ارشيف من :خاص

حين يصبح العسكر في خدمة السياسة في واشنطن: تنظير أميركي للفشل في فرض حظر للطيران فوق ليبيا

حين يصبح العسكر في خدمة السياسة في واشنطن: تنظير أميركي للفشل في فرض حظر للطيران فوق ليبيا
إعداد : علي شهاب
انتقلت دوائر صناعة الرأي العام في واشنطن الى التنظير لتردد الإدارة الأميركية في فرض حظر جوي على نظام معمر القذافي، وهي التي تدّعي مؤخرا دعم الحركات التحررية في العالم العربي، بهدف التعمية على قرار سياسي يعكس من جهة عجز الولايات المتحدة امام تساقط أحجار الدومينو في المنطقة من أنظمة كانت حليفة حتى الأمس القريب، ويؤشر الى ازدواجية المعايير في سياسة البيت الأبيض حين يتعلق الأمر بمصلحة نفطية كما هو الحال في ليبيا. في هذا السياق، برزت الدراسة التي وضعها الخبير في الشؤون العسكرية والأمنية الباحث في معهد واشنطن مايكل نايتس الذي يعدّد التحديات التي يطرحها تنفيذ قواعد حظر الطيران وما يتصل بها، بالاستناد الى الدروس المستفادة من العمليات المشابهة التي حدثت في التسعينات من القرن العشرين.

" منذ عشرين عاماً، ومع نهاية "حرب الخليج" عام 1991، ساهم فرض منطقة حظر الطيران بتفويض من الأمم المتحدة في تشكيل ملاذ آمن للأكراد العراقيين، ما نتج عنه تحرير ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص من ديكتاتورية حزب البعث قبل عقد كامل من تحرير بقية العراق. وفي عام 1992، أقيمت مناطق جديدة لحظر الطيران وقيادة السيارات في جنوب العراق والبلقان بتفويض من الأمم المتحدة لاحتواء أنظمة مارقة وحماية المدنيين من قمع الحكومة. ونظراً للتطورات الراهنة في ليبيا، فمن الطبيعي التفكير في استخدام هذه الخيارات مرة أخرى. غير أن التاريخ يوضح أن مناطق الاستثناء هي عمليات تتطلب براعة على نحو خاص. وإذا لم يتم إعدادها على النحو الأمثل فإنها يمكن أن تكون أسوأ مما لو لم تحدث، مما يشير إلى الضعف بدلاً من الحسم، بينما يتم في الوقت نفسه توفير القليل من القيمة الوقائية الحقيقية للمدنيين.
خلال الانتفاضة العراقية التي أعقبت "حرب الخليج" عام 1991، فقد نظام صدام حسين لفترة وجيزة السيطرة على أربع عشرة محافظة من محافظات البلاد الثماني عشرة. وعلى الرغم من أن توقيع إتفاقية وقف إطلاق النار بين بغداد وقوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة في مدينة صفوان (في أقصى جنوب العراق) قد حدد بقاء جميع الطائرات العراقية ذات الأجنحة الثابتة على الأرض، إلا أنه تم استثناء المروحيات وهو ما ثبت الأهمية الحاسمة لجهود النظام لسحق الانتفاضة واستعادة سيطرته على تلك المحافظات.
ولو قام التحالف بفرض حظرعلى عمليات المروحيات ووضع قيود على التحركات واسعة النطاق للقوات البرية كان من شأن ذلك، وهذا قابل للنقاش، أن يسقط النظام ويوفر الكثير من المعاناة التي انتشرت على نطاق واسع بسبب القمع الوحشي.
وفي الواقع، إن فشل التحالف في دعم الانتفاضة لم يُنس أو يُسامح أبداً في بعض أجزاء جنوب العراق.
وفي 5 نيسان/أبريل 1991، عمل العديد من شركاء التحالف من أجل المصادقة على قرار مجلس الأمن رقم 688، الذي طالب بأن تنهي بغداد قمعها للأكراد، وبادر بعملية إغاثة دولية في كردستان العراقية. وقد ضمن أيضاً منطقة حظر طيران بقيادة الولايات المتحدة بحيث تغطي جميع الأصول الجوية العراقية (سواء ذات الأجنحة الثابتة أو الدوَّارة) فوق خط عرض 36 شمالاً، بالإضافة إلى ضمان منطقة عزل لردع أو تقليل الغارات البرية أو الهجمات المدفعية على الملاذات الكردية الآمنة. وتحت مسمى "عملية توفير الراحة"، لم تشمل المهمة قوات الحلفاء الجوية فحسب، بل أيضاً نشر القوات البرية الأمريكية بحجم لواء عسكري في شمال العراق لمدة أربعة أشهر، وكذلك وجود "القوات الخاصة" فيما بعد. وبإلإشتراك مع الجهود العسكرية التي قامت بها قوات البشمركة الكردية، أسفرت العملية عن انسحاب القوات العراقية وراء خط تحصني في تشرين الأول/أكتوبر 1991.
