ارشيف من :آراء وتحليلات

واشنطن في مواجهة التحدي ـ الاستحقاق المصري: سعي حثيث لاستيعاب الثورة؟

واشنطن في مواجهة التحدي ـ الاستحقاق المصري: سعي حثيث لاستيعاب الثورة؟
عبد الحسين شبيب
لم تواجه أي إدارة أميركية تحدياً استراتيجياً كالذي تواجهه اليوم في التعامل مع ما يمكن تسميته بلغة صناع القرار في واشنطن "بالأزمة المصرية الداهمة جداً". اخطر تحد استراتيجي كان عام 1979 عندما سقط شاه إيران محمد رضا بهلوي على يد ثورة شعبية قادها الامام الحميني الراحل (قدس سره). كان سقوط الشاه السريع كارثة على السياسة الخارجية الاميركية لا تزال واشنطن تدفع اثمانها مضاعفة حتى اليوم، وستبقى تدفعها حتى اشعار آخر.
بين ثورة ايران وثورة مصر مررت الولايات المتحدة قطوعات مهمة، جلها تم توظيفها في خدمة المصالح الاميركية وتوسيع رقعة انتشارها الجغرافي ومزيدا من الامساك بمفاصل مناطق عدة في العالم. مثلاً لم يشكل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق تحدياً للقوة الاميركية بقدر ما شكل فرصة لملء الفراغ مباشرة وزيادة منسوب التدخل الاميركي في الشؤون العالمية. ايضا لم يشكل اتحاد اوروبا بشطريها الغربي والشرقي تحديا بقدر ما وفر فرصا لضم قوى اوروبية تحت الابط الاميركي. اجتياح نظام صدام حسين للكويت كان لعبة منظمة ادارها الاميركيون للولوج مباشرة الى منطقة الخليج، على تخوم عدوهم الجديد: الثورة الاسلامية في ايران، بعدما انتهت صلاحية نظام صدام وفعاليته في اداء مهمة التصدي للثورة الايرانية. هجمات الحادي عشر من ايلول عام 2001 لم تكن كارثة بالمعنى الذي تم تسويقه لدى الجمهور الاميركي بل ذريعة لاخذ موافقته السريعة على سلسلة حروب جهز المحافظون الجدد في الولايات المتحدة عدتها مسبقاً. وايضا لم يكن تسويقها لدى الانظمة في العالم العربي والاسلامي على شكل "عقدة ذنب" وتحميلهم المسؤولية سوى ليطأطئوا رؤوسهم امام العاصفة الاميركية الجديدة. بهذا المعنى كانت هجمات الحادي عشر من ايلول اكبر من فرصة استراتيجية، بل مطلب اميركي للقفز نحو الشرق الاوسط الجديد بسرعة قياسية عن تلك التي انهمك الباحثون والمنظرون للجغرافيا الجديدة في تحديد المدى الزمني المطلوب لبلوغها.
وفي هذا السياق جاءت غزوة افغانستان واحتلالها، والحرب على العراق واحتلاله ومحاولة اسقاط نظام بشار الاسد في سوريا بالاتكاء على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم محاولة القضاء على حزب الله في حرب تموز 2006 ومحاولة القضاء على المقاومة الفلسطينية في الحرب الاخيرة على غزة. وفي كل تلك الحروب ابتلي الاميركيون بسوء تقدير وضع ما بعد الضربة. كل السيناريوهات التي رسموها كانت واعدة ومتفائلة، لكن النتائج جاءت معاكسة تماماً، بل مصيبة على القوة الاميركية العظمى وهيبتها. يقول الاميركيون اليوم ان الايرانيين وحلفاءهم (المستهدفون في كل تلك الغزوات)، قلبوا السحر على الساحر، وبات لهم قصب السبق سواء في افغانستان او العراق او سوريا او لبنان او فلسطين. مع الاشارة طبعاً الى هدف تلك الغزوات والحروب كان زيادة رقعة النفوذ الاميركي واكتساب مساحات جديدة توضع عليها رموز العلم الاميركي في الخارطة الارضية المعلقة في البيت الابيض والبنتاغون ووزارة الخارجية. في المحصلة لم يربح الاميركيون حلفاء جدد ومساحات نفوذ جديدة بالقدر الذي خططوا له، بل هناك من شاركهم الارباح (الايرانيون وحلفاءهم)، اما مناصفة او ربما اكثر. قد لا يقلق هذا الاميركيون كثيراً. لكن الامر مع مصر اليوم مختلف. هناك خسائر بالجملة لنحو ثلاثة عقود من العمل المضني بدأ مع الرئيس المغتال انور السادات ويكاد ينتهي مع الرئيس المكروه من شعبه حسني مبارك في لحظة غضب شعبي مصري عارم مما آلت اليه "أم الدنيا".
