ارشيف من :ترجمات ودراسات
"مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر ؟!"
عقيل الشيخ حسين
من بين المشاهد التي نقلتها القنوات الفضائية عن أحداث الثورة المصرية حدث ملفت يرسم الشكل الذي يمكن لحركية تلك الثورة أن تؤهلها للمضي قدماً نحو تحقيق أهدافها : عندما هجم جلاوزة النظام من فوق ظهور الخيول والجمال على جموع المتظاهرين نرى شاباً يقفز باتجاه أحد "الفرسان" فيسقطه عن ظهر حصانه ويرديه أرضاً بين صفوف المتظاهرين الذين تناولوه على الفور رفساً بالأقدام.
ودون أن يشارك ذلك الشاب في تأديب "الفارس"، خف سريعاً باتجاه بقية "الفرسان" الذين كانوا يواصلون اجتياحهم لصفوف المتظاهرين... لكن الكاميرا تتوقف عن متابعته... وإن كانت قد وضعت ذهن المشاهدين على السكة الصحيحة.
بعد أسبوعين من انطلاقتها، لم تحقق الثورة المصرية هدفها المرحلي المباشر المتمثل بإسقاط حسني مبارك. لأنها بكل بساطة لم تسع إلى إسقاطه عبر اللجوء إلى القوة، بل عبر التظاهر السلمي والاحتشاد الجماهيري والتعبير اللغوي بما هو رسالة ترك لحسني مبارك أمر فك رموزها والتصرف بمقتضاها.
وكان أن أساء حسني مبارك فهم رسالة الشعب المصري وفضل، على سنة فرعون، وبعيداً عن الشرف والشهامة اللذين تقتضيهما الأخلاق العربية والإسلامية، أن يستكبر وأن يدعو نزال نزال !
وفي مقابل الشعب المصري الثائر، تكونت جبهة عريضة امتدت من قصور القاهرة إلى البيت الأبيض، مروراً بتل أبيب ومعظم العواصم العربية والدولية، وشرعت باستخدام أسلحتها البيضاء والسوداء والإعلامية والدبلوماسية في محاولة محمومة لقهر الثورة بكل الوسائل الممكنة.
وعندما غربت شمس يوم الجمعة التي أطلقت عليها الثورة اسم "جمعة الرحيل"، دون أن يرحل حسني مبارك، شاءت الجبهة المضادة أن ترى في ذلك فرصة استراتيجية لرفع منسوب هجومها المعاكس.
تراجع الأميركيون عن دعواتهم لتنحية مبارك، وأصبح وجوده ضرورياً لإضفاء الشرعية على ورشة الإصلاحات الموعودة. ووصل بعضهم إلى حد وصفه، بعد كل ما أطلقوه عليه من نعوت الاستبداد والدكتاتورية، بـ "الصديق القوي" و"الرجل الصالح".
وفي أجواء ما قام به النظام من تراجعات شكلية، استجابت بعض عناصر المعارضة لدعوات التفاوض، طمعاً بمغنم، أو على سبيل حسن النية والتذرع بالصبر الجميل. وهذا أيضاً، شاءت الجبهة المضادة أن تعتبره انتصاراً للنظام عبر عن نفسه في الابتسامات العريضة التي، بعد طول تجهم، غطت وجه وزيرة الخارجية الأميركية، ومن خلفها أساطيل السياسيين والإعلاميين والمحللين في طول العالم وعرضه.
وللحظة، اشيع الانطباع بأن الثورة المصرية قد أجهضت إلى درجة أن نجل الرئيس، الذي كان قد فر قبل أيام إلى لندن، حزم حقائبه وتهيأ للرجوع إلى مصر. وإلى درجة أن أصواتاً ارتفعت في مؤتمر الأمن الدولي المنعقد حالياً في ميونيخ لتطلب من مبارك ألا يسمح بإجراء انتخابات في مصر !
لكن يوم الأحد جاء وفياً لما سبقه من أيام تصاعد الثورة بتظاهراته التي لم تكن أقل مليونية عن الأيام السابقة. والمفاوضون عادوا من التفاوض مقتنعين بأنهم لم يغنموا شيئاً غير خفي حنين.
وعادت مصر إلى معركة العض على الأصابع. المتظاهرون بصمودهم وإصرارهم على رحيل مبارك، والجبهة المضادة بمراوغاتها وتكتيكاتها ومحاولاتها الالتفافية وحربها النفسية واستنفار وسائل القمع والإرهاب. ونتيجة العركة معروفة سلفاً : أيها أكثر قدرة على تحمل الألم، أصابع الغلابى المجبولة بتراب مصر وصخورها أم أنامل المترفين المتنعمين بخيرات مصر وبأثمان خياناتهم ؟
وكل المؤشرات كانت تذهب، مساء الأحد، لحظة كتابة هذه السطور، باتجاه احتمال رفع منسوب القمع في محاولة لإجبار المتظاهرين على إخلاء ميدان التحرير.
