ارشيف من :أخبار لبنانية

آفاق المفاوضات والتسوية في عام 2011

آفاق المفاوضات والتسوية في عام 2011

أ. هاني المصري (*)
قبل أن نستشرف آفاق المفاوضات في العام الحالي والمستقبل القريب، لابد من التوقف قليلاً أمام العبر والدروس المستفادة من تجربة المفاوضات منذ عقد مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى الآن، خصوصاً بعد فشل كل الجهود والتحركات الكثيفة التي بذلتها إدارة أوباما لإحياء المفاوضات، حيث لم تنجح سوى بإقناع إسرائيل بتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان لمدة عشرة أشهر. ثم في عقد مفاوضات تقريبية استمرت حوالي ثلاثة أشهر، وانتهت بإطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن في الأول من أيلول الماضي، وانهيارها قبل نهاية الشهر نفسه على صخرة التعنت الإسرائيلي.
لقد رفضت حكومة نتنياهو تجميد الاستيطان بشكل جزئي ومؤقت لمدة ثلاثة أشهر، مع استثناء القدس، رغم المكاسب الأمنية والسياسية والعسكرية الإستراتيجية التي عرضتها عليها الإدارة الأميركية.
إن من أهم ما يميز المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية أكثر من غيرها من المفاوضات على المسارات الأخرى أنها بدأت وهي محكوم عليها بالفشل لأنها لا تتم بين أطراف متكافئة، بل في ظل اختلال فادح بميزان القوى، ولا يوجد استعداد من الاحتلال للتسوية، ولا إرادة دولية كافية لإنجاحها، ولا يستخدم العرب أوراق ضغط لفرضها، ويعاني الفلسطينيون من الانقسام المدمر ما يجعلهم فريسة سهلة للاحتلال. وتأكد كل ذلك بصورة غير مسبوقة خلال عام 2010.
لقد شهدت المنطقة منذ انطلاقة المفاوضات تطورات كبرى لصالح إسرائيل: أهمها احتلال العراق للكويت، ثم الحرب العالمية "ضد الإرهاب" على أفغانستان والعراق، وتردي العلاقات الفلسطينية - الخليجية وخصوصاً مع الكويت، وانهيار التضامن العربي والاتحاد السوفيتي ومنظومة الاشتراكية؛ التي أنهت عصر الحرب الباردة، الذي تميز بسيطرة قطبين على العالم، وحل محله عصر العولمة الذي سيطر فيها القطب الأميركي بصورة غير مسبوقة.
 بعد اتضاح تداعيات وأبعاد العوامل المذكورة وجدت إسرائيل أن باستطاعتها الارتداد عما وقعت عليه في اتفاق أوسلو، رغم اختلاله الفادح لصالحها، وتجاوزت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة بعد اغتيال إسحاق رابين هذا الاتفاق بشكل حاسم، حيث لم تطبق معظم الالتزامات الإسرائيلية، في حين اعتمدت إستراتيجية تجاوز اتفاق أوسلو عملياً وعدم الإعلان عن رفضه أو عدم الالتزام به؛ لكي تتمكن من مطالبة الجانب الفلسطيني الاستمرار بالتزاماته به خصوصاً فيما يتعلق بالاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف ومحاربة "الإرهاب" والتنسيق الأمني الفلسطيني - الإسرائيلي واعتماد المفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، الذي لم يعد بعد أوسلو صراعا وإنما نزاع على الأرض.
إن عملية ما تسمى بالسلام، لم تكن عملية سلام، بل عملية بدون سلام، من أهدافها الإيحاء بأن هناك اتفاقاً قادماً على الطريق لتحييد العالم وكسب الوقت، واستخدام المفاوضات كغطاء لفرض أمر واقع احتلالي استيطاني عنصري؛ يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن والمطروح على الأرض، كما استهدفت عملية السلام قطع الطريق أمام نشوء فراغ يمكن أن يؤدي إلى بروز خيارات وجهود وبدائل ومشاريع أخرى غير مناسبة لإسرائيل.
 إن أية مفاوضات حتى تستحق تسمية مفاوضات، يجب أن تستند إلى مرجعية واضحة وملزمة للطرفين، بحيث تكون المفاوضات من أجل تطبيق هذه المرجعية، وهذا أمر غير ممكن بدون توفير معطيات وموازين قوى تفرضه؛ لذلك افتقدت عملية السلام إمكانية النجاح.
