ارشيف من :آراء وتحليلات
لبنان ما بعد الانتفاضات العربية.. ليس جزيرة معزولة
حسين حمية
يحاول البعض النأي (باجتهاده التنظيري) بلبنان عن تداعيات الانتفاضات الشعبية ضد الحكام العرب وأنظمتهم، والحجة التي يتسلّح بها هذا البعض، هي أن الانقسامات الطائفية في لبنان كفيلة بتحصين لبنان من أي تحرك شعبي كبير شبيه بما حدث في تونس ومصر ويجري حاليا في ليبيا والبحرين واليمن والأردن، وتقوم هذه الحجة على أن اللعبة الطائفية قادرة على إفساد أي محاولة لبناء كتلة شعبية وازنة وعابرة للطوائف وتلتحم فيما بينها سياسيا حول مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية تعدّل - في حال الأخذ بها- من بنية النظام السائد.
على أرض الواقع اللبناني، هناك الكثير من الوقائع والتجارب التي تؤيد مثل هذا الاعتقاد أو هذا التوقع، فقد حدث أن العديد من الحركات والمشاريع والمحاولات الإصلاحية كان قد جرى إحباطها بتطييفها، فلم ينظر إليها من زاوية قيمتها في تحديث الدولة ومؤسساتها أو خدمة المواطن واحترام حقوقه أو في آثارها البعيدة في تجذير الولاء الوطني والسمو به على الولاءات ما دون وطنية من فئوية وجهوية، إنما كان النظر إليها من ميزان الربح والخسارة الذي يضع معاييره المستفيدون (وهم قلة قليلة) من اللعبة الطائفية، وعلى هذا، لم تغادر عملية الإصلاح في لبنان بمعناها الواسع الحبر المكتوبة به على البيانات الوزارية والبرامج الحزبية، وبالمقابل تركت الدولة نهبا للترهل والفساد والتقادم والتخلف عن مواكبة المتطلبات المستجدة ليدفع السواد الأعظم من اللبنانيين أثمانا مرتفعة من نمط عيشهم وصحتهم ورفاهيتهم وازدهارهم نتيجة الالتفاف على هذا الاستحقاق.
لكن، بعد الذي كان في تونس ومصر، وسيكون في أكثر من بلد عربي، لقد سقط مثل هذا الاعتقاد عن لبنان أو سيسقط، ومن السذاجة أن يتمسك هذا البعض باعتقاده ولبنان في قلب العالم العربي، في حين أن بلدانا بعيدة تقع على الضفاف الأخرى من هذا العالم بدأت منذ الآن تستعد لاحتواء أو لاستقبال الحدث العربي الكبير، ليس في "إسرائيل" وحسب ,إنما في آسيا الوسطى وفي باكستان وايضا في روسيا وأوروبا وأميركا.
لأن المعنى الذي تفيض به الانتفاضات العربية ليس مقتصرا على الاستبداد أو الفساد أو العلاقة غير المتوازنة مع العدو أو مع الغرب أو شغفا بقيم هذا الغرب حول حقوق الإنسان وتداول السلطة وغيرها من مفردات المستخدمة للتدخل والعبث بشؤون البلدان العربية، وإنما أيضا هي ثورة على النموذج الغربي المعمول به في بلداننا (النيوليبرالية)، ومن قال أن الشعوب الأوربية أو الأميركية ستقبل بعد اليوم بكل سهولة التخلي عن مكاسبها في الرفاهية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية مقابل تمسك دولها بإنقاذ نموذجها الاقتصادي أو إسعافه على الخروج من أزماته وآخرها الأزمة العالمية الأخيرة.
لم يعد لبنان جزيرة معزولة عن عواصف تغيير الأنظمة أو إصلاحها، وهو بالأساس لم يكن كذلك كما يصور البعض، بالعكس كان أكثر الأنظمة التقاطا للمتغيرات القريبة والبعيدة، فبالحرب العالمية الأولى تم تكوينه، وبالصراع البريطاني الفرنسي نال استقلاله، وتبدلت سياساته الخارجية مع المد الناصري، وانقسم على نفسه بعد هزيمة 1967، وتمزق بعد كمب ديفيد وتفشي العصر الإسرائيلي، وجرى ترميمه (في الطائف) مع انتهاء الحرب الباردة ولحظة المحاولة الأميركية الأولى لبناء نظام عالمي جديد، ورأينا ما حدث له مع مشروع الشرق الأوسط الكبير للمحافظين للجدد، وكيف كان بعد فشل هذا المشروع.