لا أحد يعرف كيف سيتطور الوضع في مصر يوم الإثنين وما سيتلوه من أيام. لكن بات من المحقق أن ما يجري حالياً في مصر، أياً يكن شكل الحيثيات الآنية، يندرج في سياق تاريخي وجغرافي-سياسي ذي وجهة واضحة : هل كان يمكن لهزائم أميركا و"إسرائيل" في المنطقة أن تمر دون أن تنعكس بمفاعيلها الكارثية على الأنظمة المرتبطة ؟
بكلام آخر، وحتى لو حدث للثورة المصرية أن تعثرت لبعض الوقت، فإن الشعب المصري الذي تجاوز عتبة الخوف بعد عقود من التخويف المنهجي، واغتنى من ثورته الراهنة بتجربة هو في أمس الحاجة إليها، لن يعود إلى القمقم الذي كان محبوساً فيه.
وإذا حدث له أن هدأ لبعض الوقت، فإن هدوءه لن يكون غير الهدوء الذي يسبق عاصفة لا يمكنها إلا أن تكون أشد عتواً وأكثر قدرة على زعزعة نظام تزعزت أوصاله ودب في أرجائه الذعر والوهن.
وإلى غنى التجربة التي اكتسبتها، لا بد للثورة المصرية من تقصير أمد مخاضها الصعب. ولا سبيل لذلك –في زمن انهيار الليبرالية، بعد انهيار شقيقتها الشيوعية- إلا من خلال الوعي بهوية مصر الأصيلة : تلك التي خرجت بفضلها مصر من غياهب الفرعونية إلى نور الإسلام.
وفي الوقت الذي تجرأ فيه بعض كبار ممثلي دين السلاطين على وصف الثورة المصرية بأنها "فتنة"، وبأن وسائل الإعلام التي تدعمها بأنها "منحرفة"، تقتضي الغيرة على مصر وثورتها، ويقتضي الغضب لمصر وثورتها، أن تدفع باتجاه إسراع الثورة المصرية إلى أن تقتبس لنفسها قبساً من المشكاة التي لا ينطفيء نورها، من تلك المشكاة التي قبست منها الثورة الإسلامية في إيران ما فتح لها سبل الانتصار، من تلك المشكاة التي قبست منها المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان قوة إلحاق الهزائم بالجيوش التي لا تقهر.
على خطى ذلك الشاب المصري الذي أسقط "الفارس" المأجور وتابع تقدمه إلى الأمام، لا يسع مصر الآيبة إلى هويتها إلا أن تحتل موقعها الريادي في تحرير المنطقة وفي إزالة الغمة عن وجه العالم.
من بين المشاهد التي نقلتها القنوات الفضائية عن أحداث الثورة المصرية حدث ملفت يرسم الشكل الذي يمكن لحركية تلك الثورة أن تؤهلها للمضي قدماً نحو تحقيق أهدافها : عندما هجم جلاوزة النظام من فوق ظهور الخيول والجمال على جموع المتظاهرين نرى شاباً يقفز باتجاه أحد "الفرسان" فيسقطه عن ظهر حصانه ويرديه أرضاً بين صفوف المتظاهرين الذين تناولوه على الفور رفساً بالأقدام.
ودون أن يشارك ذلك الشاب في تأديب "الفارس"، خف سريعاً باتجاه بقية "الفرسان" الذين كانوا يواصلون اجتياحهم لصفوف المتظاهرين... لكن الكاميرا تتوقف عن متابعته... وإن كانت قد وضعت ذهن المشاهدين على السكة الصحيحة.
بعد أسبوعين من انطلاقتها، لم تحقق الثورة المصرية هدفها المرحلي المباشر المتمثل بإسقاط حسني مبارك. لأنها بكل بساطة لم تسع إلى إسقاطه عبر اللجوء إلى القوة، بل عبر التظاهر السلمي والاحتشاد الجماهيري والتعبير اللغوي بما هو رسالة ترك لحسني مبارك أمر فك رموزها والتصرف بمقتضاها.
وكان أن أساء حسني مبارك فهم رسالة الشعب المصري وفضل، على سنة فرعون، وبعيداً عن الشرف والشهامة اللذين تقتضيهما الأخلاق العربية والإسلامية، أن يستكبر وأن يدعو نزال نزال !
وفي مقابل الشعب المصري الثائر، تكونت جبهة عريضة امتدت من قصور القاهرة إلى البيت الأبيض، مروراً بتل أبيب ومعظم العواصم العربية والدولية، وشرعت باستخدام أسلحتها البيضاء والسوداء والإعلامية والدبلوماسية في محاولة محمومة لقهر الثورة بكل الوسائل الممكنة.
وعندما غربت شمس يوم الجمعة التي أطلقت عليها الثورة اسم "جمعة الرحيل"، دون أن يرحل حسني مبارك، شاءت الجبهة المضادة أن ترى في ذلك فرصة استراتيجية لرفع منسوب هجومها المعاكس.
