ارشيف من :خاص
تقدير استخباري يوجّه أوباما: الجيش كان سيتحرك ضد مبارك وثورة مصر "زلزال لوضع الولايات المتحدة" في الشرق الأوسط
إعداد: علي شهاب
حلّت السياسة الأميركية إزاء مصر محور منتدى خاص عُقد في واشنطن بمشاركة العديد من المؤسسات البحثية، وافتتح "روبرت ساتلوف" أحد ابرز الوجوه الأكاديمية والفكرية في العاصمة الأميركية المنتدى بتوجيه النقاش باتجاه محاور محددة تعكس الى حد بعيد الأفكار التي يتم تداولها في كواليس الإدارة الأميركية، مع الإشارة الى أن هذه المداولات تضع أحداث مصر ضمن سياق التحول الحاصل في لبنان والعراق وسوريا لجهة تقدم أطراف "محور الشر" على حساب المصلحة الأميركية.
وهنا أبرز ما ورد في مداخلته:
"بينما يستمر الوضع في مصر في التكشف، تطورت السياسة الأمريكية بسرعة مروعة. ففي الأسبوع الثالث من الشهر الماضي صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن نظام مبارك كان مستقراً، لكن بحلول مساء الثلاثاء كان الرئيس أوباما يأتي بتصريحه اللافت بأن انتقال السلطة في مصر يجب أن يبدأ "الآن." إن هذا ليس أخطر تحد سياسي خارجي يواجه الإدارة الأمريكية الحالية فحسب بل أيضاً واحد من بين قائمة من التحديات غير المتوقعة وبعيدة الاحتمال. وبخلاف السيناريوهات التي تتضمن، على سبيل المثال، قيام كوريا الشمالية باستفزاز كوريا الجنوبية أو حتى هجوم إرهابي كارثي، تستعد له الولايات المتحدة وتضع له خططاً، فإن النهاية السريعة لرئاسة حسني مبارك إلى جانب الاختفاء الفعلي لـ "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم، والسقوط المحتمل لنظام كان يمثل أحد ركائز المكانة الأمريكية في الشرق الأوسط لخمسة وثلاثين عاماً يمثل تحدياً لم يكن متخيلاً.
وفي هذا السياق، يستحق الرئيس أوباما ومستشاروه بصورة عامة درجات عالية من الإشادة. وعلى الرغم من أن الإدارة كانت، في بعض الأحيان، غير متوازنة في تصريحاتها، إلا أنها قد حددت الآن سياسة معينة وتشهد نتائجها بصورة تدريجية. إن هذا موقف متطور، تستطيع الولايات المتحدة التأثير فقط على هوامش مساره. ومع ذلك، فقد تبنت الإدارة الأمريكية سياسة يمكن فقط وصفها بأنها جريئة ومُجازفة، جوهرها هو الاعتماد على الجيش المصري لأداء واجبه الوطني، وتنحية مبارك من السلطة. إن الأكثر احتمالاً هو أن يكون بيان أوباما عن "نقل السلطة" مرتكزاً على معلومات استخبارية، واستنتاج تحليلي مفاده أن القادة الكبار في الجيش المصري كانوا بالفعل على وشك اتخاذ خطوات ضد مبارك.
هل ينبغي أن يبقى مبارك أم يرحل؟
يبدو أن هذا السؤال قد أجيب عنه الآن بوضوح عالي جداً: في نظر الإدارة الأمريكية، يبدو أنه ينبغي أن يرحل. وبالنسبة للسياسة الأمريكية، وللمصريين عموماً، ليس هناك مستقبل لمبارك. ومع ذلك، هناك مسألة التوقيت، فقد طلب مبارك ثمانية أشهر أخرى، بينما توقف بيان الرئيس أوباما من مساء الثلاثاء على وشك قوله أنه يحتاج إلى الاستقالة فوراً، مما ترك مساحة للغموض. ولكن بالنسبة للشرق أوسطيين، إن ظهور صور مبارك وأوباما من على شاشات التلفزيون بعد لحظات من بعضهما البعض، أحدهما يقول "أيلول/ سبتمبر" والآخر يقول "الآن"، قد بعثت برسالة واضحة. والنتيجة هي أن كل يوم يبقى فيه مبارك في السلطة هو بمثابة توبيخ لأوباما. وفي الحقيقة، ربما يقرر مبارك أن يبقى فترة أطول قليلاً فقط كدلالة على أن أوباما لم يستطع تنحيته.
