ارشيف من :آراء وتحليلات

الثورة لم تقل كل ما لديها... أية سيناريوهات تنتظر مصر؟

الثورة لم تقل كل ما لديها... أية سيناريوهات تنتظر مصر؟
مصطفى الحاج علي
هل نحن أمام بواكير ولادة واقع عربي مختلف ينبثق من بين تداعيات الزلزال السياسي الذي يوشك أن يجهز على جسد النظام العربي العليل والمتداعي منذ عقود من الزمن، وما هي القسمات الرئيسية لهذا الواقع العربي الجديد؟
أسئلة مركزية فرضتها الثورات الشعبية التي انطلقت فجأة، وفي غفلة من حكام الأنظمة المعنية بها، إلا أنها بالتأكيد لم تحدث في غفلة من منطق التاريخ وسننه. وثمة أسئلة كثيرة تتناسل بسرعة من رحم ثورتي تونس ومصر، وإن كانت الأخيرة أعمق وأقوى في دلالاتها وتداعياتها لاعتبارات عدة.
التعبير عن رفض الواقع القائم بحرق النفس جاء مثقلاً برمزيته: لم يعد ممكناً القبول بهذا الواقع، ولم يعد كافياً إصلاحه عبر ترقيعه، بل لا بد من حرقه بالكامل لإعادة بناء واقع مختلف بالكلية، النار وحدها هي الكفيلة بتطهير هذا الواقع من رجس هذه الأنظمة، لأنها وحدها الكفيلة بقلب الواقع من حال الى حال، وعندما تحدث عشر عمليات حرق في أكثر من بلدٍ عربي، انما تشير بدورها الى عمومية الرفض، والحاجة الى تغيير أفقي بقدر ما هو تغيير عمودي، وبالتالي، فإن القواسم المشتركة التي تجمع وتوحّد بين مختلف الأنظمة العربية وطريقة حكمها لشعوبها، وتجمع وتوحد بين مظالم ومعاناة هذه الشعوب، هي أكثر بكثير من الفوارق الخاصة لهذا البلد أو ذاك، الفقر واحد، والاخفاقات التنموية واحدة، عمق البطالة والهوة الاجتماعية والطبقية واحد، وسلب الكرامة الشخصية عبر سلب الحرية وتكميم الأفواه، وتحويل الأجساد الى مجرد موضوعات لعنف السلطة، وأداة للتحكم والقمع واحدة، وإهدار الكرامة الوطنية عبر مسلسل طويل من التبعية للسيد الاميركي، وعبر مسلسل طويل من الانبطاح أمام العدو الاسرائيلي واحد، وسلب النخوة العامة عبر تحويل الشعوب الى شهود مكتومة في مواجهة عمليات القتل المنظم بالحروب والاعتداءات بشنها الكيان الاسرائيلي تارة، وتشنها الولايات المتحدة تارة أخرى، أيضاً هو واحد، والغريب، والمفارق، أن هؤلاء الحكام لا يجدون من وسيلة لمواجهة هذا كله الا بتحويل شعوبهم الى خونة، من خلال اتهامهم بالعمالة للخارج، والتزام أجندات خارجية، وهؤلاء بالتالي، يحكمون عليهم بالاعدام لا لشيء الا من أجل الاحتفاظ بالسلطة، التي هي المدخل للاحتفاظ بمواقعهم وأدوارهم، هذا مع ملاحظة أساسية تسجل هنا، وبإجماع قل نظيره، أن ثورتي تونس ومصر، لم تكونا وليدتي تخطيط مسبق، وإنما حركة الناس سبقت الجميع فشكلت قاطرة جذبت القوى السياسية المختلفة وراءها.
وما يجري في مصر اليوم من زلزال سياسي مدوّ يشكل أبرز تعبير لحركة التحولات العميقة التي تشهدها المجتمعات العربية من جهة، ويشهدها النظام الاقليمي العربي من جهة أخرى، وما يعطي للحدث المصري هذه الأهمية الفائقة هو الوزن السياسي والديموغرافي والاستراتيجي لمصر، ما يجعل من هذا الحدث زلزالاً قائماً بذاته، ونقطة ثقل مركزية من شأن انفجارها ان يتردد صداه وتداعياته لتمس كل الواقع الجيوسياسي والاستراتيجي للمنطقة.