كيف سيكون لبنان بعد الانتفاضات العربية، مع أن الإجابة لن تكتمل بانتظار اكتمال عقد التغيير العربي، إلا أنه يمكن منذ الآن تحديد الملامح المقبلة لهذا اللبنان، وفق التصور الآتي:
1- لم يطالب المصريون في انتفاضتهم شطب معاهدة كمب ديفيد أو إعلان الحرب على العدو، لكن موقفهم كان مثل التونسيين هو السؤال عن جدوى الخدمات والتنازلات التي يقدمها بلديهما إلى "إسرائيل"، وربطها بطريقة مباشرة بالمأساة التي لحقت بهم من جهة واستمرار نظامي بلديهما من جهة أخرى. من هنا، لا جدال أن الانتفاضات العربية وضعت نهاية لزمن كانت فيه أنظمة عربية تتطوع في توفير الخدمات المجانية للعدو على كل الصعد.
2- رأس المقاومة في لبنان كان مطلوبا من الأنظمة العربية التي أسقطتها شعوبها، والكل يذكر أدوارها في التآمر على المقاومة مع أنظمة عربية أخرى تتربص بها الآن الانتفاضات شعبية، لذا، ليست الثورات العربية بوارد التفريط بعناصر القوة العربية وبالتحديد بالمقاومة، ولن تقدم مثل هذه الخدمة للعدو على طبق المحكمة الدولية أو الفتنة المذهبية كما يتوهم البعض في لبنان.
3- من ينتفض ضد الفساد والاستبداد ويفتدي كرامته ب 100 شهيد في تونس و350 شهيدا في مصر والآلاف في ليبيا والبحرين واليمن، لن يقبل أن يظل الشعب الفلسطيني الشقيق مستفردا من العدو ومتروكا لطغيانه واحتلاله وحصاره وقمعه وإرهابه.
4- لقد شكلت منذ الآن الانتفاضات الشعبية في العالم العربي فضاء لقيم عربية استولدتها من معاناتها الطويلة في ظل حكم أنظمة استبدادية فاسدة، وهذه القيم التي تتمسك بحقوق المواطن والحرية وحماية المال العام وغيرها، ستكون في صلب عملية إعادة تعريف المشتركات العربية ولا يمكن استثنائها بدعوى مذهبية وطائفية، وقد يشكل موقف الشعوب العربية من الثورة البحرينية امتحانا لعالمية القيم المحمولة على ظهر الانتفاضات العربية ولعروبة هذه القيم أيضا.
إلى الآن على هذا تشكل الانتفاضات العربية وجه لبنان الجديد، وإلى أن يكتمل عقد هذه الانتفاضات وكيفية استيعابها من القوى اللبنانية التي تفاعلت بصدق وشوق مع هذه الانتفاضات سيكون لبنان آخر.
يحاول البعض النأي (باجتهاده التنظيري) بلبنان عن تداعيات الانتفاضات الشعبية ضد الحكام العرب وأنظمتهم، والحجة التي يتسلّح بها هذا البعض، هي أن الانقسامات الطائفية في لبنان كفيلة بتحصين لبنان من أي تحرك شعبي كبير شبيه بما حدث في تونس ومصر ويجري حاليا في ليبيا والبحرين واليمن والأردن، وتقوم هذه الحجة على أن اللعبة الطائفية قادرة على إفساد أي محاولة لبناء كتلة شعبية وازنة وعابرة للطوائف وتلتحم فيما بينها سياسيا حول مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية تعدّل - في حال الأخذ بها- من بنية النظام السائد.
على أرض الواقع اللبناني، هناك الكثير من الوقائع والتجارب التي تؤيد مثل هذا الاعتقاد أو هذا التوقع، فقد حدث أن العديد من الحركات والمشاريع والمحاولات الإصلاحية كان قد جرى إحباطها بتطييفها، فلم ينظر إليها من زاوية قيمتها في تحديث الدولة ومؤسساتها أو خدمة المواطن واحترام حقوقه أو في آثارها البعيدة في تجذير الولاء الوطني والسمو به على الولاءات ما دون وطنية من فئوية وجهوية، إنما كان النظر إليها من ميزان الربح والخسارة الذي يضع معاييره المستفيدون (وهم قلة قليلة) من اللعبة الطائفية، وعلى هذا، لم تغادر عملية الإصلاح في لبنان بمعناها الواسع الحبر المكتوبة به على البيانات الوزارية والبرامج الحزبية، وبالمقابل تركت الدولة نهبا للترهل والفساد والتقادم والتخلف عن مواكبة المتطلبات المستجدة ليدفع السواد الأعظم من اللبنانيين أثمانا مرتفعة من نمط عيشهم وصحتهم ورفاهيتهم وازدهارهم نتيجة الالتفاف على هذا الاستحقاق.
لكن، بعد الذي كان في تونس ومصر، وسيكون في أكثر من بلد عربي، لقد سقط مثل هذا الاعتقاد عن لبنان أو سيسقط، ومن السذاجة أن يتمسك هذا البعض باعتقاده ولبنان في قلب العالم العربي، في حين أن بلدانا بعيدة تقع على الضفاف الأخرى من هذا العالم بدأت منذ الآن تستعد لاحتواء أو لاستقبال الحدث العربي الكبير، ليس في "إسرائيل" وحسب ,إنما في آسيا الوسطى وفي باكستان وايضا في روسيا وأوروبا وأميركا.