ما دور الجيش؟
إنه المتغير الأساسي في المعادلة. وأهم ملاحظة هي أنه، على الرغم من مليارات الدولارات من المساعدة الأمريكية وآلاف التبادلات العسكرية وعشرات المناورات المشتركة، هناك قطاعات كبيرة من الجيش المصري التي لا تعلم عنها الولايات المتحدة سوى القليل جداً. ومع ذلك، فحتى وصول الأنباء عن قيام أعمال عنف، كان الجيش يُعتبر المؤسسة الأكثر احتراماً في البلاد، وأنه ليس متواطئاً بالضرورة في تجاوزات النظام. ولذا فإنه هو المؤسسة الأكثر احتمالاً لإحداث تغيير.
وفي هذه اللحظة يمر الجيش بصراع عنيف على ولائه. فمن ناحية، عيّن مبارك قيادة ثلاثية من مختلف القطاعات العسكرية، الاستخبارات والجيش والقوات الجوية، لتقريب أولئك القادة إليه وكذلك القوات المسلحة، وجعلهم شركاء كاملين في جهوده الرامية لتمديد فترة حكمه. ومن ناحية أخرى، رفض الجيش (على الأقل حتى اندلاع أعمال العنف) إطلاق النار على المواطنين، وهي الحقيقة التي انعكست في مجاملات أوباما التخديرية يوم الثلاثاء. وفي الواقع، فإن كلاً من مبارك وأوباما يقوم بمناشدة الجيش، أحدهما يطلب منه "الثبات حتى النهاية"، والآخر يطلب منه "اتخاذ القرار الصحيح" بتنحية مبارك، وبدء نقل السلطة. إن القادة العسكريين في مأزق، لكن عليهم أن يقرروا أي طريق سيسلكونه قريباً، لأن كل يوم يمر بدون اتخاذهم أي مبادرة إنما يورطهم مع النظام. وأما بالنسبة للرئيس أوباما فإن كل يوم يمر بلا تغيير إنما يزيد من تآكل الصورة الأمريكية الواهنة بالفعل.
هل ينبغي على الولايات المتحدة تعليق المساعدات؟
احتج البعض من أجل تعليق جميع المساعدات الأمريكية إلى مصر على الفور. ورغم أنه بالإمكان تفهم هدفهم إلا أن رؤيتهم غير صحيحة. نقول ثانية إن عامل التغيير السلمي الأكثر ترجيحاً في هذه اللحظة، المؤسسة الأكثر احتمالاً بأن تؤدي إلى إحداث مرحلة نقل السلطة، هو الجيش. لذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الاستمرار في اتصالاتها مع هذه المؤسسة لكي تؤثر عليها إلى أقصى حد ممكن. إن الفكرة بأن واشنطن تكسب نفوذاً من خلال قطع المساعدات هي ببساطة رأي "لا يُترجم إلى العربية".
إن الإدارة الأمريكية محقة في الحفاظ على موقفها الراهن حول استمرار المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى مصر إلى أن تحصل على وضوح أكبر على أرض الواقع. وربما يأتي وقت، إذا ما قرر الجيش الاصطفاف كلية إلى جانب مبارك أو إطلاق النار على المتظاهرين، تستطيع فيه واشنطن أن تقرر ما إذا كانت ستعلق المساعدات أم لا، لكن ينبغي عليها في الوقت الحاضر أن تحافظ على النفوذ والتأثير المحدودين اللذين تتمتع بهما.