فمنذ ما حدث في مؤتمر مدريد، فإن مرجعية المفاوضات كانت ضعيفة ولم تلتزم بها إسرائيل، كذلك سرعان ما تآكلت رويداً رويداً بحيث أصبحت المفاوضات سيدة نفسها بدون مرجعية، وابتعدت كثيراً عن مرجعية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وظهر هذا واضحاً أولاً في اتفاق أوسلو وملحقاته، وبشكل أوضح في خارطة الطريق الدولية التي قدمت في عام 2003، التي تضمنت عدة مراحل، ومدخلها الأساسي أمني يلبي الاحتياجات الإسرائيلية، ورغم ذلك وعلاتِ خارطة الطريق الكبيرة تواطأ المجتمع الدولي مع إسرائيل، بحيث سمح بتمرير عدم موافقتها عملياً على خارطة الطريق لأن حكومة شارون وافقت عليها مشروطة عبر وضع 14 تحفظاً إسرائيلياً عليها تنسفها بشكل كامل.
لقد أصبحت المفاوضات، أكثر وأكثر، مفاوضات من أجل المفاوضات، واعتمد ذلك رسمياً في مؤتمر أنابوليس الذي عقد في شهر تشرين ثاني 2007، الذي كرس أن المفاوضات تجري بدون أي مرجعية، سوى ما يمكن أن يتفق عليه الطرفين، وفي ظل التفوق العسكري الإسرائيلي والدعم الأميركي لإسرائيل وبعد حدوث الانقسام الفلسطيني، أصبحت الحكومة الإسرائيلية هي واضعة الشروط لبدء المفاوضات؛ فوضعت شروطاً لا تبدأ ولا تنتهي بشرط الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، الذي يعني الإقرار به إسقاط الحق التاريخي للفلسطينيين واعتماد الرواية الصهيونية حول الصراع والتنازل عن حق اللاجئين بالعودة والتعويض، وترك فلسطين تحت رحمة التطرف والتعصب والتمييز العنصري الإسرائيلي وفريسة له، وذلك وسط تزايد الدعوات لطردهم مباشرة أو تحت مسميات مختلفة، أبرزها التبادل السكاني الذي لم يعد شعاراً تطرحه أحزاب متطرفة صغيرة، وإنما اعتمد من أحزاب مهمة وبعضها مشارك في الحكومة الإسرائيلية الحالية.
إن اتفاق أوسلو وما سمي عملية السلام سقطا سقوطاً مدوياً عندما مر تاريخ الرابع من أيار عام 1999، وهو الوعد المحدد للتوصل لاتفاق نهائي بدون التوصل لاتفاق، بل انتهى إلى فشل قمة كامب ديفيد عام 2000، وما تبعها من عدوان عسكري وسياسي إسرائيلي شامل على الفلسطينيين أدى إلى إعادة احتلال الضفة الغربية، وما هدف إليه من إجبار الفلسطينيين بقبول ما رفضوه على طاولة المفاوضات.
لقد كان الاحتلال الإسرائيلي الجديد للضفة الغربية والاعتداءات المتواصلة في قطاع غزة ومحاصرة ياسر عرفات علامة فاصلة، كانت تفترض إعلان موت أوسلو ووقف المفاوضات وكافة الالتزامات المترتبة على الفلسطينيين، بما في ذلك الإقدام على أو التهديد الجدي على الأقل بحل السلطة إذا لم تنسحب القوات الإسرائيلية إلى الخطوط التي كانت تقف عندها في 28 أيلول عام 2000.
ولكن الفلسطينيين في السنوات الأخيرة من حياة الرئيس الراحل ياسر عرفات حاولوا بدلاً عما تقدم الجمع المستحيل ما بين التمسك بأوسلو والسلطة والالتزامات المترتبة عليهم والمفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، وبين العودة لخيار المقاومة المسلحة على أساس تصور خاطئ أن العودة للمقاومة المسلحة ستؤدي إلى تحسين شروط المفاوض الفلسطيني وإحياء المفاوضات بظروف أفضل، بما يمكن أن تحقق أهدافهم التي فشلوا في تحقيقها في قمة كامب ديفيد.