لأن المعنى الذي تفيض به الانتفاضات العربية ليس مقتصرا على الاستبداد أو الفساد أو العلاقة غير المتوازنة مع العدو أو مع الغرب أو شغفا بقيم هذا الغرب حول حقوق الإنسان وتداول السلطة وغيرها من مفردات المستخدمة للتدخل والعبث بشؤون البلدان العربية، وإنما أيضا هي ثورة على النموذج الغربي المعمول به في بلداننا (النيوليبرالية)، ومن قال أن الشعوب الأوربية أو الأميركية ستقبل بعد اليوم بكل سهولة التخلي عن مكاسبها في الرفاهية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية مقابل تمسك دولها بإنقاذ نموذجها الاقتصادي أو إسعافه على الخروج من أزماته وآخرها الأزمة العالمية الأخيرة.
لم يعد لبنان جزيرة معزولة عن عواصف تغيير الأنظمة أو إصلاحها، وهو بالأساس لم يكن كذلك كما يصور البعض، بالعكس كان أكثر الأنظمة التقاطا للمتغيرات القريبة والبعيدة، فبالحرب العالمية الأولى تم تكوينه، وبالصراع البريطاني الفرنسي نال استقلاله، وتبدلت سياساته الخارجية مع المد الناصري، وانقسم على نفسه بعد هزيمة 1967، وتمزق بعد كمب ديفيد وتفشي العصر الإسرائيلي، وجرى ترميمه (في الطائف) مع انتهاء الحرب الباردة ولحظة المحاولة الأميركية الأولى لبناء نظام عالمي جديد، ورأينا ما حدث له مع مشروع الشرق الأوسط الكبير للمحافظين للجدد، وكيف كان بعد فشل هذا المشروع.
كيف سيكون لبنان بعد الانتفاضات العربية، مع أن الإجابة لن تكتمل بانتظار اكتمال عقد التغيير العربي، إلا أنه يمكن منذ الآن تحديد الملامح المقبلة لهذا اللبنان، وفق التصور الآتي:
1- لم يطالب المصريون في انتفاضتهم شطب معاهدة كمب ديفيد أو إعلان الحرب على العدو، لكن موقفهم كان مثل التونسيين هو السؤال عن جدوى الخدمات والتنازلات التي يقدمها بلديهما إلى "إسرائيل"، وربطها بطريقة مباشرة بالمأساة التي لحقت بهم من جهة واستمرار نظامي بلديهما من جهة أخرى. من هنا، لا جدال أن الانتفاضات العربية وضعت نهاية لزمن كانت فيه أنظمة عربية تتطوع في توفير الخدمات المجانية للعدو على كل الصعد.
2- رأس المقاومة في لبنان كان مطلوبا من الأنظمة العربية التي أسقطتها شعوبها، والكل يذكر أدوارها في التآمر على المقاومة مع أنظمة عربية أخرى تتربص بها الآن الانتفاضات شعبية، لذا، ليست الثورات العربية بوارد التفريط بعناصر القوة العربية وبالتحديد بالمقاومة، ولن تقدم مثل هذه الخدمة للعدو على طبق المحكمة الدولية أو الفتنة المذهبية كما يتوهم البعض في لبنان.
3- من ينتفض ضد الفساد والاستبداد ويفتدي كرامته ب 100 شهيد في تونس و350 شهيدا في مصر والآلاف في ليبيا والبحرين واليمن، لن يقبل أن يظل الشعب الفلسطيني الشقيق مستفردا من العدو ومتروكا لطغيانه واحتلاله وحصاره وقمعه وإرهابه.
4- لقد شكلت منذ الآن الانتفاضات الشعبية في العالم العربي فضاء لقيم عربية استولدتها من معاناتها الطويلة في ظل حكم أنظمة استبدادية فاسدة، وهذه القيم التي تتمسك بحقوق المواطن والحرية وحماية المال العام وغيرها، ستكون في صلب عملية إعادة تعريف المشتركات العربية ولا يمكن استثنائها بدعوى مذهبية وطائفية، وقد يشكل موقف الشعوب العربية من الثورة البحرينية امتحانا لعالمية القيم المحمولة على ظهر الانتفاضات العربية ولعروبة هذه القيم أيضا.
إلى الآن على هذا تشكل الانتفاضات العربية وجه لبنان الجديد، وإلى أن يكتمل عقد هذه الانتفاضات وكيفية استيعابها من القوى اللبنانية التي تفاعلت بصدق وشوق مع هذه الانتفاضات سيكون لبنان آخر.