ماذا يعني نقل السلطة من الناحية العملية؟
إن نقل السلطة يعني بالتأكيد شيئاً مختلفاً لنائب الرئيس المصري الجديد عمر سليمان عما يعنيه لقادة المعارضة مثل محمد البرادعي أو مرشد «الإخوان المسلمين». ومن الصعب تصور شخصية من خارج النظام، أي شخص ليس عضواً في المؤسسة الأمنية الوطنية أو شخصية عامة موالية للنظام (مثل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى)، تظهر كقائد للمرحلة الانتقالية. وسيأتي هذا الزعيم على الأرجح من شخصيات الجيش من القيادة الثلاثية التي عينها مبارك. وحالما يتم اتخاذ قرار نهائي فإن الكثيرين من المعارضين ربما سيتنفسون الصعداء في الواقع، بعد كل ذلك الاهتمام الذي تركز على موضوع ما إذا كان مبارك سيتنحى عن منصبه أم لا. ولو أظهرت القيادة الجديدة أنها جادة في تنفيذ التغييرات الدستورية والقانونية والإدارية من أجل السماح بقيام انتخابات حرة ونزيهة، قد يكون ذلك كافياً.
المشهد الأوسع
ربما تبدو الأحداث في مصر مبتذلة لكنها زلزال حقيقي تجاه وضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فلم تكن واشنطن مُوفقة حتى قبل أحداث الأسبوعين الأخيرين، حيث "تحولت" لبنان من الحريري إلى «حزب الله»، وأفلتت سوريا من سنوات العزلة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، وعاد مقتدى الصدر "ليمتطي صهوة الحصان" في العراق، كما أن "عملية السلام" ـ التي أعلن أوباما أنها أولوية قصوى ـ قد بقيت عالقة بصورة مُقبضة على الحياد لمدة عامين. كما أن الانتصارات القليلة للإدارة الأمريكية مثل الدعم الواسع للعقوبات على إيران ليست على المستوى المناسب.
إن تقييماً واقعياً للموقف في مصر في الوقت الحالي يقود المرء إلى الاستنتاج بأن الوضع هو ليس الكارثة التي يخشاها البعض، ولا هو فجر اليوم الجديد الذي يتمناه أخرون. فكلا المُحصلتين ممكن. ومن منظور إيجابي كانت الاحتجاجات إلى حد كبير ضد مبارك، لكنها لم تكن ضد الولايات المتحدة أو ضد السلام، وبالطبع يمكن لهذا أن يتغير. ومن منظور سلبي يمكن لغياب قيادة المعارضة فتح طرق لعناصر أكثر تطرفاً لملء الفراغ.
وبناءاً على ذلك، فإن القلق من احتمال ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» له ما يبرره، فـ «الإخوان» ليسوا كما يرى البعض بأنهم مجرد نسخة مصرية من منظمة "مارش أوف دايمس" (مؤسسة خيرية أمريكية تلتزم بتحسين صحة الأطفال)، بل إنهم تجمع متأصل سياسياً يسعى إلى إعادة تنظيم المجتمع المصري (والمجتمع المسلم الأكبر) لصبغه بصبغة إسلاموية. ومن الناحية التكتيكية سوف تستغل «الجماعة» أية فرص تعرض عليها، وقد تخلت عن أهدافها الأكثر طموحاً، ووسائلها العنيفة، فقط نتيجة إلزامات النظام وليس عن طريق الاختيار الحر.
ورغم أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن لا تفعل شيئاً من أجل ضم جماعة «الإخوان المسلمين» إلى البنية السياسية المستقبلية لمصر، لا ينبغي لها أيضاً أن تعمل على افتراض أن صعود «الجماعة» إلى السلطة أمر حتمي، نظراً للنطاق الواسع من البدائل السياسية في البلاد. وفي الواقع، فإن مثل هذا الافتراض هو خطير للغاية، ويمكن أن يصبح نبوءة متوقعة التحقق.