والحصيلة الأولية للانتفاضة الشعبية في مصر تكشف عن التالي:
أولاً: ان جغرافية مصر التي توزعها ما بين قارتي آسيا وافريقيا، والتي تعيش تناقضاً استراتيجياً كبيراً ما بين وزنها الديموغرافي والجغرافي وتاريخها المتنوع، وإرثها الحضاري، وموقعها ودورها الحالي، حيث جرى تحويلها منذ اتفاقيات كامب ديفيد من دولة اقليمية تمتد مساحة دورها الى عموم العالم العربي بل وحتى الاسلامي، الى مجرد دولة قُطرية ينحبس دورها في بعض الوظائف الأمنية والسياسية الخاضعة لمتطلبات المصالح الاميركية، وإملاءات قيود الصلح مع الكيان الاسرائيلي.
من هنا، فإن لمصر وزناً وقيمة استراتيجية تجعل من تداعيات حدوث أي تحول جوهري فيها ما يفوق قدرة الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي على التحمل، وهذا ما ظهر بوضوح في كل مواقف واشنطن وتل ابيب، وبناءً عليه، سيبذل هؤلاء جهوداً جبارة من أجل الاحتفاظ بنظام مبارك، وان كانوا لا يمانعون بالتضحية به كشخص، فمبارك بالنسبة لواشنطن بات ورقة للمساومة، وليس خياراً للاحتفاظ به.
وفي هذا الإطار، يمكن وضع الأداء الملتبس لواشنطن، فهي من فوق الطاولة توحي للناس أنها مع مطالبهم، إلا أنها تحت الطاولة تحث اركان النظام على الثبات لاستنزاف هذه المطالب، وتحويلها الى مجرد مطالب شكلية.
ثانياً: لا أحد تصور أن هذا النظام سيستسلم بسهولة، أو أن عملية تقويضه ستتم بسرعة، وان كان علم الثورات يحمل هذه الامكانية وبقوة في داخله، فهذا النظام امتلك أدوات نفوذ شرسة هي عبارة عن شبكة عنكبوتية من المصالح المتنوعة تبدأ في رأس السلطة وتمر عبر أوعية الوزارات والإدارات، ولا تنتهي بأرباب المال، هذا الى جانب قبضة بوليسية وأمنية هي عبارة عن جيش منظم يفوق بكثير قدرات الجيش المصري نفسه، واللافت أن شبكة نفوذ هذا النظام شملت أيضاً حتى عالم الفن والفنانين، ومن الواضح، أن هذا النظام حظي بدعم إسرائيلي وأميركي وأوروبي، يضاف اليه دعم منظومة الأنظمة المماثلة له، والتابعة لنفس المحور الاميركي ـ الاسرائيلي في المنطقة.
من هنا، فإن كل جهود هذا النظام تركزت حول مجموعة أمور حتى الآن:
أ ـ الإصرار على الاحتفاظ برأس النظام حتى آخر فترة حكمه الحالية، ادراكاً منه للدلالات الكبيرة التي سيعنيها اسقاط هذا الرأس.
ب ـ محاولة الهاء الناس باصلاحات شكلية بما يخفض من سقف حركتهم من حدود الثورة الى حدود الحركة المطلبية، حيث الفارق نوعي بين الاثنتين، فالثورة هي حركة تغيير جذرية، بينما الحركة المطلبية تبقى حركة تحت سقف النظام القائم.
ج ـ العمل على شق صفوف الناس من خلال أخذهم بالمفرّق، أو من خلال الايحاء بالاستجابة لمطالبهم.
د ـ ممارسة حرب نفسية قاسية عليهم لإلحاق الهزيمة بإرادتهم، ودفعهم إما للتراجع ، وإما للاكتفاء بما يقدم لهم.
هـ ـ شن حرب تشويه اعلامية على تحركهم وتصويره كمؤامرة خارجية بغية دفع الناس للانفضاض عنهم وتحويله الى حركة أقلية ما يسهل محاصرتها وقمعها.
ثالثاً: الثورة الشعبية برهنت حتى الآن، أنها ليست حالة ظرفية أو عابرة، فهي ليست انتفاضة انفعال، ولا هبة وجدان، بقدر ما هي تعبير عميق عما يجول في عقل وقلب ووجدان الشعب منذ مدة طويلة من الزمن، وانتظر اللحظة المناسبة ليعبر عن نفسه عالياً، وهذه الثورة تمكنت من انجاز التالي:
أ ـ اسقاط شرعية ومشروعية مبارك.
ب ـ اسقاط شرعية ومشروعية النظام من خلال الاصرار على رفض التحاور معه، والاكتفاء بما يقدم لها.
ج ـ النجاح في الاستمرار والثبات، والنجاح في الاتساع والتمدد مناطقياً وعددياً، وصولاً إلى الانتصار وتحقيق أهدافها.
د ـ جلب الاعتراف العالمي والعربي لها.
خلاصة القول: الثورة انتصرت، والجماهير لم تقل كل ما لديها، والأيام وربما الأسابيع المقبلة، هي التي ستحدد مآل الأمور.
2011-02-12