص فقط، هم غولدمان، إلياهو وأنا. وهؤلاء لم يعملوا فيه يوميّا وإنما على فترات متقطعة".
 
ويشير الباحث إلى أنه حتى أوائل العام 1949 تم جمع ثمانية عشر ألف كتاب آخر، وبذلك فقد تسلمت "دار الكتب الوطنيّة" المذكورة حوالي ثلاثين ألف كتاب من العرب سكان القدس الغربية فقط، هذا من دون حساب عدد الكتب التي جرى نهبها في مناطق أخرى، وأساسًا في المدن الفلسطينية الكبرى مثل حيفا ويافا.
 
وبعد ذلك يؤكد أن ثمة أمرين يستحقان الإشارة، في معرض توضيح كنه مغزى هذا النهب:
- أولاً- إن هذا النهب يجعل المطلعين عليه شهودًا على لحظة تجسّد، بالملموس، الشكل الذي تنبثق فيه ثقافة ما من رماد ثقافة أخرى، بعد أن تبيدها عن بكرة أبيها. فإن لحظة تخريب الثقافة الفلسطينية هي اللحظة نفسها لميلاد وعي إسرائيلي جديد، مؤسّس ليس فقط على محو وجود العرب، وإنما مؤسس أيضًا على تدمير ثقافتهم. وبعد تخريب الثقافة يمكن إعادة إنتاج الإدعاء الذي نقول بموجبه إن هذه الثقافة لم تكن قائمة هنا مطلقًا. وبطبيعة الحال ليس في وسع أي شيء أن يناقض هذا المفهوم أو يفنّده.
 
- ثانيًا- إن عملية السيطرة هذه تؤشر إلى سيرورة مسخ ثقافة حيّة وديناميكية، كانت مزدهرة في الوسط الحميم لبني البشر، إلى غرض متحفيّ. وذلك بأنه لن يمر وقت طويل حتى تجد غالبية الكتب العربية (المنهوبة) مكانها في محراب الكتب الإسرائيلي، محنطة فوق الرفوف وفي متناول الأيدي، لكنها فاقدة للحياة أو إلى ما يشي للحياة، بصورة مطلقة.
 
كذلك يتطرّق الباحث إلى مذكرة نشرها، بتزامن معين مع نشر الرسالة السالفة، د. شتراوس، وهو مدير قسم العلوم الشرقية في "دار الكتب الوطنية"، عنوانها "إعداد الكتب العربية من المناطق المحتلة". وقد كان شتراوس هذا، بحكم وظيفته، المسؤول المباشر عن تلقي الكتب المنهوبة وأرشفتها وحفظها. وتدل مذكرته تلك، ضمن أمور أخرى، على تأثره من تدفق الكتب على أبواب مكتبته، وكذلك تدلّ على قدر من البلبلة والضائقة في إحكام السيطرة على هذا الكم الكبير، ما حدا به إلى توجيه نداء من أجل تلقي مساعدة وتخصيص موظفين آخرين للقيام بهذه المهمة.
 
كما يورد هذا الباحث قائمة جزئية من لائحة بأسماء عشرات أصحاب الكتب والأحياء التي كانوا يسكنون فيها، وهي تظهر في تقرير جرى رفعه إلى مديرية "دار الكتب الوطنيّة" في آذار 1949 وتم حفظه في أرشيف الدولة. وتضم قائمة الباحث الأسماء التالية (طبقًا لنشرها في الأصل العبري): عجاج نويهض- البقعة؛ حنا سويدة- القطمون؛ خليل بيدس- البقعة؛ جورج سعيد- البقعة؛ ميخائيل قطان- البقعة؛ سليمان سعد- البقعة؛ عارف حكمت النشاشيبي- شارع سانت بول؛ جورج خماس- القطمون؛ خليل السكاكيني- القطمون؛ هنري قطان- البقعة؛ المحامي صايغ- المصرارة؛ يوسف هيكل- القطمون؛ توفيق الطيبي- القطمون؛ فرنسيس خياط- المصرارة؛ هاغوب مليكيان- الطالبية؛ أميليا صلاح- الحي الألماني؛ ص. ت. دجاني- حي السكة الحديد؛ س. أ. عواد- القطمون؛ فؤاد أبو رحمة- القطمون؛ ترجمان- شارع سانت بول؛ نيكولاس فرج- المصرارة؛ م. حنوش- الطالبية.
 
الصهيونية والمدينة الفلسطينية
 
يمكن القول إن هذا البحث، لدى استكماله، من شأنه أن يشكل دليلاً إسرائيليًا مهمًا آخر على حقيقة ليست جديدة.
 
ومؤدى هذه الحقيقة هو أنّ غياب المدينة الفلسطينية كان فعلاً ناجمًا، في الأساس، عن عملية تغييب مخططة، منهجية ومدروسة، تعرضت لها هذه المدينة من طرف المشروع الاستعماري الصهيوني.
 