ولم تحدث الجهود المقابلة لتغطية جنوب العراق حتى 26 آب/أغسطس 1992، عندما استخدم التحالف القرار رقم 688 للإعلان عن منطقة حظر طيران تغطي جميع الأصول الجوية العراقية تحت خط عرض 33 جنوباً. وقد كان العامل المحرك وراء ذلك القرار هو استئناف صدّام للهجمات ضد القرى الشيعية مستخدماً طائرات ذات أجنحة ثابتة. غير أن المنطقة لم تَحمِ أبداً المدنيين في الجنوب بصورة حقيقية، لأن القوات البرية للنظام كانت ما تزال قادرة على تدمير تلك الطوائف بالمدفعية والوسائل الأخرى. وكما أخبر أحد العراقيين مجلة "التايم" في 29 آذار/مارس 1993، "عندما رأينا طائرات التحالف تتجاهل الرشاشات التي كانت تقتلنا وتضرب فقط الصواريخ التي هددت طائراتهم في العام الماضي، أدركنا أنه قد تم التخلي عنا".
وفي 15 تشرين الأول/أكتوبر 1994، فرض قرار مجلس الأمن رقم 949 منطقة حظر قيادة السيارات التي تمنع التعزيزات العسكرية العراقية جنوب خط العرض الثالث والثلاثين. بيد ان ذلك كان استجابة لتهديد صدّام بإعادة غزو الكويت وليس آلية لحماية المدنيين العراقيين.
وبالمثل، فإن عمليات حظر الطيران التي فُرضت في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 و 1995، بذلت قصارى الجهد لحماية المدنيين ضد أعمال القمع، وعملت في المقام الأول كوسيلة لإظهار العزم وبناء إجماع في الرأي نحو القيام بعمليات عسكرية مستقبلية.
قيود على مناطق حظر الطيران
قد يبدو نجاح منطقة حظر الطيران فوق شمال العراق محفزاً على اتباع النهج نفسه مع الحالات الراهنة مثل ليبيا، التي ربما ما يزال نظامها المترنح قادراً على الهجوم على جيوب التمرد وإحداث معاناة إنسانية هائلة. ورغم ذلك، فإن الاختلافات بين العراق عام 1991 وليبيا اليوم واضحة.
أولاً، كان نظام صدام قد خاض للتو حرباً كبرى مع القوات التي تقودها الولايات المتحدة، بينما كان التقارب هو ركيزة العلاقات الأمريكية الليبية الأخيرة. وضِمن سياق الانتفاضات المعادية للحكومة، تُحوِّل مناطق حظر الطيران بفاعلية القوة الأجنبية إلى مقاتل، وتعرضها كإنسانية بحتة بطبيعتها تتوفر فيها المصداقية. وبناء أضف الى ذلك، تُستخدم هذه المناطق بصورة أفضل كوسيلة لتقليص سيادة النظام الذي كان للولايات المتحدة معه علاقات شبه حربية بالفعل.
وعلاوة على ذلك، عندما أقيمت منطقة حظر الطيران في شمال البلاد، كانت القوات العسكرية الأمريكية في الجنوب ما تزال تحتل ما يقرب من ثُمُن الأراضي العراقية. كما أن إقامة ملاذات كردية آمنة قد تطلبت المزيد من نشر قوات برية أمريكية وتحالفية كبيرة لردع غارات النظام. ربما تكون عمليات نشر برية مشابهة في ليبيا غير مطروحة على الطاولة. والأهم من ذلك، كان باستطاعة الولايات المتحدة الاعتماد على قرارات الأمم المتحدة التي صيغت بقوة لدعم أفعالها في عام 1991، بينما لا توجد مثل هذه المجموعة من المستندات لاستخدامها اليوم.
وبالإضافة إلى كون مناطق حظر الطيران وحظر قيادة السيارات شديدة الصلة بالسياق، يُعرف أنه من الصعب تطبيق القواعد المتعلقة بتنفيذ الحظر في هذه المناطق، حيث أن قواعد الاشتباك التي تنظم المهمة يجب أن تُفهم على نحو استثنائي، كما يتعيّن على القادة العسكريين الحصول على دعم سياسي قوي عند عملهم في إطار القواعد. كما أن أية مجموعة من قواعد الاشتباك يجب أن تشمل قائمة بالأعمال المخالفة (المعروفة باسم "خطأ قواعد الاشتباك") بالإضافة إلى "خيارات الرد" (وهي مجموعة من الأهداف الثأرية المتفق عليها مسبقاً) و "معدل الرد" (الذي ينص على الشدة التي تتم بموجبها معاقبة المخالف لتجاوزه المنطقة). وقد احتاجت القوات الأمريكية إلى اثنتي عشر عاماً من الدوريات في منطقة حظر الطيران في العراق لاتقان النظام، وحتى في ذلك الحين ولَّدت المناطق بعض الجدل لأنها غالباً ما تطلبت ضباطاً صغاراً نسبياً لاستخدام طاقاتهم في تفسير قواعد الاشتباك.