إن ضياع الفرصة بعد إعادة احتلال الضفة الغربية لتغيير قواعد الصراع التي حكمته بعد اتفاق أوسلو؛ أدى إلى قيام إسرائيل بانتزاع زمام المبادرة من خلال طرح و تنفيذ خطة فك الارتباط عن قطاع غزة، وعدم الاستمرار بمرابطة القوات الإسرائيلية المحتلة داخل مناطق السلطة في الضفة الغربية مع الاحتفاظ بحقها بدخولها متى تشاء وتنفيذ كل العمليات التي ترى أنها ضرورية.
لقد أخذت إسرائيل الدروس من انتفاضتي 1987 و2000 بحيث لم تعد تفكر بالعودة إلى الاحتلال المباشر، وإنما اختارت الاحتلال عبر الرموت كنترول، أي أخذ فوائد الاحتلال بدون دفع ثمنه، لذلك فإن حل السلطة الآن بات مجرد تهديد، وإذا نفذ فلن يؤدي بالضرورة إلى عودة الاحتلال المباشر أو بروز خيار الدولة الواحدة بدلاً عن خيار الدولتين، بل سيؤدي على الأغلب لنشوء سلطات محلية عديدة متنازعة تسعى كل منها للتغلب على الأخرى بالتعاون مع الاحتلال، وهذا يعني عودة الفوضى والفلتان الأمني، وتراجع الخيار الفلسطيني وتقدم الخيارات الأخرى الإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية.
لقد اعتقد أبو عمار وأوساط نافذة في القيادة الفلسطينية عند توقيع اتفاق أوسلو أن الحل قريب على الأبواب، والدولة على مرمى حجر، وتصرفوا على هذا الأساس، وهنا الخلل الأساسي، وعندما وصل ياسر عرفات إلى قناعة بأنه خدع وأن اتفاق أوسلو لن يوصل الفلسطينيين لدولة فلسطينية حتى مقابل التخلي عن حق العودة للاجئين كان الوقت قد نفذ، واستطاعت إسرائيل أن تغتاله بعد حصاره بقرار معلن اتخذته الحكومة الإسرائيلية في أحد اجتماعاتها في شهر أيلول من عام 2004 يقضي بإزالة ياسر عرفات.
لقد جرت مياه كثيرة منذ اغتيال ياسر عرفات أبرزها تبوء القيادة الفلسطينية من أشخاص يعتقدون أن أهم الأسباب التي أدت إلى فشل اتفاق أوسلو هو أن الانتفاضة المسلحة دمرت كل شيء وكان الأداء الفلسطيني خاطئاً، وأنه لم يكن على أساس ضرورة إعطاء الأولوية لتنفيذ الالتزامات الفلسطينية في خارطة الطريق، ولو من جانب واحد، حتى نثبت للعالم كله، وللولايات المتحدة الأميركية التزام الفلسطينيين الراسخ بالسلام والالتزامات التي قطعوها على أنفسهم بحيث لاحظنا كيف طبق الفلسطينيون بعد عرفات التزاماتهم بالمرحلة الأولى من خارطة الطريق رغم عدم تطبيق إسرائيل لالتزاماتها، وركزوا على إثبات جدارتهم من خلال بناء مؤسسات الدولة في المناطق التي سمح لهم التحرك بها. وكأن الصراع على الجدارة وبناء المؤسسات وليس بين الشعب والاحتلال الواقع عليه.
إن هذه السياسة الفلسطينية لم تشجع الإدارة الأميركية لممارسة الضغط على إسرائيل، بل أراحتها من ممارسة هذا الضغط، فما دام كل شيء على ما يرام، سواء إن كان هناك مفاوضات مثلما حدث خلال عام 2008 بعد استئناف المفاوضات بعد قمة أنابوليس، أو لم يكن هناك مفاوضات مثلما حدث طوال عام 2009 ومعظم عام 2010. فالتعاون الأمني والاقتصادي الفلسطيني – الإسرائيلي جيد، كما قال وزير الخارجية ليبرمان، ولذلك على المسار السياسي أن يتأخر، فلا يمكن عقد اتفاق على حد قوله، إلا بعد عقد من السنوات على الأقل.
إن تركيز حكومة نتنياهو على استئناف المفاوضات رغم اقتناعها باستحالة نجاحها وفقاً للشروط التعجيزية التي تضعها؛ يرجع إلى أن المفاوضات تقطع الطريق على التدخلات والجهود والمبادرات والخيارات والبدائل الأخرى، التي يمكن أن تزعج إسرائيل خصوصاً تلك الحملات الدولية لنزع الشرعية عن إسرائيل على خلفية إدانة الاحتلال الإسرائيلي والجرائم التي يرتكبها ضد الإنسانية، ومن أجل فرض العقوبات الدولية عليها.