ولدى استرجاعنا بعضًا من وقائع التاريخ نجد أن نكبة العام 1948 أدّت، من ضمن بضعة أشياء، إلى تدمير القاعدة الحضرية/ المدينية للفلسطينيين. ولا تزال الدراسات، التي تناولت بالرصد والتحليل مواقف الحركة الصهيونية واستعمارها الإحلالي إزاء المدينة الفلسطينية، قليلةً بعض الشيء. مع ذلك فنحن نعرف من خلال هذه الدراسات أنه عندما بدأ المشروع الصهيوني الإحلالي كان الشعب العربي الفلسطيني في خضم عملية تبلوره كشعب حديث في وطنه. صحيح أن المجتمع الفلسطيني في غالبيته كان مجتمعًا زراعيًا، لكن أنماط الاستثمار والتوظيف والمشاريع العامة، التي أدخلتها سلطات الانتداب البريطانية، ساهمت في تهيئة الأوضاع للتمايز الاجتماعي. كما أنها ساهمت في نشوء طبقات اجتماعية جديدة، على أساس نمط العلاقات الرأسمالية.
 
في بداية الانتداب البريطاني كانت المدن الفلسطينية تحتضن حوالي ربع السكان الفلسطينيين. وهذه النسبة زادت إلى حوالي 34 بالمئة لدى انتهاء فترة الانتداب. وبالمقارنة مع أقطار أخرى في الشرق الأوسط، فإن نسبة التمدين في أوساط المجتمع الفلسطيني كانت مرتفعة بشكل خاص. وأيضًا من الناحية التكنولوجية كانت فلسطين تعدّ من الأقطار المتقدمة في الشرق الأوسط (وهذا ما تدل عليه الإحصاءات أيضًا). والمدن الفلسطينية الكبرى (يافا وحيفا والقدس مثلاً) شهدت حركتها العامة تطورًا ليس فقط للتجارة والبنوك والصناعات الخفيفة والمواصلات والحركة النقابية، وإنما شهدت أيضًا تطورًا ملحوظًا للحياة الثقافية والاجتماعية المتنوعة. وهذا ما تمثل عليه مجموعة كبيرة من "المؤسسات الثقافية" الفاعلة، ومن بينها المسارح والفرق الفنية الأخرى.
 
وإذا ما وضعنا حتى هذه "المعطيات الباردة" أمامنا نستطيع أن ندرك أسباب عداء الحركة الصهيونية للمدينة الفلسطينية على وجه التحديد. هذا العداء تمّت ترجمته إلى تعبيرات نافذة في "حرب التقسيم". فإنّ المدن الفلسطينية احتلت وجرى "تطهيرها" قبل 15 أيار 1948- التاريخ الرسمي لاندلاع حرب فلسطين. والجماهير الفلسطينية المدينية طردت في نيسان 1948. وعند انتهاء المعارك بقي في جميع المدن الفلسطينية أقل من نسبة خمسة بالمئة مما كان فيها من السكان. وهؤلاء كان القسم الأكبر منهم لاجئين من قرى المنطقة.
 
هكذا تتراءى أمام ناظرنا الصورة المزدوجة التالية، المتصلة مبنىً ومعنىً:
من جهة واحدة تم القضاء أو الإجهاز على المدينة الفلسطينية، بوصفها عاملاً مثورًا ونهضويًا متقدمًا، من الناحية القومية والثقافية كذلك.
ومن جهة أخرى جرت عملية ترييف- بالمفهوم الثقافي والاجتماعي- للمدن الفلسطينية الباقية داخل تخوم "الخط الأخضر" (وهذا ما يمثّل عليه، بشكل ساطع، نموذج مدينة الناصرة في الوقت الراهن).
 
ومع هذين الأمرين تمّ فرض حكم عسكري مشدّد على المجتمع الفلسطيني الباقي في حدود دولة إسرائيل، والذي أعيد القهقرى عدة أجيال.
وما ارتكبته السلطات الصهيونية بإزاء المدينة الفلسطينية، على مستوى الدلالات الثقافية، ارتكبته لاحقًا سلطات الدولة الإسرائيلية بإزاء المدن في الضفة الغربية بعد عدوان حزيران 1967، وفي الأساس تدمير البنية الحضرية للمدينة (إن القدس هي مثل واحد على ما أقصد).
 
بناء على ذلك فإن تغييب المدينة الفلسطينية أريد من ورائه تسديد طعنة نجلاء إلى بدايات مشروع الحداثة الفلسطينية.
 
***            
تجدر الإشارة إلى أن الباحثة الفلسطينية د.منار حسن أنجزت مؤخرًا أطروحة دكتوراة عنوانها "في حضرة المغيبات: الحاضرة (المدينة) الفلسطينيةونساؤها والحرب على الذاكرة".
 
ومما أكدته هذه الأطروحة أن المدينة الفلسطينية قد غيبت في حيزين: الحيز الجغرافي وحيز الذاكرة. وأشارت إلىأنه من بين إحدى عشرة مدينة فلسطينية، بينها ثلاث مدن مركزية، لم يبق في إثر نكبة 1948 إلا مدينة واحدة (الناصرة). وبعدتدمير المدن تمت عملية الترييف، الأمر الذي استأصل المدينة وأثر على النسيج الاجتماعي. وفقط في العقد الأخير من القرن العشرين الفائت،ونتيجة لتراكمات معينة، بدأت تظهر في داخل مناطق 1948 شرائح مدينية على هامش المدينة اليهودية، وأدت إلى حدوث  تحولات اجتماعية، لكن هذه التحولات لا تلغي الحالة الوجودية المترتبة على غياب المدينة، وهي تشكل حالة فريدة في التاريخ الحديث.
 
م

2011-01-29