تراجع الأميركيون عن دعواتهم لتنحية مبارك، وأصبح وجوده ضرورياً لإضفاء الشرعية على ورشة الإصلاحات الموعودة. ووصل بعضهم إلى حد وصفه، بعد كل ما أطلقوه عليه من نعوت الاستبداد والدكتاتورية، بـ "الصديق القوي" و"الرجل الصالح".
وفي أجواء ما قام به النظام من تراجعات شكلية، استجابت بعض عناصر المعارضة لدعوات التفاوض، طمعاً بمغنم، أو على سبيل حسن النية والتذرع بالصبر الجميل. وهذا أيضاً، شاءت الجبهة المضادة أن تعتبره انتصاراً للنظام عبر عن نفسه في الابتسامات العريضة التي، بعد طول تجهم، غطت وجه وزيرة الخارجية الأميركية، ومن خلفها أساطيل السياسيين والإعلاميين والمحللين في طول العالم وعرضه.
وللحظة، اشيع الانطباع بأن الثورة المصرية قد أجهضت إلى درجة أن نجل الرئيس، الذي كان قد فر قبل أيام إلى لندن، حزم حقائبه وتهيأ للرجوع إلى مصر. وإلى درجة أن أصواتاً ارتفعت في مؤتمر الأمن الدولي المنعقد حالياً في ميونيخ لتطلب من مبارك ألا يسمح بإجراء انتخابات في مصر !
لكن يوم الأحد جاء وفياً لما سبقه من أيام تصاعد الثورة بتظاهراته التي لم تكن أقل مليونية عن الأيام السابقة. والمفاوضون عادوا من التفاوض مقتنعين بأنهم لم يغنموا شيئاً غير خفي حنين.
وعادت مصر إلى معركة العض على الأصابع. المتظاهرون بصمودهم وإصرارهم على رحيل مبارك، والجبهة المضادة بمراوغاتها وتكتيكاتها ومحاولاتها الالتفافية وحربها النفسية واستنفار وسائل القمع والإرهاب. ونتيجة العركة معروفة سلفاً : أيها أكثر قدرة على تحمل الألم، أصابع الغلابى المجبولة بتراب مصر وصخورها أم أنامل المترفين المتنعمين بخيرات مصر وبأثمان خياناتهم ؟
وكل المؤشرات كانت تذهب، مساء الأحد، لحظة كتابة هذه السطور، باتجاه احتمال رفع منسوب القمع في محاولة لإجبار المتظاهرين على إخلاء ميدان التحرير.
لا أحد يعرف كيف سيتطور الوضع في مصر يوم الإثنين وما سيتلوه من أيام. لكن بات من المحقق أن ما يجري حالياً في مصر، أياً يكن شكل الحيثيات الآنية، يندرج في سياق تاريخي وجغرافي-سياسي ذي وجهة واضحة : هل كان يمكن لهزائم أميركا و"إسرائيل" في المنطقة أن تمر دون أن تنعكس بمفاعيلها الكارثية على الأنظمة المرتبطة ؟
بكلام آخر، وحتى لو حدث للثورة المصرية أن تعثرت لبعض الوقت، فإن الشعب المصري الذي تجاوز عتبة الخوف بعد عقود من التخويف المنهجي، واغتنى من ثورته الراهنة بتجربة هو في أمس الحاجة إليها، لن يعود إلى القمقم الذي كان محبوساً فيه.
وإذا حدث له أن هدأ لبعض الوقت، فإن هدوءه لن يكون غير الهدوء الذي يسبق عاصفة لا يمكنها إلا أن تكون أشد عتواً وأكثر قدرة على زعزعة نظام تزعزت أوصاله ودب في أرجائه الذعر والوهن.
وإلى غنى التجربة التي اكتسبتها، لا بد للثورة المصرية من تقصير أمد مخاضها الصعب. ولا سبيل لذلك –في زمن انهيار الليبرالية، بعد انهيار شقيقتها الشيوعية- إلا من خلال الوعي بهوية مصر الأصيلة : تلك التي خرجت بفضلها مصر من غياهب الفرعونية إلى نور الإسلام.
وفي الوقت الذي تجرأ فيه بعض كبار ممثلي دين السلاطين على وصف الثورة المصرية بأنها "فتنة"، وبأن وسائل الإعلام التي تدعمها بأنها "منحرفة"، تقتضي الغيرة على مصر وثورتها، ويقتضي الغضب لمصر وثورتها، أن تدفع باتجاه إسراع الثورة المصرية إلى أن تقتبس لنفسها قبساً من المشكاة التي لا ينطفيء نورها، من تلك المشكاة التي قبست منها الثورة الإسلامية في إيران ما فتح لها سبل الانتصار، من تلك المشكاة التي قبست منها المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان قوة إلحاق الهزائم بالجيوش التي لا تقهر.
على خطى ذلك الشاب المصري الذي أسقط "الفارس" المأجور وتابع تقدمه إلى الأمام، لا يسع مصر الآيبة إلى هويتها إلا أن تحتل موقعها الريادي في تحرير المنطقة وفي إزالة الغمة عن وجه العالم.