لقد أنعش وصول باراك أوباما إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية الأوهام مجدداً عن قرب الاتفاق على تسوية، بعد أن أعطى اهتماماً خاصاً لقضية الشرق الأوسط، خصوصاً بعد خطابه في القاهرة الذي طالب فيه بوقف حقيقي للاستيطان، وبعد أن التزم وأركان إدارته عند تولية سدة الرئاسة بالتوصل إلى اتفاق سلام خلال عامين، أصبحت عاماً واحداً بعد خطابه في الأمم المتحدة في أيلول الماضي، والذي تحدث فيه عن أمله بأن يكون هناك دولة فلسطينية عند عقد الدورة القادمة للجمعية العامة، أي في أيلول من هذا العام.
لقد تبين للعالم كله أن هناك فرقاً كبيراً وحاسماً بين رغبة أوباما لتحقيق السلام، وبين توفر إرادته أو قدرته على تحقيقه. إن سجل الإدارة الأميركية منذ أن تربع أوباما في البيت الأبيض حافل بالفشل والتردد والتناقض.
لقد كانت الإدارة الأميركية حائرة ما بين التركيز على إدارة الصراع وليس حله مثل سابقاتها، أو السعي للتوصل لاتفاق يتناول القضايا الجوهرية أولاً، أو البدء بخطوات صغيرة تمهد إلى الانتقال للتفاوض والاتفاق على القضايا الجوهرية.
كما كانت إدارة أوباما مترددة ما بين مستوى الانخراط الذي تقوم به، هل تكون طرفاً مسهلاً وراعياً بدون تدخل يذكر أو تقدم اقتراحات وتمارس ضغوطاً من أجل الأخذ بها.
إن الحصيلة أنها لم تبلور رأياً واضحاً في أي اتجاه ستسير، وحين بدا أنها ستسير باتجاه توفير الشروط المناسبة لانطلاق المفاوضات ومن خلال البدء بتجميد الاستيطان، تراجعت أكثر من مرة وبشكل مخزٍ، الأمر الذي شجع إسرائيل أكثر في المضي بسياسة التعنت والتطرف.
فمن مطالبة إدارة أوباما بالتجميد الحقيقي للاستيطان، وفقاً لما هو وارد بتقرير جورج ميتشل الذي قدمه عام 2001، وكما هو وارد في خارطة الطريق الدولية، إلى القبول والترحيب بالتجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان، الذي أقدمت عليه حكومة نتنياهو، إلى بذل جهود مضنية لإقناع إسرائيل بتجميد جزئي للاستيطان يستثني القدس وتكون المرة الأخيرة التي تطالب بها إسرائيل بتجميد مماثل، والذي فشل بسبب الابتزاز الهائل الذي مارسته حكومة نتنياهو الراغبة بمكاسب كبرى بدون مقابل؛ لأنها تعتبرها حق لإسرائيل، ناتج عن كونها تنسجم مع طبيعة العلاقات الإستراتيجية والمصالح المشتركة التي تربط ما بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، أي أنها ليست بحاجة إلى أن تقدم على سابقة تجعل الدعم الأميركي لإسرائيل مشروطاً، وهذا ما حذر منه دان كيرتزر السفير الأميركي السابق لإسرائيل وغيره من الخبراء في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية.
الآن الإدارة الأميركية تراجعت عن مساعيها لتجميد الاستيطان وأعلنت نيتها دعوة الأطراف للدخول بمفاوضات متوازية يقوم من خلالها ميتشل وغيره من المبعوثين الأميركيين بالانتقال من الطرف الفلسطيني إلى الطرف الإسرائيلي وبالعكس، وبعد أن تحصل على مواقف الطرفين من القضايا الجوهرية، وخصوصاً من قضيتي الحدود والأمن، بدون أن تُعلم كل طرف بما قدمه الطرف الآخر، ثم تقوم ببلورة صيغة من شأنها جسر الهوة السحيقة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
وتأمل الإدارة الأميركية بالتوصل لاتفاق إطار حتى شهر أيلول القادم، لذلك تطالب بمهلة حتى ذلك التاريخ.