وأما عن المخاوف تجاه الوضع الإقليمي لمصر، هناك بعض التغييرات التي هي بالتأكيد جيدة. فقد ذهب ذلك الركن الداعم لسياسة الولايات المتحدة ـ حالياً لا توجد دولة عربية مستعدة وقادرة على إظهار القوة بصورة أكثر أو أقل ـ بالاشتراك مع الولايات المتحدة. وسوف يقول البعض أن ذلك لم يكن هو الحال مع مصر لبعض الوقت، ومع ذلك، فعلى الرغم من تضاؤل تأثير مصر في الواقع، إلا أنه ليست هناك دولة عربية أخرى يمكن في أي وقت أن تقترب من مكانة مصر حتى في أيامها السيئة. ويمكن إعادة تجديد مكانة القاهرة كركن لو أدى انتقال السلطة إلى قيام حكومة جديدة تحظى بدعم شعبي، وترى في الوقت نفسه قيمة في شراكتها الاستراتيجية المستمرة مع الولايات المتحدة، وهي تركيبة صعبة لكنها غير مستحيلة. بيد أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً.
العلاقات بين إسرائيل ومصر
إن التكهن حول رؤية الحكومة التي تقوم في الفترة ما بعد مبارك فيما يتعلق بالجبهة العربية الإسرائيلية، هو محض تخمين. ورغم ذلك، هناك تقييمات معينة جديرة بالاهتمام.
أولاً: من غير المحتمل أن تلغي القاهرة معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية، فالأمن القومي المصري مرتبط جداً بها. ومن المرجح أن يؤدي تطلّع مصر إلى تعظيم مصالحها، إلى حفاظها على علاقاتها مع إسرائيل.
وفيما وراء المعاهدة نفسها، ترأس مبارك بلاده في ظل قيام سلام بارد مع "إسرائيل"، بحيث لا يوجد سوى عدد قليل من العوامل التي يمكن أن تتغير. فعلى المدى القريب تشكل مبيعات الغاز لإسرائيل، والتشغيل المستمر لـ "المناطق الصناعية المؤهلة" متغيران محتملان. فلو حددت حكومة جديدة في القاهرة موقفها وركزته بصور بحتة على المصالح المصرية سيبقى كلا العاملين دون تغيير. ومع ذلك، فإن أحد البنود القليلة التي تتفق عليها حالياً بصورة فعلية أحزاب المعارضة المنقسمة في مصر هو وقف مبيعات الغاز لـ"إسرائيل".
ومن المرجح أن تكون غزة أكبر منطقة يحدث فيها التغيير. وكشريك مع "إسرائيل" في الاحتفاظ بسيطرة محكمة على القطاع، بذلت القاهرة جهوداً كبيرة لحماية الحدود. وعلى الرغم أنه من المرجح أن تواصل الحكومة لعب دورٍ ما في منع استيراد وتصدير الأسلحة، فمع ذلك يريد الكثير من المصريين إنهاء التصور بأن بلادهم تساعد على إعاقة الحياة الاقتصادية الطبيعية في غزة. وبناءاً على ذلك، فإن وضع سياسة حدود جديدة لا ترتكز على مشاركة مصر النشطة هو أولوية عليا.
وفي غضون ذلك، من غير المحتمل أن تجازف "إسرائيل" على جبهات أخرى، في الوقت الذي أصحبت جبهتها الجنوبية في حالة من عدم اليقين لأول مرة خلال ثلاثين عاماً. ومن المرجح أن تنتظر إسرائيل لتقييم تأثير تلك الأحداث على أمنها القومي حالما ينجلي غبار الأوضاع في القاهرة. وبينما تجنبت "إسرائيل" بحكمة التعليق على الموقف الداخلي في مصر، فليس لديها بالتأكيد أسباب للإعلان بصوت عال عن مصلحتها المتمثلة بوجوب وفاء أية حكومة تالية في مصر بتعهداتها الدولية مثل الحفاظ على معاهدة السلام. وفي الواقع، إن هذا الشرط المطلوب ينبغي أن يكون السياسة التي يتوجب على المجتمع الدولي اتباعها".
