ارشيف من :خاص

الثورات العربية... إرباك كبير يضاف إلى إرباكات الغرب

الثورات العربية... إرباك كبير يضاف إلى إرباكات الغرب
عقيل الشيخ حسين
هنالك جنون العظمة الذي تظهر أعراضه عند الأفراد، أياً تكن المؤسسات التي يحتلون مواقع فيها، وأياً يكن موقعهم في أسفل مواقع القرار أو أعلاها. ولهذا الجنون تأثيرات مهلكة على المحيطين بالمصابين به، وعلى المصابين به أنفسهم.
وإذا ما ضربنا بعرض الحائط التوجهات السائدة في بعض العلوم الإنسانية التي تعتبر هذه الظاهرة حالة مرضية تعفي المصابين بها من المسؤولية ـ  يمكن القول بأن هذا الجنون مؤسس على جنون آخر هو ما يمكن أن نسميه بـ "جنون المعرفة": من فرعون إلى يوليوس قيصر والأعداد الغفيرة غيرهم من الأشخاص الذين يتصرفون على أساس أنهم آلهة، المشكلة الأكثر عمقاً في بنيتهم النفسية هي في كونهم يبنون تصورات للعالم بعيدة عن الواقع، أو مفتقرة إلى الحكمة التي يستدعيها عجز الفكر البشري عن تكوين إدراك مطابق للواقع.
ومع ذلك، يطلقون على تصوراتهم تلك اسم "المعرفة"، وانطلاقاً من تلك المعرفة المدعاة يتصرفون ويتعاملون وتزداد ثقتهم بعلمهم، وبالتالي بأنفسهم... وبعظمتهم.
هذه المقدمة، الفلسفية، إذا كان لا بد من توصيف لها، ضرورية لمقاربة تسعى، فيما يتعدى السؤال عما يجري في العالم العربي حالياً على مستوى الثورات التي تعصف به، وفيما يتعدى مآلات هذه الثورات، إلى تلمس انعكاساتها على الغرب وعلى قمته المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية.
وليس المقصود بالانعكاسات، تلك المتمثلة بالارتباك الذي هز أنظمة الحكم في الغرب وأدى، مثلاً، إلى إقالة وزيرة الخارجية الفرنسية بسبب مواقف داعمة لنظام زين العابدين بن علي في لحظاته الأخيرة، أو بالحرج الذي تعيشه جميع الأنظمة الحاكمة في بلدان الغرب نتيجة انكشاف زيف إدعاتها بخصوص الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وهي التي كانت تقيم علاقات وثيقة مع أنظمة عربية ديكتاتورية وفاسدة.
المقصود بالانعكاسات هو تحديداً تلك التي تتصل بالعقل الغربي، أداة المعرفة، وتحديداً ذلك العقل الذي يحكم دوائر القرار العليا، فيما يتصل بما يسمونه القدرة على التنبؤ ـ بمعنى تكوين ما يمكن تسميته بالمعرفة الاستباقية للمستقبل.
فالمفترض بذلك العقل المتسلح بالتجربة وبنتائجها اليقينية التي تسمح بالتحكم بالأحداث أن يستخدم أدواته في توجيه الأحداث وبرمجتها بالطريقة التي تعمل بها اية آلة معقدة يجري تلقيمها بمواد أولية متعددة ومتنوعة تتحول، بكبسة زر، إلى سيارة أو طائرة أو اية آلة أو سلعة أخرى، وبشكل مطابق تماماً لصورتها في ذهن المخترع.
والظاهر أن ذلك العقل الذي نجح في برمجة الأنظمة العربية بالشكل الذي أخذته منذ انكفاء ما كان يسمى بحركة التحرر الوطني وصولاً إلى صيغة الاعتدال التي شكلت غطاءً لانضمام هذه الأنظمة إلى الحلف الأميركي الصهيوني، قد بلغت ثقته بنفسه حداً جعله يعتبر أن هذه الصيغة هي من نوع المعادلات الفيزيائية أو الكيميائية غير القابلة للانعكاس، وأنها محكومة بالسير نحو المزيد والمزيد من الاعتدال، بالشكل الأكثر تلاؤماً مع المصالح الأميركية.