إن الشكوك الكبيرة تحيط بإمكانية نجاح الإدارة الأميركية بالتوصل لاتفاق إطار يتناول القضايا الجوهرية، جراء أنها فشلت بإقناع إسرائيل بتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان. فكيف ستكون قادرة على إقناع حكومة نتنياهو بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 كما يطالب الفلسطينيون، أو من معظم هذه الأراضي وفقاً للموقف الأمريكي، الذي سبق أن عبر عن نفسه أكثر من مرة من خلال رفض تحديد الحدود التي يتم التفاوض عليها وعلى أساس المطالبة بأخذ الحقائق التي أقامها الاحتلال الإسرائيلي على الأرض بالحسبان، انسجاماً مع ورقة الضمانات الأميركية التي منحها جورج بوش الابن لأريل شارون في حزيران من عام 2004، والتي صدرت عن الإدارة الأميركية الحالية خصوصا على لسان هيلاري كلينتون مما يؤكد الالتزام بها.
كيف ستوافق الحكومة الإسرائيلية الحالية على الانسحاب من القدس وهي تقوم منذ توليها سدة الحكم بتأكيد أن القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل؟ كيف ستوافق الحكومة الإسرائيلية على الانسحاب من الضفة الغربية وهي ماضية في المشاريع الاستيطانية والتوسعية والاستيطانية في عموم الضفة الغربية، وفي ظل تأكيدها أن أي دولة فلسطينية إذا قامت لن تضم غور الأردن والحدود الشرقية والغربية بعمق يصل إلى 15كم، ولا على معظم مصادر المياه وغيرها من المناطق الحيوية والأمنية والعسكرية والإستراتيجية التي تعتبر إسرائيل أن بقاء القوات الإسرائيلية فيها أمر غير قابل للجدل حتى بعد قيام الدولة الفلسطينية؟
ومن المفيد ذكره أن نتنياهو عندما سقط ادعاءه بأن سيطرة إسرائيل على أجزاء واسعة من الضفة لم يعد كافياً لحمايتها بعد تطور نظام الصواريخ بعيدة المدى، أصبح يردد حججاً جديدة منها، أن القوات الإسرائيلية في الضفة ضرورية لحماية النظامين الأردني والمصري ومن المخاطر الداخلية ومن التهديد الإيراني.
وحتى ندرك مدى الوهم بإمكانية التوصل إلى تسوية في المدى المنظور وأن ما هو مطروح تصفية وليس تسوية، نورد ما تناولته الصحف الإسرائيلية مؤخراً، وكنت قد استمعت إليه شخصياً من شخصيات قيادية فلسطينية شاركت بالمفاوضات الأخيرة التي انطلقت في واشنطن في مستهل أيلول الماضي.
لقد نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية بتاريخ 4/1/2011 بقلم بن كسبيت وهو من أكبر المحليين الإسرائيليين: "أن نتنياهو ومساعديه رفضوا تسلم وثائق فلسطينية توضح وجهة النظر الفلسطينية من القضايا الجوهرية خشية من سقوط الحكومة الإسرائيلية، وأورد حادثتين للتأكيد على ما ذهب إليه".

الحادثة الأولى رفض إسحاق مولخو مستشار نتنياهو، أثناء أحد اللقاءات التي عقدت في واشنطن بحضور الأميركيين بينه وبين صائب عريقات، تسلم وثيقة توضح الموقف الفلسطيني من القضايا الجوهرية بقوله إنه باللحظة التي يفعل بها ذلك تسقط حكومته.
الحادثة الثانية حدثت إثناء اللقاء بين أبي مازن ونتنياهو في المنزل الرسمي لرئيس الحكومة الإسرائيلية في القدس، حين قدم الرئيس الفلسطيني ورقتين لنتنياهو تتضمنان الموقف الفلسطيني من قضيتي الحدود والأمن، حينها رفض نتنياهو استلامهما أو قراءة الوثيقة أو البحث فيها، فما كان من أبي مازن سوى تركها على الطاولة عند مغادرته الاجتماع.
إذا كان نتنياهو يرفض مجرد استلام الوثائق الفلسطينية خشية سقوط حكومته، فكيف سيصدق أحد ادعاء نتنياهو بأن حكومته مستعدة للتفاوض حول القضايا الجوهرية.
إن المطروح على الفلسطينيين ليس تسوية ولا حلاً متفاوض عليه، وإنما أن يقبلوا الحل الإسرائيلي الذي يصفي قضيتهم من مختلف أبعادها. فليس المطروح على الفلسطينيين الآن ولا سابقاً دولة مقابل تنازلهم عن قضية اللاجئين كما أعتقد بعضهم. بل المطروح عليهم تنازلاً عن جميع حقوقهم، وتصفية لقضيتهم من مختلف جوانبها، وأقصى ما يمكن أن يحصلوا عليه حل انتقالي طويل الأمد متعدد المراحل، يمكن أن يغطى أو لا يغطى باتفاق إطار يتحدث عن تسوية نهائية تطبق فيما بعد.