حلّت السياسة الأميركية إزاء مصر محور منتدى خاص عُقد في واشنطن بمشاركة العديد من المؤسسات البحثية، وافتتح "روبرت ساتلوف" أحد ابرز الوجوه الأكاديمية والفكرية في العاصمة الأميركية المنتدى بتوجيه النقاش باتجاه محاور محددة تعكس الى حد بعيد الأفكار التي يتم تداولها في كواليس الإدارة الأميركية، مع الإشارة الى أن هذه المداولات تضع أحداث مصر ضمن سياق التحول الحاصل في لبنان والعراق وسوريا لجهة تقدم أطراف "محور الشر" على حساب المصلحة الأميركية.
وهنا أبرز ما ورد في مداخلته:
"بينما يستمر الوضع في مصر في التكشف، تطورت السياسة الأمريكية بسرعة مروعة. ففي الأسبوع الثالث من الشهر الماضي صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أن نظام مبارك كان مستقراً، لكن بحلول مساء الثلاثاء كان الرئيس أوباما يأتي بتصريحه اللافت بأن انتقال السلطة في مصر يجب أن يبدأ "الآن." إن هذا ليس أخطر تحد سياسي خارجي يواجه الإدارة الأمريكية الحالية فحسب بل أيضاً واحد من بين قائمة من التحديات غير المتوقعة وبعيدة الاحتمال. وبخلاف السيناريوهات التي تتضمن، على سبيل المثال، قيام كوريا الشمالية باستفزاز كوريا الجنوبية أو حتى هجوم إرهابي كارثي، تستعد له الولايات المتحدة وتضع له خططاً، فإن النهاية السريعة لرئاسة حسني مبارك إلى جانب الاختفاء الفعلي لـ "الحزب الوطني الديمقراطي" الحاكم، والسقوط المحتمل لنظام كان يمثل أحد ركائز المكانة الأمريكية في الشرق الأوسط لخمسة وثلاثين عاماً يمثل تحدياً لم يكن متخيلاً.
وفي هذا السياق، يستحق الرئيس أوباما ومستشاروه بصورة عامة درجات عالية من الإشادة. وعلى الرغم من أن الإدارة كانت، في بعض الأحيان، غير متوازنة في تصريحاتها، إلا أنها قد حددت الآن سياسة معينة وتشهد نتائجها بصورة تدريجية. إن هذا موقف متطور، تستطيع الولايات المتحدة التأثير فقط على هوامش مساره. ومع ذلك، فقد تبنت الإدارة الأمريكية سياسة يمكن فقط وصفها بأنها جريئة ومُجازفة، جوهرها هو الاعتماد على الجيش المصري لأداء واجبه الوطني، وتنحية مبارك من السلطة. إن الأكثر احتمالاً هو أن يكون بيان أوباما عن "نقل السلطة" مرتكزاً على معلومات استخبارية، واستنتاج تحليلي مفاده أن القادة الكبار في الجيش المصري كانوا بالفعل على وشك اتخاذ خطوات ضد مبارك.
هل ينبغي أن يبقى مبارك أم يرحل؟
يبدو أن هذا السؤال قد أجيب عنه الآن بوضوح عالي جداً: في نظر الإدارة الأمريكية، يبدو أنه ينبغي أن يرحل. وبالنسبة للسياسة الأمريكية، وللمصريين عموماً، ليس هناك مستقبل لمبارك. ومع ذلك، هناك مسألة التوقيت، فقد طلب مبارك ثمانية أشهر أخرى، بينما توقف بيان الرئيس أوباما من مساء الثلاثاء على وشك قوله أنه يحتاج إلى الاستقالة فوراً، مما ترك مساحة للغموض. ولكن بالنسبة للشرق أوسطيين، إن ظهور صور مبارك وأوباما من على شاشات التلفزيون بعد لحظات من بعضهما البعض، أحدهما يقول "أيلول/ سبتمبر" والآخر يقول "الآن"، قد بعثت برسالة واضحة. والنتيجة هي أن كل يوم يبقى فيه مبارك في السلطة هو بمثابة توبيخ لأوباما. وفي الحقيقة، ربما يقرر مبارك أن يبقى فترة أطول قليلاً فقط كدلالة على أن أوباما لم يستطع تنحيته.