واشنطن في مواجهة التحدي ـ الاستحقاق المصري: سعي حثيث لاستيعاب الثورة؟يخطئ من يظن ان الاميركيين تفاجؤوا بما يجري الان وبالمدى الذي بلغته حركة الاحتجاجات والتظاهرات. ويخطئ من يظن انهم لم يحضروا انفسهم لهذه الساعة، لاسيما وان لديهم تجربة سابقة مع سقوط نظام الشاه لا يريدون تكرارها، ولاسيما وان لديهم تجارب حديثة تتعلق بسوء تقدير وضع ما بعد الحروب التي شنوها في العقد الماضي. تماما كما سيناريو تقسيم السودان وخطة تنفيذه رسما بعناية في واشنطن وتم تجهيز ادواته بدقة بدءا من تفجير احداث دارفور مرورا باتفاقية نيفاشا عام 2005 التي مهدت للانفصال، وصولا الى المحكمة الدولية التي وضعت سيفا على الرئيس عمر حسن البشير، فانه ومنذ مدة طويلة يتابع الاميركيون ما يمكن ان تؤول اليه التغييرات في مصر، وهم يدركون ان لحسني مبارك عمرا في الخدمة السياسية سينتهي لا محال، وعمرا كتبه الله سبحانه وتعالى له ولا بد هو ملاقيه في يوم من الايام. كما هم يتابعون كل النقاشات والمداولات بشأن الخلف ولهم ضلع كبير في عملية التهيئة التي كانت جارية على قدم وساق لكي يصبح جمال مبارك رئيسا لجمهورية مصر العربية، بالعربية التي يريدها الاميركيون والاسرائيليون طبعاً. وكما هو معروف فان عملية تقصي الاوضاع الصحية للرؤساء في اي بلد هي جزء من عمل اجهزة الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية، واجهزة استخبارات أي دولة لديها مصالح في دولة الرئيس المريض. مثلا عندما كان الرئيس الراحل حافظ الاسد تبدو عليه امارات التعب انهمك الاسرائيليون والاميركيون في تشخيص امراضه والحصول على ما امكنهم من معلومات بهذا الشأن لكي يضعوا عمرا افتراضيا متبقيا له ولكي يحاولوا تخيل سوريا ما بعد حافظ الاسد ويستعدوا للمرحلة الجديدة. وحصل ان الملك الاردني الحسين بن طلال توفي وذهب الرئيس حافظ الاسد للمشاركة في جنازته، فوضعت الاستخبارات الاسرائيلية علبة في المرحاض الذي يفترض ان يستخدمه الرئيس الاسد لكي يحصلوا على عينة من بوله ويجروا له تحليلا لمعرفة ما يعانيه من امراض. اذا كان الاميركيون والاسرائيليون مهتمين جداً لهذه المعرفة، هل هم لم يهتموا بالبحث المسبق لمرحلة ما بعد حسني مبارك، سيما وان رحيل نظامه تحت ضغط الثورة سيشكل كارثة استراتيجية على الولايات المتحدة واسرائيل بكل ما للكلمة من معنى. واذا كان الاميركيون رعوا تنظيما سلسا لانتقال السلطة في الاردن البلد الصغير قياسا الى مصر، من الملك الحسين بن طلال الى ابنه عبد الله الثانية بعد تطيير شقيق الاول الامير الحسن بن طلال، فهل سيتركون الامر على غاربه في اكبر بلد عربي يتمتع بمواصفات جيواستراتيجية كمصر؟
ما الذي يجري الان؟ وهل عملية ايقاف حسني مبارك على رجليه حتى الساعة مسالة غير منظمة؟ قطعاً لا. فثمة ادارة منظمة جهزت مسبقاً من اجل استيعاب اي تحرك شعبي بالقدر الذي تشهده مصر اليوم، بحيث بات يصح القول ان هناك عملية التفاف معدة سلفاً على نتائج الثورة يراد لها ان تخلق النظام الحالي بهيئة جديدة يتم الباسه فيها لبوسا شرعياً. فمثلاً، تحول اللواء عمر سليمان بين ليلة وضحاها الى نائبٍ للرئيس المصري واقسم اليمين الدستورية امام حسني مبارك نفسه، وبات سليمان الذي يرأس جهاز الاستخبارات العامة مقصد المفاوضين ويلقي العظات ويوجه الخطابات ويستقبل ممثلي المتظاهرين وممثلي احزاب المعارضة ليبحث في الاستجابة لمطالبهم، وهو، اي سليمان، يتولى منذ سنوات طويلة توفير الحماية الامنية لنظام حسني مبارك، ويعتبر شخصا مرغوبا ومحببا في الولايات المتحدة واسرائيل التي قلما يغادرها. واذا كان من قمع امني وحجز للحريات وارهاب للمواطنين فان لعمر سليمان ضلع فيه، بصفته المسؤول الامني الأول في مصر واحد ابرز اعمدة النظام الحالي، فكيف اصبح الان مؤهلاً لكي يلبي مطالب المعترض على القمع والفساد والارهاب الفكري والجسدي؟
ايضا الجيش المصري اخرج بطريقة مدروسة الى الشارع، لكنه لم يقم بحماية المتظاهرين، بقدر ما يوفر حتى الان مدى زمنيا مطلوبا لنظام حسني مبارك لتحقيق ما يسميه الاميركيون "انتقالا سلسا ومنظما للسلطة"، ينتج ادارة جديدة للبلاد تشكل استمرارا للادارة السابقة. وبالتاكيد فان الدور الذي يلعبه الجيش تحدده قيادته التي يسوق الاعلام مقولات عن جماهيريتها، فيما هي الشريك الثاني والضلع الثاني للنظام الذي عليه يتكئ منذ عقود، وهي الراعية والحامية لاتفاقية كامب دايفيد والمنخرطة حتى العظم مع الاميركيين ورؤيتهم للمنطقة. ورغم ذلك يرد اسما وزير الدفاع المشير محمد حسين طنطاوي ورئيس الاركان سامي عنان في وسائل الاعلام حاليا بصفتهما رجلين مقبولين في الشارع المصري، لا اعتراض عليهما، الى حد ربما يصاب المرء بالعجب والدهشة وهو يسأل بمن كان حسني مبارك يروع الناس؟ وهل هو المسؤول عن كل هذا الفساد ولا شركاء له؟
ما تقدم يطرح اسئلة عما اذا كانت هناك عملية استيعاب منظمة للثورة يديرها الاميركيون لكي يضمنوا تغييرا في السلطة يكون عبارة عن تغيير اشخاص فقط، دون تغيير في السلوك؟ ولا احد ينسى العملية التي اطلقها الاميركيون بعد غزو العراق عندما نظموا مع حلفائهم الاقليميين عدة محاولات لتغيير النظام السوري جذرياً، ولما فشلوا راحوا يستخدمون عبارة "تغيير سلوك نظام بشار الاسد". اما في مصر فالحالة محتلفة تماما. الاميركيون يريدون تغيير اشخاص النظام لكنهم يريدون ضمان استمرار الفريق الجديد في السلوك القديم ذاته، بل يرفضون المس بهذا السلوك، لذا فانهم اليوم يضعون ثقلهم كي لا تحدث الثورة المصرية تغييرا استراتيجيا في دور مصر وهويتها وسياستها الخارجية، ويجهدون لكي يقتصر التغيير على الاسماء وحسب، والا ما يعنى ان يصبح هكذا وببساطة شخص مثل محمد البرادعي قائدا للتظاهرات ومرشحا لخلافة حسني مبارك، هو او عمر سليمان او محمد سيد طنطاوي او سامي عنان او حتى عمرو موسى. يبقى الامل في ان يبقى الثوار المصريون يتذكرون ان عقود القمع والارهاب التي يريدون ازاحتها عن كاهلهم هي صناعة اميركية واسرائيلية قبل ان تكون صناعة محلية، وان لا يغفلوا عن الاتصالات التي لا تنقطع بين القاهرة وواشنطن وزيارات كبار المسؤولين الاميركيين السياسيين والعسكريين والامنيين، المعلنة وغير المعلنة، والتي وضع لها عنوان واحد هو حماية اتفاقية كامب دايفيد ومفاعيلها، حتى لو اقتضى الامر التضحية بصديقهم المخلص حسني مبارك كما وصفه ديك تشيني.
2011-02-08