إن أقصى ما يمكن أن تقبل به إسرائيل في ظروفها الحالية، والمرشحة للاستمرار والتفاقم خلال العام الحالي والسنوات القادمة، دولة فلسطينية على جزء من الأرض المحتلة (وجزء من القدس الشرقية)، دولة تكون محمية إسرائيلية لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم، حتى تتخلص من خطر القنبلة الديمغرافية، وخيار الدولة الواحدة أو العودة للاحتلال المباشرة.
وعندما أقول أقصى ما يمكن أن تقبل به إسرائيل في الشروط الراهنة دولة فلسطينية مفصلة على مقاس الشروط والمصالح الإسرائيلية، أعني ذلك لأن مسألة قيام الدولة الفلسطينية حتى وفقاً لهذه الشروط غير محسومة تماماً في إسرائيل، فهناك من يعتقد أن قيام مثل هذه الدولة يعتبر تنازلاً يجب ألا تقدم عليه إسرائيل.

ضمن هذا السياق فإن الخيارات والبدائل الإسرائيلية التي سيتم محاولة فرض أحدها على الفلسطينيين هي:
 أولاً: إبقاء الوضع الراهن لأطول فترة ممكنة حتى تستكمل إسرائيل تطبيق مخططاتها التوسعية والاستيطانية والعنصرية، مع العلم أن هذا الخيار غير ممكن أن يستمر لفترة طويلة قادمة بعد مضي حوالي عشرين عاماً من بدء المفاوضات في مؤتمر مدريد.
ثانياً: العودة لخيار الخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، أي أن إسرائيل لا يمكن أن تنتظر إلى الأبد موافقة الفلسطينيين على ما تطرحه من حل نهائي؛ لأنه سيكون أقل بكثير أكثر مما يمكن أن تقبله القيادة الفلسطينية مهما بلغت من المرونة والاعتدال، بل تفكر وتدرس إعادة انتشار القوات المحتلة بحيث تعود إلى خطوط  28/9/2000 أو تقوم بالتبادل السكاني وتبادل الأراضي الذي تراه مناسباً، وتنفذ إعادة الانتشار من بعض المناطق وإزالة المستوطنات الصغيرة والبؤر الاستيطانية العشوائية، بحيث تفرض على الواقع دولة البقايا، دولة ميكي ماوس وفي هذه الحالة على الفلسطينيين الموافقة أو التعايش مع الأمر الواقع، مثلما حصل في قطاع غزة، ومثلما يحصل وإن بأشكال مستترة في الضفة الغربية.
ثالثاً: إحياء الحل الإقليمي بمساعدة الأردن ومصر، وهذا يظهر بعدة أشكال أهمها ما سمي الخيار الأردني بأشكاله المتعددة، أي حل على حساب الأردن أو ضم ما لا تريده إسرائيل من الضفة للأردن في سياق اتحاد فدرالي أو كونفدرالي، ونفس الشيء يتم مع غزة أو دفعها للوقوع مجدداً تحت الوصاية المصرية.
رابعاً: خيار الدولة ذات الحدود المؤقتة الذي يتم باتفاق فلسطيني - إسرائيلي ورعاية أميركية ودولية، ويبدو هذا الخيار هو الأكثر تفضيلاً لإسرائيل، لأنه يجعل الفلسطينيين مسؤولين عن تصفية قضيتهم بأنفسهم، لأن عودة العرب للإمساك بالفلسطينيين سيجعل من الفلسطينيين من يقول إن هذا لا يمثلهم بما يسمح بانطلاقة فلسطينية جديدة، ولكن هذا الخيار مستبعد خصوصاً إذا لم يغطى باتفاق إطار يتناول القضايا الجوهرية.
إن الإدارة الأميركية الآن مثل "البطة العرجاء" وهي أكثر انحيازاً لإسرائيل عما كانت عليه في بداية تسلم أوباما الحكم، خصوصاً بعد الانتخابات النصفية للكونغرس التي فاز فيها الحزب الجمهوري بالأغلبية.