ما دور الجيش؟
إنه المتغير الأساسي في المعادلة. وأهم ملاحظة هي أنه، على الرغم من مليارات الدولارات من المساعدة الأمريكية وآلاف التبادلات العسكرية وعشرات المناورات المشتركة، هناك قطاعات كبيرة من الجيش المصري التي لا تعلم عنها الولايات المتحدة سوى القليل جداً. ومع ذلك، فحتى وصول الأنباء عن قيام أعمال عنف، كان الجيش يُعتبر المؤسسة الأكثر احتراماً في البلاد، وأنه ليس متواطئاً بالضرورة في تجاوزات النظام. ولذا فإنه هو المؤسسة الأكثر احتمالاً لإحداث تغيير.
وفي هذه اللحظة يمر الجيش بصراع عنيف على ولائه. فمن ناحية، عيّن مبارك قيادة ثلاثية من مختلف القطاعات العسكرية، الاستخبارات والجيش والقوات الجوية، لتقريب أولئك القادة إليه وكذلك القوات المسلحة، وجعلهم شركاء كاملين في جهوده الرامية لتمديد فترة حكمه. ومن ناحية أخرى، رفض الجيش (على الأقل حتى اندلاع أعمال العنف) إطلاق النار على المواطنين، وهي الحقيقة التي انعكست في مجاملات أوباما التخديرية يوم الثلاثاء. وفي الواقع، فإن كلاً من مبارك وأوباما يقوم بمناشدة الجيش، أحدهما يطلب منه "الثبات حتى النهاية"، والآخر يطلب منه "اتخاذ القرار الصحيح" بتنحية مبارك، وبدء نقل السلطة. إن القادة العسكريين في مأزق، لكن عليهم أن يقرروا أي طريق سيسلكونه قريباً، لأن كل يوم يمر بدون اتخاذهم أي مبادرة إنما يورطهم مع النظام. وأما بالنسبة للرئيس أوباما فإن كل يوم يمر بلا تغيير إنما يزيد من تآكل الصورة الأمريكية الواهنة بالفعل.
هل ينبغي على الولايات المتحدة تعليق المساعدات؟
احتج البعض من أجل تعليق جميع المساعدات الأمريكية إلى مصر على الفور. ورغم أنه بالإمكان تفهم هدفهم إلا أن رؤيتهم غير صحيحة. نقول ثانية إن عامل التغيير السلمي الأكثر ترجيحاً في هذه اللحظة، المؤسسة الأكثر احتمالاً بأن تؤدي إلى إحداث مرحلة نقل السلطة، هو الجيش. لذلك، ينبغي على الولايات المتحدة الاستمرار في اتصالاتها مع هذه المؤسسة لكي تؤثر عليها إلى أقصى حد ممكن. إن الفكرة بأن واشنطن تكسب نفوذاً من خلال قطع المساعدات هي ببساطة رأي "لا يُترجم إلى العربية".
إن الإدارة الأمريكية محقة في الحفاظ على موقفها الراهن حول استمرار المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى مصر إلى أن تحصل على وضوح أكبر على أرض الواقع. وربما يأتي وقت، إذا ما قرر الجيش الاصطفاف كلية إلى جانب مبارك أو إطلاق النار على المتظاهرين، تستطيع فيه واشنطن أن تقرر ما إذا كانت ستعلق المساعدات أم لا، لكن ينبغي عليها في الوقت الحاضر أن تحافظ على النفوذ والتأثير المحدودين اللذين تتمتع بهما.