مختصر الكلام أن العقل الغربي لم يكن في برنامجه متسع لاحتمال قيام ثورة شعبية في هذا البلد العربي المعتدل أو ذاك. ربما بسبب الاقتناع، في حالة الثقافات التي يعتبرونها متخلفة، بصحة المقولة القائلة "جوع كلبك يتبعك"، وهو التجويع الذي طالما فرضه الغرب على بلدان العالم، وخصوصاً على البلاد العربية، بألف شكل وصورة، بدأً بنهب المواد الأولية وانتهاءً بفرض نماذج "تنمية" تخريبية من النوع الذي يتخصص به الصندوق والبنك الدوليان.
من هنا، نفهم "المفاجأة" التي أصيب بها الغرب، وهو يرى شعوب البلدان العربية تنتفض على الحكام بكل هذا الإجماع والحدة والتضحية.
ولا يخفى أن هذه المفاجأة هي من نوع المفاجأة التي أصيبت بها "إسرائيل" عندما رأت جيشها المفترض به، نظراً لدقة التصاميم والبرامج القائمة على المعرفة الدقيقة، أنه جيش "لا يقهر"، عاجزاً ليس فقط عن اجتثاث حزب الله وحماس، بل أيضاً عن حماية عمق "إسرائيل" من صواريخ حزب الله وحماس.
وعلى غرار لجنة فينوغراد التي شكلت للتحقيق في أسباب الفشل السياسي والعسكري الإسرائيلي، تلوح في آفاق الغرب ملامح لجان مشابهة من المتوقع أن تبدأ بالتشكل للإجابة على أسئلة من النوع نفسه.
بالتوازي مع ذلك، بدأت التصدعات بالبروز بين البيت الأبيض ووكالات الاستخبارات الأميركية ووزارة الخارجية، وكذا الأمر في البلدان الأوروبية المعنية أكثر من غيرها بالتطورات الجارية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث يتنصل كل فريق من المسؤولية عن الفشل ويلقي التبعات على غيره، مع اعتراف الجميع بأنهم ليسوا منجمين أو مبصرين، وما ينطوي عليه ذلك من اعتراف بقصور علمهم ومعرفتهم وعظمتهم المبنية على ذلك العلم وتلك المعرفة.
فما يجري هو، بشكل أو بآخر، عبارة عن إعلان إفلاس للسياسات الغربية في المنطقة. والأخطر من ذلك ـ لأن هذه السياسات هي جزء من نظام شامل ومتماسك ـ أن هذا الإفلاس هو تعبير عن إفلاس شامل من تجلياته فشل حروب أميركا وحلفائها، والانهيارات الاقتصادية والمالية، وما يحيط بها من انهيارات على مختلف المستويات والأصعدة، وعلى قمتها الانهيار المعرفي، الناشيء عن جنون المعرفة وسليله جنون العظمة.
لا يعرف أحد كم ستطول فترة مخاض الثورات العربية. فهي قد تشهد تراجعاً هنا أو مراوحة هناك. لكنها ـ على ما هي عليه ـ وجهت ضربة مؤلمة لعقل مراكز القرار الأميركية والغربية بوجه عام. وحددت، بالتالي مسار حضارة الغرب نحو المزيد من التصدع على طريق الانهيار.
فكيف سيكون الأمر عندما تهتدي هذه الثورات، بعد أن تطهر نفسها من الأفكار والقيم وأنماط العيش الساقطة والمستوردة من بلدان المنشأ على أساس أنها محايدة أو لا سياسية... وتهتدي إلى الطريق الوحيد المستقيم المفضي إلى الانتصار. أي إلى الطريق الذي انحرف عنه المسلمون، ووصلوا نتيجة لهذا الانحراف إلى ما يتخبط فيه القسم الأكبر منهم في أوضاع لا ترضي الله والرسول وصالح المؤمنين.
2011-03-04