إن أوباما قد يجد أن فرصته بالنجاح بالانتخابات الرئاسية القادمة أصبحت تتوقف إلى حد كبير على قدرته على التوصل إلى حل (اتفاق إطار) يرضي إسرائيل من خلال التغطية على حل انتقالي طويل الأمد متعدد المراحل عنوانه الأبرز دولة ذات حدود مؤقتة تتجاوز الحدود والقدس واللاجئين باسم تأجيلها إلى مرحلة لاحقة.
وإذا توصل أوباما إلى هذا الاستنتاج مثلما يبدو من خلال وقف مساعي إدارته لتجميد الاستيطان والإعلان عن مفاوضات متوازية للتوصل إلى اتفاق إطار فإن هذا سيكون الخطر الأكبر الذي على الفلسطينيين الاستعداد لمواجهته ودحره.
أما ما يتعلق بالمباحثات الأميركية - الإسرائيلية التي بدأت منذ أول أيلول الماضي وتتناول كل شيء، فإنها يمكن أن تتوصل في النهاية إلى اتفاق أميركي – إسرائيلي سيكون من الأصعب على الفلسطينيين رفضه.

إن القضية الفلسطينية في خطر سيتزايد أكثر إذا قررت الإدارة الأميركية تصفية ما تبقى من بقايا للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي من خلال فرض حل على الفلسطينيين، ولا يمكن إنقاذ القضية الفلسطينية من قبل الفلسطينيين لوحدهم، فالقضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين والعرب مجتمعين.
إن على الفلسطينيين التحرك لتغيير قواعد اللعبة قبل أن تتوصل المباحثات الأميركية – الإسرائيلية لاتفاق، فالمباحثات بين حكام واشنطن وتل أبيب تشمل كل شيء، وعدم الاتفاق بينهما سيء كذلك، ولا يعني خيراً وفيراً للفلسطينيين، وإنما من شأنه أن يترك يد إسرائيل حرة لتفعل ما تشاء.
إن هذا العام يمكن أن يحمل عرضاً أميركياً يوافق عليه المجتمع الدولي ويتضمن جزءاً مهما من المطالب الفلسطينية، ويمكن أن توافق عليه إسرائيل بعد إبداء ملاحظات جوهرية تفرغه من مضمونه، مثلما فعلت مع خارطة الطريق، أو بدون موافقة إسرائيل، بحيث يوظف هذا الاتفاق لإقناع الفلسطينيين باستئناف المفاوضات وصولاً لقبول حل انتقالي جديد بحجة أن التسوية النهائية متعذرة، وإبقاء الجمود في عملية التسوية يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بكل الأطراف، واستعادة الأطراف والدول المناوئة لإسرائيل والولايات المتحدة ولعملية التسوية الجاري فرضها على المنطقة.
وسيتم استخدام كل شيء لإقناع الجانب الفلسطيني بما في ذلك التلويح بإحياء ونجاح المسار السوري، على أساس أن نجاحه سيترك الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل لوحدهم، وهذا سيجعلهم أضعف ومجبرين على قبول عروض أسوأ.
إن مثل هذا الاحتمال (اتفاق إطار يغطي على حل انتقالي جديد) يبدو ممكناً وأكثر احتمالاً رغم أنه ليس سهلاً، وذلك لأن العرب لم يبلوروا خيارات جدية بعد وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، بل اكتفت لجنة المتابعة العربية طوال عام 2010 بإعطاء المهلة وراء الأخرى للإدارة الأمريكية لعلها تنجح بإقناع إسرائيل بتجميد الاستيطان أو بقبول مرجعيه تسمح باستئناف المفاوضات. ففي البداية منحت لجنة المتابعة العربية إدارة أوباما أربعة أشهر بقبولها بمفاوضات تقريبية لمده أربعة أشهر لا تنتقل للمفاوضات المباشرة إلا بعد أن تحرز تقدماً ملموساً. ثم وافقت لجنة المتابعة العربية على إعطاء غطاء جديد للجانب الفلسطيني ليشارك بالمفاوضات المباشرة بدون إحراز تقدم بالمفاوضات التقريبية. ورغم فشل المفاوضات المباشرة خلال أقل من شهر أعطت القمة العربية التي عقدت في سرت مهلة شهر للإدارة العربية انتهت وتم تجديدها بصورة غير رسمية إلى أن قررت لجنة المتابعة العربية أنها ستنتظر عرضاً جاداً من الإدارة الأمريكية حتى تستأنف المفاوضات.