ماذا يعني نقل السلطة من الناحية العملية؟
إن نقل السلطة يعني بالتأكيد شيئاً مختلفاً لنائب الرئيس المصري الجديد عمر سليمان عما يعنيه لقادة المعارضة مثل محمد البرادعي أو مرشد «الإخوان المسلمين». ومن الصعب تصور شخصية من خارج النظام، أي شخص ليس عضواً في المؤسسة الأمنية الوطنية أو شخصية عامة موالية للنظام (مثل الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى)، تظهر كقائد للمرحلة الانتقالية. وسيأتي هذا الزعيم على الأرجح من شخصيات الجيش من القيادة الثلاثية التي عينها مبارك. وحالما يتم اتخاذ قرار نهائي فإن الكثيرين من المعارضين ربما سيتنفسون الصعداء في الواقع، بعد كل ذلك الاهتمام الذي تركز على موضوع ما إذا كان مبارك سيتنحى عن منصبه أم لا. ولو أظهرت القيادة الجديدة أنها جادة في تنفيذ التغييرات الدستورية والقانونية والإدارية من أجل السماح بقيام انتخابات حرة ونزيهة، قد يكون ذلك كافياً.
المشهد الأوسع
ربما تبدو الأحداث في مصر مبتذلة لكنها زلزال حقيقي تجاه وضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فلم تكن واشنطن مُوفقة حتى قبل أحداث الأسبوعين الأخيرين، حيث "تحولت" لبنان من الحريري إلى «حزب الله»، وأفلتت سوريا من سنوات العزلة التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، وعاد مقتدى الصدر "ليمتطي صهوة الحصان" في العراق، كما أن "عملية السلام" ـ التي أعلن أوباما أنها أولوية قصوى ـ قد بقيت عالقة بصورة مُقبضة على الحياد لمدة عامين. كما أن الانتصارات القليلة للإدارة الأمريكية مثل الدعم الواسع للعقوبات على إيران ليست على المستوى المناسب.
إن تقييماً واقعياً للموقف في مصر في الوقت الحالي يقود المرء إلى الاستنتاج بأن الوضع هو ليس الكارثة التي يخشاها البعض، ولا هو فجر اليوم الجديد الذي يتمناه أخرون. فكلا المُحصلتين ممكن. ومن منظور إيجابي كانت الاحتجاجات إلى حد كبير ضد مبارك، لكنها لم تكن ضد الولايات المتحدة أو ضد السلام، وبالطبع يمكن لهذا أن يتغير. ومن منظور سلبي يمكن لغياب قيادة المعارضة فتح طرق لعناصر أكثر تطرفاً لملء الفراغ.
وبناءاً على ذلك، فإن القلق من احتمال ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» له ما يبرره، فـ «الإخوان» ليسوا كما يرى البعض بأنهم مجرد نسخة مصرية من منظمة "مارش أوف دايمس" (مؤسسة خيرية أمريكية تلتزم بتحسين صحة الأطفال)، بل إنهم تجمع متأصل سياسياً يسعى إلى إعادة تنظيم المجتمع المصري (والمجتمع المسلم الأكبر) لصبغه بصبغة إسلاموية. ومن الناحية التكتيكية سوف تستغل «الجماعة» أية فرص تعرض عليها، وقد تخلت عن أهدافها الأكثر طموحاً، ووسائلها العنيفة، فقط نتيجة إلزامات النظام وليس عن طريق الاختيار الحر.
ورغم أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن لا تفعل شيئاً من أجل ضم جماعة «الإخوان المسلمين» إلى البنية السياسية المستقبلية لمصر، لا ينبغي لها أيضاً أن تعمل على افتراض أن صعود «الجماعة» إلى السلطة أمر حتمي، نظراً للنطاق الواسع من البدائل السياسية في البلاد. وفي الواقع، فإن مثل هذا الافتراض هو خطير للغاية، ويمكن أن يصبح نبوءة متوقعة التحقق.