وعموماً، فإن عدواً شرساً، مثل صدّام وربما نظام القذافي، سوف يختبر بانتظام قواعد الاشتباك، وربما تحتاج القوة الدورية إلى الثأر بشكل غير متناسب لردع الأعمال المحظورة، بما في ذلك الهجمات على المدنيين وقوات التمرد. إن أية قواعد للاشتباك، خاصة تلك التي تنظم مناطق حظر قيادة السيارات، قد تكون عرضة لتصعيد غير منضبط، مما يجر القوة الدورية إلى القيام بعمليات عسكرية أكبر من تلك التي كان يُقصد منها في البداية. كما أن الأضرار الجانبية في صفوف المدنيين والقوات الصديقة هي دائماً في خطر كما حدث في 14 نيسان/أبريل 1994، عندما دمرت طائرة أمريكية مروحيتين أمريكيتين في منطقة حظر الطيران في شمال العراق، أدت إلى مقتل ستة وعشرين من أفراد التحالف والعراقيين.
دلالات للسياسة الأمريكية
يبدو أن الوضع العراقي في عام 1991 يشير إلى الفائدة المحتملة في مناطق حظر الطيران وقيادة السيارات في ليبيا اليوم. فقبل عشرين عاماً من الأسبوع المنتهي في السادس والعشرين من شباط/فبراير، ربما كانت مناطق من هذا القبيل قد رجحت كفة ميزان الانتفاضة العراقية، وأسقطت نظاماً لا يحظى بشعبية، ومنعت معاناة كبيرة، وكسبت الامتنان العراقي تجاه الولايات المتحدة. وفي حالة كردستان العراقية، من الواضح أن مناطق العزل البرية والجوية الغربية قد خففت وقوع كارثة إنسانية.
يُظهر التاريخ أيضاً أن فرض مناطق حظر طيران هو منحدر زلق. فمن السهل بدء مثل هذه المهام لكن من الصعب جداً إنهاؤها. فإذا تم إنشاء منطقة في ليبيا لحماية أحد جيوب التمرد وصمد نظام القذافي في مواجهة الثوار، فإن الولايات المتحدة ستحتاج إلى أن تكون حذرة بحيث لا ترث حماية مفتوحة الأجل لدولة صغيرة جديدة.
وتقدم مناطق حظر الطيران في التسعينات من القرن الماضي مجموعة من الدروس العملية للمخططين الذين يوازنون بين مزايا ومساوئ فرض مثل هذه العمليات اليوم: 
ـ إسعَ إلى الحصول على تفويض واضح من قبل مجلس الأمن الدولي، الذي قدم الأساس لمناطق حظر طيران سابقة. 
ـ اجعل المنع الذي تخوله مناطق حظر الطيران وقيادة السيارات واضحاً قدر الإمكان، وهو منع التحرك واستخدام جميع القوات العسكرية التي يمكن إدراكها ضمن مناطق محددة جغرافياً. لا تستثنِ أية أشكال من الأصول سواء ذات الأجنحة الثابتة أو المروحيات، ولا المدفعية. فعلى سبيل المثال، منع قرار مجلس الأمن رقم 816 جميع أنواع النقل الجوي العسكري والمدني في البوسنة والهرسك التي لم تتم المصادقة عليها صراحة من قبل الضباط المسيطرين على الملاحة الجوية من قبل الأمم المتحدة، مما قلل من الفجوات المحتملة وخطر الأضرار الجانبية. يجب على المخططين أن يرسموا أيضاً حدود المنطقة وفقاً لخطوط الفصل الطبيعية، جغرافية كانت أم قبلية أم اجتماعية، بدلاً من الخصائص الاعتباطية مثل خطوط الطول أو العرض. 
ـ تقديم مخرج من الالتزام مفتوح الأجل، والسعي إلى الحصول على قرار من قبل الأمم المتحدة يتطلب التجديد في غضون مهلة زمنية محددة.
وإذا قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها السعي إلى إنفاذ القواعد في مناطق حظر في ليبيا، فبإمكان هذه الدروس وغيرها أن تزيد من فرصة قابلية الخيارات العسكرية على توفير وسائل معقولة وقابلة للضبط لحماية المدنيين من القمع".
2011-03-03