أما الفلسطينيون فخياراتهم مبعثرة ومتناقضة ويبدوا أنها تميل إلى انتظار نجاح الجهود الأميركية أو تسعى للضغط من أجل إنجاح هذه الجهود أو ليس للبحث عن بديل حقيقي آخر.
فالبدائل الفلسطينية تراهن على الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي، وهي بدائل متناقضة ومتغيرة تتحدث عن اللجوء إلى مجلس الأمن للاعتراف بالدولة، ثم يتم التراجع عن هذا الخيار بعد التهديد بالفيتو الأمريكي. وتتحدث عن اللجوء إلى الجمعية العامة للحصول على وصاية دولية ما يتناقض مع هدف إقامة دولة فلسطينية.
ويتحدث الفلسطينيون تارة عن وقف الالتزامات وحل السلطة واستقالة الرئيس ويتم التراجع عن ذلك خشية حدوث مجابهة سياسية مع الإدارة الأميركية وإسرائيل.
في هذا السياق لا يعتبر رفض المفاوضات المتوازية التي اقترحها جورج ميتشل جدياً كافياً لشق بديل جديد، لأنه من الناحية العملية سيتم استقبال المبعوثين والمسؤولين الأميركيين وسيتم تبادل الآراء والمقترحات معهم، كما أن الرئيس الفلسطيني بات يتحدث عن موعد شهر أيلول القادم، فيما يعتبر مهلة جديدة لنجاح الجهود الأميركية، بعد انتهاء المهل الكثيرة السابقة والتي كانت تقدم باعتبارها نهائية.
إن الانتظار لا يؤدي إلى تغير الموقف الأميركي والإسرائيلي، كما أن الاكتفاء بالسعي إلى اعتراف الدول بالدولة الفلسطينية، أو بإدانة الاستيطان في مجلس الأمن، ومطالبة المجتمع الدولي بتقديم خطة سلام، فكل ذلك على أهميته لا يقدم بديلاً قادراً على إحداث اختراق بالطريق المسدود.
على الفلسطينيين أن يبلوروا ميثاقاً وطنياً جديداً يوضح أهدافهم وحقوقهم وثوابتهم والخطوط الحمر التي لا يمكن أن يتجاوزوها.
على الفلسطينيين أن يبلوروا على أساس الميثاق الجديد إستراتيجية جديدة وبديلة، تقوم على جمع أوراق القوة والضغط الفلسطينية والعربية وترتكز على تعزيز صمودهم على أرضهم، وبناء المؤسسات الضرورية لذلك، ووضع السلطة في مكانها الطبيعي كأداة في خدمة البرنامج الوطني، وإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، بحيث تصب كل الجهود والطاقات والكفاءات الفلسطينية في اتجاه واحد... اتجاه مقاومة الاحتلال بكل الأشكال المتاحة من أجل دحره وتحقيق الحرية والعودة والاستقلال.
إن هذه الإستراتيجية الجديدة تتطلب إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني، برنامج الدولة وتقرير المصير والعودة، وإعادة تشكيل منظمة التحرير على أساسه بحيث تضم الجميع بشراكة حقيقية على أسس وطنية وديمقراطية، وبما يضمن إحياء البعد العربي والدولي للقضية الفلسطينية وإطلاق تحرك سياسي متعدد الأشكال يسعى لإنهاء احتكار الإدارة الأميركية للعملية السياسية، ويطالب بدور دولي فاعل وضمانات دولية حقيقية ومفاوضات على أساس القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، كما يهدف لملاحقه إسرائيل على احتلالها وجرائمها لكي يتم فرض العزلة والعقوبات عليها، بحيث نصل إلى وضع تخسر فيه إسرائيل من احتلالها أكثر مما تربح، عندها يمكن أن يتحقق السلام ضمن شروط الحد الأدنى!! وهذا هدف صعب وبعيد المنال وبحاجة إلى نضال حقيقي وليس إلى مقاومة رمزية أو إلى الاعتماد الكلي على المجتمع الدولي أو على اعتراف الدول بالدولة الفلسطينية. فهذه خطوات ضرورية ولكنها لا تشكل الاستراتيجية القادرة على إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية المستقلة!!
(*) تقدير استراتيجي/ مركز الزيتونة/ ندوة في فندق كراون بلازا ـ بيروت / القضية الفلسطينية/ 13 كانون الثاني/ يناير 2011

2011-02-13