وأما عن المخاوف تجاه الوضع الإقليمي لمصر، هناك بعض التغييرات التي هي بالتأكيد جيدة. فقد ذهب ذلك الركن الداعم لسياسة الولايات المتحدة ـ حالياً لا توجد دولة عربية مستعدة وقادرة على إظهار القوة بصورة أكثر أو أقل ـ بالاشتراك مع الولايات المتحدة. وسوف يقول البعض أن ذلك لم يكن هو الحال مع مصر لبعض الوقت، ومع ذلك، فعلى الرغم من تضاؤل تأثير مصر في الواقع، إلا أنه ليست هناك دولة عربية أخرى يمكن في أي وقت أن تقترب من مكانة مصر حتى في أيامها السيئة. ويمكن إعادة تجديد مكانة القاهرة كركن لو أدى انتقال السلطة إلى قيام حكومة جديدة تحظى بدعم شعبي، وترى في الوقت نفسه قيمة في شراكتها الاستراتيجية المستمرة مع الولايات المتحدة، وهي تركيبة صعبة لكنها غير مستحيلة. بيد أن ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً.
العلاقات بين إسرائيل ومصر
إن التكهن حول رؤية الحكومة التي تقوم في الفترة ما بعد مبارك فيما يتعلق بالجبهة العربية الإسرائيلية، هو محض تخمين. ورغم ذلك، هناك تقييمات معينة جديرة بالاهتمام.
أولاً: من غير المحتمل أن تلغي القاهرة معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية، فالأمن القومي المصري مرتبط جداً بها. ومن المرجح أن يؤدي تطلّع مصر إلى تعظيم مصالحها، إلى حفاظها على علاقاتها مع إسرائيل.
وفيما وراء المعاهدة نفسها، ترأس مبارك بلاده في ظل قيام سلام بارد مع "إسرائيل"، بحيث لا يوجد سوى عدد قليل من العوامل التي يمكن أن تتغير. فعلى المدى القريب تشكل مبيعات الغاز لإسرائيل، والتشغيل المستمر لـ "المناطق الصناعية المؤهلة" متغيران محتملان. فلو حددت حكومة جديدة في القاهرة موقفها وركزته بصور بحتة على المصالح المصرية سيبقى كلا العاملين دون تغيير. ومع ذلك، فإن أحد البنود القليلة التي تتفق عليها حالياً بصورة فعلية أحزاب المعارضة المنقسمة في مصر هو وقف مبيعات الغاز لـ"إسرائيل".
ومن المرجح أن تكون غزة أكبر منطقة يحدث فيها التغيير. وكشريك مع "إسرائيل" في الاحتفاظ بسيطرة محكمة على القطاع، بذلت القاهرة جهوداً كبيرة لحماية الحدود. وعلى الرغم أنه من المرجح أن تواصل الحكومة لعب دورٍ ما في منع استيراد وتصدير الأسلحة، فمع ذلك يريد الكثير من المصريين إنهاء التصور بأن بلادهم تساعد على إعاقة الحياة الاقتصادية الطبيعية في غزة. وبناءاً على ذلك، فإن وضع سياسة حدود جديدة لا ترتكز على مشاركة مصر النشطة هو أولوية عليا.
وفي غضون ذلك، من غير المحتمل أن تجازف "إسرائيل" على جبهات أخرى، في الوقت الذي أصحبت جبهتها الجنوبية في حالة من عدم اليقين لأول مرة خلال ثلاثين عاماً. ومن المرجح أن تنتظر إسرائيل لتقييم تأثير تلك الأحداث على أمنها القومي حالما ينجلي غبار الأوضاع في القاهرة. وبينما تجنبت "إسرائيل" بحكمة التعليق على الموقف الداخلي في مصر، فليس لديها بالتأكيد أسباب للإعلان بصوت عال عن مصلحتها المتمثلة بوجوب وفاء أية حكومة تالية في مصر بتعهداتها الدولية مثل الحفاظ على معاهدة السلام. وفي الواقع، إن هذا الشرط المطلوب ينبغي أن يكون السياسة التي يتوجب على المجتمع الدولي اتباعها".