ارشيف من :آراء وتحليلات

جنون أميركا ودونكيشوتية حسني مبارك

جنون أميركا ودونكيشوتية حسني مبارك
عقيل الشيخ حسين
على طريقة المضاربين في البورصة، أو في سباقات الخيل، يتذبذب الموقف الأميركي من الثورة المصرية متنقلاً بين التشنج والتوتر واحتراق الأعصاب واتخاذ القرارات قبل التراجع عنها بسرعة الموجات الكهراطيسية التي تنقل أخبار مصر.

ويبدو أن آخر ما وقع عليه الاختيار الأميركي، حتى ظهور خيار آخر قد يأتي بين لحظة وأخرى، تبعاً لتطور الأحداث في مصر، هو ذاك الذي رسا، في ظل انتقال الثورة إلى مرحلة جديدة من التصعيد، على حل بهلواني يريد لنفسه أن يكون حلاً وسطاً بين رحيل مبارك وعدم رحيله في آن معاً : سفره إلى ألمانيا حيث يمكنه الخضوع لفحوصات طبية، مع احتفاظه بمنصب الرئاسة، مع أو بدون نقل صلاحياته إلى نائبه عمر سليمان. أو أي شيء آخر، لأن المهم أن يرحل، لأن الرهان الأميركي عليه بات محفوفاً بأخطار وشيكة متزايدة.

ويبدو، بعد مرور ساعات طويلة جداً (بمقياس الزمن النسبي) على الإعلان، بإيعاز لا يمكن إلا أن يكون أميركياً، عن قصة السفر هذه، أن مبارك لا يبدو مقتنعاً بهذا الحل. لا بل يبدو أنه في واد آخر تماماً. فهو يتكلم كما ولو أن تاريخ مصر قد تجمد قبل حقبة طويلة من 25 كانون الثاني / يناير 2011. فهو يولي ويعزل ويتخذ القرارات ويقطع عهوداً لعشرات الملايين من المتظاهرين بعد ملاحقتهم، ويعد بأنه سيمنحهم حرية التعبير. الحرية نفسها التي منحوها لأنفسهم ـ دون أن "يأذن لهم" ـ مقرونة بحرية الإرادة والحركة.  

وهو يفعل ذلك ربما  ـ إذا كانت فحوصاته الطبية تتعلق بصحته الجسدية وحسب ـ لأنه يأمل بأن تمنحه خارطة الطريق التي أعلن عنها نائبه عمر سليمان ما يكفي من الأسابيع والشهور للالتفاف على الثورة، أو ليموت ويدفن في تراب مصر، على ما قاله قبل أيام.

موقف لا شك بأنه يدفع أصحاب القرار الأميركي الذين يسعون إلى ما فيه مصلحته ومصلحتهم، نحو مزيد من الغوص في دوامة الجنون ـ تعنت مبارك من شأنه أن يرسم له مصيراً أدهى من موته حتف أنفه ـ ما الذي يضمن استمرار ثورة مصر في التحلي بالطيبة والصبر إلى ما لانهاية، في وقت بدأت فيه الجماهير بمحاصرة مقر الحكومة ووزارة الداخلية ومجلسي النواب والشورى، ولم يبق أمامها، بعد منع رئيس الحكومة من الدخول إلى مكان عمله، غير الانتقال إلى محاصرة معقل الرئيس وإلقاء القبض عليه، وربما شفاء الغليل منه، خصوصاً وأن أرض مصر قد تخضبت بدماء الشهداء الذين سقطوا برصاص جلاوزة مبارك وسواطيرهم.
وما الذي يضمن، في ظل هذا الاحتمال، أن يظل من الممكن ألا تنتهي صلاحية كل هذا الكلام عن خرائط الطريق والتعديلات الدستورية والانتقال السلمي والمنظم إلى الديموقراطية، وألا يتم انتقال الثورة إلى مرحلة الإسراع في الحسم المفضي إلى التغيير الجذري الذي سيصل حتماً ليس فقط إلى إلغاء المعاهدات العزيزة على قلب أميركا و"إسرائيل"، بل أيضاً إلى عودة مصر إلى تبوء موقعها الطبيعي في طليعة حركة التصدي لأميركا و"إسرائيل" ؟   

ولعل أكثر ما يغيظ الأميركيين في ظل امتناع مبارك عن التنحي الذي يتوهمون بأنه سيشيع الانطباع بين المتظاهرين بأنهم قد حققوا هدفهم ولم يبق عليهم غير الرجوع إلى بيوتهم، هو العجز الأميركي المستجد، منذ مرحلة الانهيار التي دشنتها أميركا في حربها الفاشلة على الإرهاب، عن التدخل بالشكل العسكري أو الاستخباري الذي طالما مارسوه مع ما لايحصى من ثورات تمكنوا من قمعها في العديد من بلدان العالم، يوم كانوا يمتلكون الثقة بقوتهم وبقدرتهم على فعل ما يريدون.

وخلف الأميركيين في تخبطهم الجنوني وغيضهم جوقة كبيرة من المتخبطين بعصبية واضحة خلال تنقلاتهم المحمومة بين العواصم للنظر في ما يمكن أو ينبغي فعله تجاه تطور الأحداث في مصر : ميركل في "إسرائيل" وباراك في واشنطن، وساركوزي في أديس أبابا، وسعود الفيصل في برلين، ومارغريت سكوبي وفرانك ويزنر ووزير الخارجية الإماراتي في القاهرة، ووليام هيغ في جولة واسعة على جميع العاصم.

أو من خلال طوفان التصريحات التي لمعت فيها أسماء نتنياهو وليفني وبلير وما لا يحصى غيرهم من المسؤولين السابقين والحاليين، ومن غير المسؤولين ممن يحملون صفة المعلقين والمحللين والمتكهنين والمحرضين.

وكل ذلك مفهوم ومبرر: ثورة مصر بدأت فعلاً بتغيير وجه مصر والعالم وبصورة تتسارع لحظة بلحظة. بورصات تقفل وأخرى تتراجع وعملات تهوي في مصر والخليج. أسعار النفط تقفز فوق حاجز المئة دولار، والغاز المصري لم يعد يتدفق على "إسرائيل" والخوف لم يعد مقتصراً في ما يتعلق بطرق الإمداد بالنفط على خليج هرمز الذي يعبر صحراء العرب ليعانق قناة السويس. وكل ذلك فقط في ما يخص الطاقة... إلى درجة أننا نسمع اليوم كلاماً أميركياً عن ضرورة وضع اليد على نفط الكويت بالقوة. في إشارة غير ذكية إلى بقية النفط العربي.

مجرد عربدة يائسة مردها إلى فقدان الأعصاب، لأن الأميركيين يعلمون أن السلاح الذي يشتريه منهم ومن غيرهم أمراء النفط بصفقات أسطورية لن يرفعه أولئك في وجوهم. عربدة يائسة لأن الزلزال المصري بكل ضخامته لم يكن غير مقدمة لسلسلة من الزلازل الأشد ضخامة تحديداً حول منابع النفط.

وكل ذلك وحسني مبارك يستفيد من طيبة المصريين وحلمهم وصبرهم الجميل، وبدلاً من الرحيل يعتلي جواده الهزيل ويمتشق سيفه المفلول ويفتح حرباً على طواحين الهواء في مهزلة ترتعد لكارثيتها فرائص أميركا وما يحيط بها من جوقات بائسة ويائسة.    
2011-02-09